الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الدرع والقشرة

الدرع والقشرة
29 مارس 2018 01:17
في المنظور الديني ليس للأخلاق وجود مستقل عن الدين. الدين هو مصدر الأخلاق، فهي جزء من الدين، ولكنها لا تستغرق بنيته الكلية. والأخلاق أخلاق أي خيّرة لأن الله وصفها بذلك، وليس باستحسان العقل أو تقرير العرف. ولذلك فهي محكومة بالدين وليست حاكمة علية، بمعنى أنه لا يصح محاكمة الدين إلى مبادئ مستقلة عن منطوقه، أو بعابرة أخرى لا يصح التساؤل عن أخلاقية الأحكام الدينية. حين ينص الدين على إباحة الرق فهذه الإباحة أخلاقية في ذاتها، ولا يجوز تقييم خيريتها بمعايير خارجية «فوق دينية»، وينطبق ذلك على بقية الأحكام التي تبدو صادمة للحس الأخلاقي المجرد كأحكام التحريض على العنف، أو أحكام التفريق في حرمة الدماء بسبب الدين «لا يقتل اليهودي بغير اليهودي قصاصاً، ولا يقتل المسلم بغير المسلم قصاصاً». وفي المنظور الوضعي المقابل الأخلاق ـ كالدين ـ ظاهرة اجتماعية تاريخية نشأت وتطورت بفعل البشر داخل العالم. وهي رغم تقاطعها مع الدين، منفصلة عنه، حيث الدين بالأساس بنية طقوسية لاهوتية، وحيث توجد أخلاق رفيعة في سياقات غير دينية، وتغيب أحياناً في سياقات دينية، ولذلك يمكن الحديث عن أخلاق «دينية خاصة»، أو عن أخلاق خاصة بكل ديانة، ويمكن محاكمة هذه الأخلاق الخاصة إلى الأخلاق الكلية المجردة. عن المصدر يتفق المنظوران على وجود الدين والأخلاق، وعلى وجود تقاطع بينهما، لكنهما يختلفان حول مصدر الأخلاق بسبب الاختلاف حول إلهية الدين ذاته. حسب المنظور الأول، الأخلاق جزء من الدين وكلاهما من الله، وحسب الثاني الأخلاق جزء من الدين أيضاً، ولكن الدين ذاته منتج تاريخي، وكلاهما ينبع من داخل الاجتماع. وهذا هو صلب المسألة؛ مفهوم الدين ومفهوم الأخلاق من حيث المبدأ. مفهوم الدين في المنظور الأول ليس هو مفهوم الدين في المنظور الثاني، وكذلك مفهوم الأخلاق. ولذلك يبدو وكأن الحوار بينهما لا يجري حول الموضوع ذاته، وهنا يكمن طابعه الإشكالي. نحتفظ في أذهاننا بمعنيين مباشرين للدين والأخلاق، لكن ما أن نشرع في التساؤل عن العلاقة بينهما، ينفتح النقاش من جديد على معنى الدين ومعنى الأخلاق كليهما. كان كانط قد قام بحركة دائرية، وهو يبدأ بتأسيس الدين على الأخلاق ثم يعود فينسب صدور الأخلاق إلى الله أي إلى الدين. ولكن معنى الدين الذي صار يتكلم عنه لم يعد يطابق تماماً معناه التقليدي المطروق. بحسب كانط، لا يستطيع العقل النظري برهنة الدين لعجزه عن تجاوز حدود التجربة، ولكن العقل العملي (أي الأخلاق) يؤدي إلى اثبات وجود الحرية وخلود النفس، ومن ثم وجود الله (تقوم الأخلاق على فكرة الواجب كمعرفة مفطورة: تصرّف حيال الآخرين كما تحب أن يتصرّف الآخرون حيالك. ولأن المكافأة على الفعل الواجب لا تتحقق كاملة في الحياة الحاضرة، تفترض العدالة وجود حياة ثانية كي يكافئنا الله على الفضيلة بالسعادة). هنا يبدو الله جزءاً من نظرية الأخلاق، جزءاً ضرورياً كي تكون الأخلاق ممكنة، فنحن «لن نعتبر الأفعال ملزمة لأنها فروض إلهية بل هي تعتبر فروضاً إلهية لأننا نشعر بأننا ملزمون بها في داخلنا». لكن الأخلاق، بعد أن لعبت دورها في إثبات وجود الله، ستعود فتكشف عن مصدرها الإلهي. فشعورنا الأصلي بالإلزام الأخلاقي هو جزء من طبيعتنا التي خلقها الله. الجوهر والتفاصيل هذا الشعور، وفقاً لكانط، هو جوهر الدين الذي يكاد يستغرق معناه، فأهم ما في الدين ليس الطقوس ولا تفاصيل اللاهوت، بل فعل الواجب استجابة لصوت الضمير الذي هو صوت الله. بحصره التقريبي لمعنى الدين في الأخلاق كان كانط يقدم مفهوماً عقلياً اختزاليا للدين لا يقبله اللاهوت الكتابي المعروف. ولكنه كان لا يزال يتعاطى مع المسألة من داخل الإطار التقليدي للجدل بين اللاهوت والميتافيزيقيا. فالفكرة المطلقة ظلت هناك، وظلت الأخلاق كالدين، إلهية قادمة من خارج الاجتماع. في القرن التاسع عشر، سيقرأ فيورباخ علاقة الدين والأخلاق بشكل عكسي تماماً: الدين ليس أصل الأخلاق، بل الأخلاق هي أصل الدين. ينطوي التكوين الإنساني بطبيعته على الأخلاق (العقل والإرادة والمحبة)، وهي أعلى ما في الإنسان، أو هي الإنسان في كماله المثالي. لقد نسب الإنسان هذه الطبيعة المثالية إلى قوة عليا خارجية وأطلق عليها اسم «الله» فصارت مطلقة، ومن هنا ظهر الدين في صورته التقليدية (فيورباخ «جوهر المسيحية»). بتحولها إلى دين أي إلى مطلق (ثابت)، صارت القيم قيداً على حركة الإنسان داخل العالم. ففيما تقتضي حركة العالم تطوير القيم بتمثلاتها التفصيلية المتعددة، يؤدي معنى الدين إلى تثبيتها كقواعد مؤبدة يصعب تغييرها، وهو ما يكرس شعور الإنسان بالاغتراب عن قيمة التي سبق أن صنعها بنفسه، أي شعوره بالاغتراب عن ذاته. وهو المفهوم الذي ستنقله الماركسية عن فيورباخ، وهي تشرح دور الدين التاريخي كعائق مخدر يحول بين الإنسان والمقهور وتغيير العالم. حسب فيورباخ، الدين مفهوم اجتماعي طبيعي يمكن أن يفتح باباً للأمل أمام الإنسان، الذي عليه توظيف طاقاته الأخلاقية الطبيعية لتحقيق سعادته الفردية والجماعية، أي لتحقيق «خلاصه» الاجتماعي، وهو مكافأة الفضيلة التي تنجز في العالم وليس في السماء. ثمة مساحة واضحة بين دين فيورباخ الطبيعي الاجتماعي، ودين كانط الإلهي، لكن أخلاق فيورباخ ظلّت قريبة من أخلاق كانط من حيث احتفاظها بشيء من خصائص المطلق، فهي رغم صدورها داخل العالم عن الإنسان، تنبع من طبيعة ثابتة فيه تشبه الفطرة وهي تنزع إلى الكمال. لذلك يلزم فهم نقد فيورباخ للدين على أنه موجه إلى الدين التاريخي، أي الدين الطقوسي التشريعي الذي تكوّن من تراكمات اجتماعية زائدة على مبادئ القانون الأخلاقي، والذي تفرضه سلطة المؤسسة الدينية القريبة من الدولة، وليس موجهاً إلى الدين الطبيعي الذي يرادف القانون الأخلاقي، وإلا كيف يكون الدين سبباً لاغتراب الإنسان عن ذاته إذا كان صادراً عن طبيعته الذاتية الثابتة. في واقع الأمر نقل فيورباخ المبحث الديني الأخلاقي خطوة باتجاه الأنثروبولوجيا والاجتماع التاريخي، ولكنه ظل موصولاً بالميتافيزيقا. التقليص والتصعيد على أن تقليص الدين إلى مجرد أخلاق، كما فعل كانط، أو تصعيد الأخلاق إلى موقع الدين كما فعل فيورباخ، لم يكن كافياً لإشباع التمرد العقلي الجامح للقرن التاسع عشر الأوروبي، الذي كان يستهدف فكرة المطلق. عبر نيتشه عن هذا الجموح في أوضح صوره، وهو يشن حملته القاسية لا على الدين والأخلاق فحسب، بل أيضاً على الأيديولوجيا ومجمل الحداثة الأوروبية التي لم تتخلص بعد من الحمولات المطلقة للقيم؟ لم تعد المسألة هي ما ذا كان الدين أخلاقاً أو الأخلاق ديناً، فكلاهما مطلق وهمي موروث مناقض «لطبيعة الحياة» التي يلزم أن تكون هي ذاتها قانون «الأخلاق» بديلاً عن قانون الخير والشر، بحسب نيتشه يعمل الدين على تكريس أخلاق الجماهير الدارجة، وهي أخلاق القطيع التي تذل الجسد وتقهر الدوافع الحيوية وحرية العقل والإحساس بالجمال. وقف نيتشه على الخصائص الأنطلوجية المشتركة بين الدين والمثالية اليونانية، وشن حملته على الدين عبر الهجوم على أخلاق أفلاطون وبالنسبة له كان أفلاطون هو من أطلق «الأضلولة الدوجمائية الأكثر خطراً والأطول عمراً في تاريخ الفكر، وهي اختراعه للروح المحض وفكرة الخير في ذاته»، وكانت المسيحية نوعاً من المثالية الدارجة أو «الأفلاطونية المخصصة للشعب» (ما وراء الخير والشر. تباشير فسلفة للمستقبل). فكرة الروح المحض الأفلاطوني التي تتقاطع مع المطلق المفارق الديني تتعارض مع «منظورية» نيتشه التي تعني أن جميع القيم نسبية من حيث نشأتها وقابليتها التأويلية، فليس ثمة في الواقع شيء مطلق. لقد عبّر الدين عن فكرة المطلق قبل الفلسفة اليونانية، وهي وجدت في هذه الفلسفة قبل أفلاطون، لكنها في الواقع لم تحظ قبله بتأصيلها النظري الذي أكسبها هذه القدرة على البقاء في الفكر. وراثة منظومة الأهم ـ وهذا ما يرمي إليه نيتشه ـ هو أن الدين هو المسؤول تاريخياً عن تعميم وترسيخ وتوريث منظومة القيم السائدة، وهي قيم العبيد البليدة والخانعة، التي تنبع أصولها من روح الضعف والضغينة، المنحدرة من أخلاق الكهان. في كتابه «جنيالوجيا الأخلاق» يشرح نيتشه كيف ظهرت هذه المنظومة السائدة بمعجمها المعروف (خير وشر، خطيئة، ثواب عقاب، واجب، عدالة، ضير، مثل، آلهة، نسك) الذي اخترعه الكهنوت. ليس للأخلاق من معنى سوى «العادات والتقاليد»، وما نسميه اليوم «غير أخلاقي» لم يكن يعني على مدى زمني طويل سوى «خارج على العادات والتقاليد». لقد ظهر مفهوم «العادات والتقاليد» أو «العرف» عندما أخذت الإنسانية القديمة شكل الجماعة، وبحكم الطبيعة كان الإنسان الحر «يريد أن يتبع ذاته في كل شيء، وليس أخلاق العادات والتقاليد» ومن هنا كان معنى الإنسان «الشرير» مرادفاً لصفات «الفردي، الحر، غير العادي، وغير المتوقع». لم يعد بمقدور الإنسان الحر أي «غير الأخلاقي» أن يصنع أعرافاً، بعد أن صار ذلك حقاً حصرياً للكاهن. بحسب نيتشه، اخترع الضعفاء «أخلاق الخير والشر» لسد عجزهم في مواجهة الأقوياء، هذا إفراز الطبيعة الذي أنتج العبيد والسادة. أخلاق الخير والشر هي أخلاق الكاهن التي تصدر عن كراهية العاجز. وبعبارة نيتشه، «الكهان، كما هو معلوم، هم أشر الأعداء، لماذا؟ لأنهم أكثر الناس عجزًا. ومن العجز، يتولد عندهم الكره مرعباً وموحشاً، روحياً ومسموماً، لقد كان أشد الناس كرهاً في تاريخ العالم على الدوام كهّاناً، وكانوا أيضاً أشد الناس مكراً» (جنيالوجيا الأخلاق ـ المقالة الأولى فقرة 7). بالطبع سيحتاج نيتشه إلى نقاش طويل... كانط وفيورباخ إن تقليص الدين إلى مجرد أخلاق كما فعل كانط، أو تصعيد الأخلاق إلى موقع الدين كما فعل فيورباخ، لم يكن كافياً لإشباع التمرد العقلي الجامح للقرن التاسع عشر الأوروبي، الذي كان يستهدف فكرة المطلق. نيتشه وأفلاطون وقف نيتشه على الخصائص الأنطلوجية المشتركة بين الدين والمثالية اليونانية، وشن حملته على الدين عبر الهجوم على أخلاق أفلاطون. وبالنسبة له كان أفلاطون هو من أطلق «الأضلولة الدوجمائية الأكثر خطراً والأطول عمراً في تاريخ الفكر، وهي اختراعه للروح المحض وفكرة الخير في ذاته».
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©