الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

اللوحة بوصفها حلماً

اللوحة بوصفها حلماً
8 يناير 2014 21:30
رغم المحن التي مرت به بلاده خلال أربعة عقود، لا يزال الفنان التشكيلي العراقي حميد ياسين رابضاً في الداخل العراقي، يواجه صور الخراب والقتل اليومي ورثاثة الأشياء من حوله، ولا يملك إلاّ فرشاته ولوحاته التي تمنحه سر البقاء في عالم بدا غريباً في تقلّباته المؤذية. ولد حميد ياسين في تموز / يوليو عام 1941م ببغداد. بدأ الرسم في حدود عام 1957، ليدرس في (معهد الفنون الجميلة) ببغداد، ويدرس تالياً علم النفس في (كلية الآداب). عرض أولى لوحاته في (قاعة الواسطي) ببغداد عام 1961، وصار بعد خمسة أعوام عضواً في (جمعية الفنانين العراقيين)، وعمل في مجال التدريس، والأهم من ذلك في مجال الكتابة الفنية والموسيقية والصحفية. وفي عام 1969 أسهم في تأسيس (دار ثقافة الأطفال)، وبعد خمسة أعوام أسهم بتأسيس (جمعية الخطاطين العراقيين) ببغداد. وفي عام 1974 سافر إلى باريس لإقامة أول معرض له خارج العراق على قاعة (غاليري ميليه)، لتتوالى معارضه بعد ذلك. رغم أن الفنان الكبير (فائق حسن) لا يميل إلى اللوحة التجريدية، لكنه قال لحميد ياسين المولع منذ بداياته بالتجريد: “إذا استطعت أن ترسم تجريدات على هذا المستوى بشكل دائم فأنا أنحاز إليك علناً”، وبدا كلام الفنان الراحل شهادة تاريخية قيلت بحق تجربة حميد ياسين التي كانت فتية في حينها لكنه شق طريقه في الرؤية والمنهج ذاتيهما حتى أصبحت تجربته الفنية مشروعاً متكامل الخطاب... “الاتحاد الثقافي” التقى الفنان حميد ياسين في بغداد فكان هذا الحوار: ? أيهما اختارك لتكون رساماً، رغبتك في الحياة أم رغبة الصدفة لتكون رساماً؟ ?? في طفولتي كنتُ أحاكي كل ما يقع أمامي بالرسم، وبشكل خاص تلك الأشياء التي تثير حواسي بالجمال كالشجر والطيور والقمر، وحينذاك كنتُ لا أعرف كيف يمكن أن أكون رساماً، ولا يوجد في محيطي الاجتماعي من يعلّمني الرسم، وكنتُ لا أميل إلى تقليد الصور المرسومة والفوتوغرافية، بل كان يثيرني الأداء المتقن في كل شيء، وفي المدرسة الابتدائية كنتُ أفضل الرسم على الرياضة التي تجد ترحيباً أوسع من قبل الإدارة والطلاب. وعلى إثر رسومي التي كنت أنفذها على الورق بقلم الرصاص والأقلام الدهنية فأعاقب من قبل مدير المدرسة الذي يشجع على الرياضة أكثر من الرسم، ولأني كنتُ أعلق صوري الورقية على جدران الصفوف وهي صور متخيلة للمغني الكبير (محمد عبدالوهاب)، و(جيمس واط)، مكتشف قوة البخار، لا أنسى التشجيع الجديد الذي كان يرعاني به المؤرخ العراقي (جعفر الخليلي) الذي كان معلماً في مدرستي آنذاك، ويدافع عني أمام إدارة المدرسة لاعتقاده بأني موهبة فنية لا بد أنها ستظهر يوماً ما، ولعل اطلاعي على السيرة العلمية للصبي العبقري (جيمس واط)، مكتشف قوة البخار المنشورة سيرته في (كتاب التاريخ) للصف الرابع الابتدائي قد ألهب في نفسي حماساً على الرسم والابتداع، وكانت آنذاك تشغلني رسوم القطط والطيور. ? ما اللوحة الأولى التي خرجت من تحت أصابعك وقلت عنها إنها لوحتي الأولى؟ ?? أول لوحة رسمتها يوم لم أكن قد امتلكت أسلوباً خاصاً بالتعبير، بل كانت تقليداً لرسوم الفنان العراقي الرائد (إسماعيل الشيخلي) وهي لوحة (العلابات)، إذ كنت مندهشاً بذلك العمود الطويل من العلب الخشبية المملوءة باللبن الرائب والمنتصب على رأس فتاة كانت تبيع سلعتها على البيوت، وكنتُ قبل ذلك أرسم بقلم الرصاص وتدرجه الضوئي على الورق؛ الوجوه والطيور والمنائر والزوارق، وكانت رسومي تحظى بإعجاب من يراها الأمر الذي جعلني أعتقد بأني أصبحت مؤهلاً للانضمام إلى جمعية الفنانين العراقيين يوم كان يرأسها النحّات (جواد سليم)، فتقدَّمت بطلب إلى الجمعية لغرض قبولي عضواً فيها فرفض طلبي لصغر سني، ولكن جواد سليم أوصى الفنان الرائد (سعد الطائي) الذي أخذ بيدي وشجعني، وقال لي يومها كلاما لا أنساه: “إن الفنان الناجح هو الذي استطاع أن يوفق بين أدواته والثقافة”، ودلّني على استخدام الأصباغ المائية والزيتية. وبعد ثلاثة أعوام من ذلك تقدّمت بثلاثة أعمال مرسومة بالأصباغ الزيتية ما زلتُ احتفظ بها حتى الآن قبلت على أثرها عضواً في جمعية الفنانين التشكيليين العراقيين، وكان يرأسها آنذاك الفنان الرائد (حافظ الدروبي)، ويوم قبولي عضواً في تلك الجمعية كنتُ انتظر بلهفة خروج مجلسها من اجتماعهم الدوري لأعرف النتيجة، فكان أول الذين غادروا صالة الاجتماع الفنان الرائد الكبير (فائق حسن) الذي شدَّ على يدي وصافحني وقال لي بالحرف الواحد: “أنت تعرف أن فائق حسن ضد التجريد أليس كذلك؟ ولكني أقول لك بصراحة: إذا استطعت أن ترسم تجريدات على هذا المستوى بشكل دائم فأنا أنحاز إليك علناً”. ? أيهما يتحكَّم في وجودك لحظة الرسم؛ ذهنك، مخيلتك، إحساسك، أم قدرة أخرى غير مفهومة؟ ?? إن وجودي لحظة الرسم يكون حسياً في غالب الأحيان، وتتدخل فيه عوامل غامضة، وما أنتجه خلال تلك اللحظات لم أكن قادراً على استرجاعه فيما بعد إذ أكون محكوماً بهيمنة العمل على نفسي وكأني أقوم بتطهير روحي أشعر منه بسعادة، كما وأشعر بأني غير قادر على استخدام لعبة التكرار، ذلك أن التكرار يعتبر هو الأسلوب المفضَّل لدى العديد من الفنانين العراقيين، لكنّي وجدت في الأسلوب سمة داخلية تولد بفعل الممارسة والخبرة، وفي السنين التالية وجدت توافقاً بين نوازعي الفنية وما قاله الناقد الأمريكي (جورج كوبلر) بأن “الفنان بشكل عام الذي يستخدم التكرار كأنه يطرق يومياً على ذاكرة المتلقين وحين يغادر الدنيا يصبح في موكب المنسيين”. أعمال نخبوية ? ما الذي يحرِّك ذوق المشاهد في اللوحة، شكلها، عمقها، موجوديتها إطارها أو بروازها، حجمها، لونها الطاغي، ألوانها الثانوية؟ ?? ما يحرك ذوق المتلقِّي ويثير لديه المتعة بالعمل الفني هو التركيب الضوئي للون الذي يتوافق مع إحساسه الفطري أولا عبر تمثل اللون في كل ما يراه من أشكال طبيعية ونباتية، ومن ثمة يرى كيف استحال اللون إلى موضوع معبّر عنه بالكيفيات التي تم فيها خلط الألوان وتمثلها بالدلالات الرمزية والتعبيرية، وفي مجمل ذلك كله يتأثر بالظواهر المحيطة بالعمل الفني، الموضوع مثلاً وعلاقته بالإنسان، وكذلك بالمعطيات الواقعية التي تقلل من أهمية القيمة الإبداعية للعمل كما أراها أنا لأنها ترتبط من حيث الجوهر بالحدث الواقعي الذي تتغير ضروراته بمرور الزمن، إذ يتجلى الأسلوب في التكنيك بوصفه القوة الدافعة لتذوق المتلقِّي العادي الذي يمكن أن يستمتع بمقطع من سمفونية لـ بتهوفن وموزارت عبر إحساسه الفطري، غير أنه لا يفضّل التواصل في الاستماع إلى تلك الأعمال الموسيقية لكونه يتوق إلى سماع موسيقى تعبر عن واقعه المعاش، ويرى نفسه في حالة من التعانق العميق مع الأغنية الشعبية لتأثره بالكلمات وصوت المغني أو بالطابع التراجيدي للأغنية دون أن يفطن إلى أهمية اللحن الذي قامت على أساسه الأغنية، إذ توجد هناك مؤثرات عدّة للوحة التشكيلية في المتلقّي لم ترتبط بإدراك سابق لماهية الفن ووظيفته مما يعني عندي أنه كلّما أتسعت رقعة الوعي الإبداعي أصبحت للفن قيمة جيدة، بل يصعب هنا لدى المتلقّي التمييز بين الفن الواقعي والفن الحديث بشكل عام والتجريد بشكل خاص لكونه معتاداً على نسق معين من الفهم يرتهن بالواقع التقليدي للحياة، وهنا لا أستطيع أن أتجاوز قضية مهمة وهي أن أغلب الذين يتذوقون أعمالي هم من المثقفين والفنانين والأدباء وفي بعض الأحيان أتلقى إعجاباً من شخص لا ثقافة له في الفن ولكنه يطالبني بالإفصاح عمّا تنطوي عليه اللوحة التي يراها فأعد ذلك مؤشراً جيداً من الممكن أن يكون سائداً كلّما استطعت أنا واستطاع غيري من الفنانين التشكيليين أن يجدوا تلك الصلة الجميلة معهم. ? مدارس عدّة غالباً ما يُصنف بها الفن التشكيلي، فإلام تنتمي أنت؟ ?? لا أستطيع القول بأني أنتمي إلى مدرسة معينة، إنما أمارس نوعاً من التجريد الذي أفرزته تجاربي الخاصَّة وفن التجريد اختزل الكثير من التجارب في فن الرسم حتى وصل إلى النتائج التي تحققت الآن وكانت قد جردت الأشياء من واقعها، وأضفت عليها الكثير من الخيال، ولعل التجريد في الفن الإسلامي المتمثل بالفكر الصوفي كان قد أحيا أثراً كبيراً في الفن العالمي والفن الأوربي الذي حقق تطورا ًكبيراً على صعيدي الفكر والأداء غير أن الخيال في الفن العراقي القديم كان ينهج التعبير عن وقائع حياتية ملموسة، أما أنا فقد اتجهت إلى التجريد الذي ينمو خارج الموضوع على أنه فن حسي خالص، بل إن الخيال هو أهم العوامل الإبداعية، وإذا عدنا إلى الفكر الفلسفي لوجدنا توافقاً كبيراً بين الفكر اليوناني القديم وفلسفة الجمال في فنون وادي الرافدين؛ إذ قال أرسطوطاليس: “ كان أرستوفان شاعراً جيداً، ولكنّه كان يضفي القليل من الخيال على الواقع، انما هوميروس هو الشاعر المبدع لكونه يضفي الكثير من الخيال على الواقع”. وهذا يعني إن الإبداع ليس في الموضوع، بل في الخيال الذي يحتل المقام الأول في الموضوع. ? ماذا يعني انتماء الفنان التشكيلي إلى عمله؟ ?? الفنان التشكيلي، وأي فنان آخر، إذا كان مستغرقاً في فنه لا ينتمي إليه وحسب، بل يتحد به إلى المستوى الذي ينسى فيه كل شيء على الإطلاق وفي مقدمة ذلك همومه وأفراحه، وهي حالة تفوق في تخطيها الحلم أثناء النوم إذ لربما يحلم المرء بأمر يؤثر فيه تأثيراً سلبياً، وعندما يصحو من حلمه يكون حزيناً بينما يشعر الفنان عندما ينجز عملاً ناجحاً بسرور عميق ورضا عن نفسه واختياراته ذلك الذي اعتبرته تطهيراً روحياً على حين يكون فيه الفنان التشكيلي قد أخضع وجوده العقلي والإنساني إلى الممارسة ومن ثمة الخبرة والأسلوب الذي يعبر به، إذ إن امتلاك الفنان التشكيلي للأسلوب هو الانتماء بحد ذاته للعمل التشكيلي على حين يتجذر العمل على جميع عوامل الإنجاز والعطاء بما ينطوي عليه من استحضار شامل لإمكانات الأداء والغوص إلى تلابيب التجربة وإيقاظ النبوءات الحية، بل وينسلخ عن كل شيء ليس له مكان في انتمائه للفن. ? لماذا، تحيل لوحاتك المتأمل إلى عالم فلسفي؟ ?? أظن أن لوحاتي تحيل المتلقي إلى الفلسفة لكونها تتألف من التجريد الذي أخصب المعاني الإبداعية وجعلها ترتمي بأحضان الفكر، ولا بد أنك لاحظت أن تجاربي التشكيلية تعانقت مع المفهوم الديكارتي للوجود حيث ألغي المفهوم التقليدي الذي يعتبر الفنون جاءت لتعبر عن الهموم الحياتية والسياسية والاجتماعية، أنا لا أستبعد دور الإنسان في رفض تلك الهموم بمختلف وسائل التعبير غير أن الفن من جانب آخر يعبر عن مشكلات شاملة. إن مشكلة الإنسان في الوجود هي مشكلة فلسفية على ما تحمله من دوافع تفكيرية لها مساس كبير بتطور الحضارة ولولا الفلسفة لما استطاع الإنسان أن يحقق تلك المنجزات العظيمة التي نراها اليوم، وأن اعتقادي بما تحمله الفنون من طاقة إبداعية هي بلا شك تحمل قيمة فلسفية، ولربما اهتمامي في الأداء كان سببا بحصولك على المتعة الجمالية في لوحاتي بينما يأخذ الأداء أطواراً مختلفة من الظهور حيث التعبير الحر الخالص في عصرنا الراهن الذي قلل من مستويات الأداء، فالرسم لم يعد على ذلك المستوى الذي عرفناه في أعمال (دافنشي) و(أنجلو) و(روبنز)، كما لم تعد الموسيقى كما عرفناها لدى (بتهوفن) و(موزارت)، إنما علينا الآن أن نفكِّر ملياً في ذلك الاستجلاء للحقائق التي وقف عليها إنساننا المعاصر، وأمام تلك المنجزات الخالدة التي أصبح يشعر إزاءها بأنه غير قادر على العطاء بذلك المستوى، فلا بد إذن من إدراك معرفة الجوهر الجمالي والإبداعي لفنوننا المعاصرة والحديثة. ? ما القصيدة التي كتبها رشيد ياسين وقادتك إلى رسم لوحة؟ ?? لا أستطيع القول بأن هناك قصيدة لشقيقي الشاعر الدكتور (رشيد ياسين) تأثرت بها وانخلعت على أعمالي، وإنما تأثرت بشعره عموماً الذي أوحى إليَّ بالعديد من الأفكار التي وجدت فيها قرباً إلى نفسي، وأنت تعلم أن الشعر هو فن التصوير الذهني والإيحاء اللغوي ومهما اتجه أو مال إلى التجريد ظل مرتبطاً بالإيحاء الفكري عبر اللغة، بل استطيع القول إني تأثرتُ بشقيقي الشاعر على صعيد الدقة في الأداء والبناء الشعري المتقن، وكانت مرجعياته تكمن في تراثنا القديم، وعرف عنه اعتزازه الكبير بالعمود الشعري الكلاسيكي، وكذلك بقوانين اللغة وآدابها، مع أنه كان أستاذا للفلسفة والنقد الحديث في (جامعة ميتشغان) في الولايات المتحدة الأمريكية، وهو من الشعراء الذين تأثروا بفنه الشعري، واطلاعه على مدارس الأدب الحديثة كالمدرسة التي يمثلها (بدر شاكر السياب)، والمدرسة التي يمثلها (عبدالرزاق عبدالواحد). لحظات.. لحظات ?في لوحتك (لحظات.. لحظات.. لحظات) يسير الزمن أفقياً هل هذا الزمن التجريدي في اللوحة أم الزمن الواقعي؟ ?? في عملي الذي أسميته (لحظات) يتجه الإيحاء إلى الارتقاء بالتفكير العمودي أو الزمن التجريدي الذي استخلصت فيه لحظات التخطّي والتماهيات المنطوية على الواقع في صورة مثلى لاتحاد الخيال بالملكوت الأعظم، وانصهار الواقع بالتجريد المطلق حيث الديمومة الإبداعية التي تتمثل بالزمن العمودي وهو يتعرى عن انغماسه في الواقع لاكتشاف اللحظات الطاردة وانبثاق البنية السديمية واللحظات التي تومض على امتداد الروح حين تغادر الجسد لأجل التخطّي وهي تتمثل أيضا باتحادها في الزمن المطلق. نعم إنها لحظات لا يمكن استرجاعها بأي حال من الأحوال، وعلى ذلك تراها قد شكّلت زمناً عمودياً انعكس عبر التجريد، وهو ليس لعبة عيانية تتمظهر عبر التزويق، بل هو وميض يتسلّل عبر البعد الواحد الذي اتحد بالزمن، وكشف عن الوجود الإنساني وتمخضه عن اتحاد اللون بالشمس وماهية الزمن. ?على الرغم من التجريد العالي في لوحتك (حلم في يقظة) ثمة واقع يندس في المتخيّل التشكيلي نلمحه في البؤرة المركزية التي تمثل في نظري صورة الحلم الذي اتخذ صورة الفوضى، هل تلك الفوضى غير موجودة في الواقع المعاش في ظل يشهده وطنك العراق؟ ?? الحياة بشكل عام مبنية على صراع بين كل أجزائها المتمظهرة في الواقع والقوة الدافعة في التوليد المستمر مرد ذلك البحث عن الكينونة وهي الواقع المتخيّل الذي يتراءى مستتراً في حلم اليقظة خلال عملية التعبير الرمزي عن مدلولات كامنة في الحلم ذاته فلم تكن هنالك فوضى بل اتساق في الرؤية بين الكينونة والحس الفطري من جهة، وتماهي المتضادات التي أسفرت عنها تلك الفوضى من جهة أخرى، بل تكمن في تلك الدلالات فوضى خلاقة إذا غادرنا لوحاتي بحثاً عن معان مقنعة فيمكن أن نستعير أمثلة من موسيقى (سترافنسكي) و(بارتوك) و(شونبرغ) لكونها مثلت ذلك الصراع والتنافر الذي اكتمن في الجوهر الرياضي للزمن الذي بلغته الفلسفة من (أرسطوطاليس) و(أفلاطون) إلى (أوغسطين) و(كوبرنيكس) و(ونيوتن) و(وآينشتاين) الذي مهّد السبيل لاكتشاف البُعد الزمني للمتخيّل بشكل عام والذي انبثق في لوحاتي. ? في لوحتك (الحب في ليلية مقمرة) لا نلفي للقمر أي وجود إنما هوة مفتوحة الأفق، لماذا هذا التخطي بالشكل؟ ?? ما كنتُ أريد أن أحدد تصور المتلقي في الحب والقمر وأبعده عن تصوراته الأخرى بيد أني رجحت ذلك بتأثير من الأضواء المتلألئة في اللوحة، وتصورت حينئذ أن القمر كان يشاركني أفراحي وأحزاني في الحب، بل كنت لا أميل عادة إلى عنونة لوحاتي، وإنما أترك للمتلقّي أن يشاركني مشاعري التي رميتها على اللوحة ويراها كما يحلو له، إذ لا بد أنها تنطوي على أسرار لا أستطيع أنا أن أتكلّم عنها لأنها اكتمنت في اللوحة بتأثيرات غامضة، انطلقت عبر اللا وعي إلى فضاء واسع من الترقب والانتظار والأمل، في فوضى خلاقة وجدت غايتها الجمالية من اتحاد الحب بصورته الوهمية بالقمر الذي كان يختبئ وراء الغيوم، ويختلس الظهور من بينها ليطل على عالم زاخر بالبهجة والأمل وولوع بالمتخيّلات التي تفضي به إلى فضاء غني بالجمال يستطيع المتلقّي أن يستمتع به رغم حالات الصراع والتبرم والانكسار.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©