الثلاثاء 16 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

المرحَّب به والمرفوض

المرحَّب به والمرفوض
1 يونيو 2016 21:39
علي محمد فخرو في كتابها الشهير «الحالة الإنسانية» تصنّف فيلسوفة السياسة حنَّة أرندت البشر ضمن ثلاثة تصنيفات كبرى: العامل، والمنتج، والفاعل. أما العامل فهو الذي يعمل للحصول على ما يؤمن بقاءه وعائلته من ضرورات الحياة، كالطعام واللباس والسكن، وهي وظائف تماثل ما يفعله الحيوان لنفسه وعائلته. غير أن طبيعة وطموحات الإنسان تدفعه لكي لا يكتفي بوظيفة العمل البدائية تلك إذ يصبح كائناً خلاقاً منتجاً يصنع الأشياء ويغيِّر بيئته ويحسن حياته. لكن حنة أرندت تعتقد أن الكائن البشري العامل المنتج يحتاج أيضاً لأن يكون فاعلاً في الحياة العامة على نحو يجعله مشاركاً في النشاطات والمناقشات المجتمعية، أي يجعله مواطناً حراً ومسؤولاً، وهي تخلص إلى أنه لا وجود لحياة سياسية بدون الإنسان الفاعل في ساحة السياسة، كما توجه اتهاماً إلى الأنظمة العصرية الغربية بأنها اختصرت الإنسان في مهمتي العمل والإنتاج وأهملت إعداده لكي يكون فاعلاً، الأمر الذي جعله يعيش في عبودية، إذ لا يمارس حريّته الطبيعية إلا إذا كان فاعلاً. لو حاولنا أن نرى مدى انطباق ذلك التصنيف على مسيرة الإنسان العربي عبر التاريخ وإلى يومنا هذا، لوجدنا أن صفتي العمل والإنتاج كانتا موجودتين في مسيرته. أما صفة الفعل، حسب مفهوم الفيلسوفة بالطبع، فإنها كانت شبه غائبة. ففي النظام القبلي، قبل الإسلامي، تحتم التقاليد القبلية أن يكون صاحب الفعل المهيمن الآمر الناهي رئيس القبيلة ومجلس العشيرة الاستشاري. وعلى الرغم من أن البعض يعتبر ذلك الترتيب القبلي نوعاً من الديموقراطية التشاورية فإن الواقع يظهر أن تلك الشورى كانت تفتقد قدرات ووسائل التنفيذ من جهة، وأن مجموعات من أفراد القبيلة كانت مستثناة من مؤسسة الشورى تلك من جهة أخرى. وهذا يعني أن القسم الأكبر من أفراد القبيلة العاديين، حتى ولو كانوا يقومون بوظيفتي العمل والإنتاج، إلا أنهم لا يساهمون بفاعلية وتأثير في اتخاذ القرارات والمشاركة في النقاشات، أي في الحياة العامة للقبيلة. والأمر نفسه انطبق على الرعيّة في ممالك ومدن ما قبل الإسلام حيث ساد الاستبداد بصورة عامة وحيث تركزت سلطات الحكم والجاه في أقلّيات المال والنسب. فهل تبدلت الصورة مع مجيء دين الإسلام، دين الحق والعدالة ومساواة البشر أمام رب العباد؟ لقد كان المطلوب إنساناً جديداً تحكمه قيم جديدة ويمارس علاقات اجتماعية نقيضة لعلاقات البداوة السابقة. لقد شرعت مبادئ المساواة والشورى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وحرية الحوار والاعتقاد ونزاهة القضاء، وحرمت رذائل الحكم الفردي والرشوة والسرقة والكذب وارتزاق المرأة بجسدها والقتل دون حق وأكل السُّحت وممارسة الرِّبا. وقد أراد الإسلام من المسجد أن يكون منصة للحوار والاحتجاج وليس فقط مكاناً للتعبُّد. لقد كان كل ذلك سيخلق إنساننا الفاعل الذي نتحدث عنه، الإنسان الفرد في أمة وجماعة مستخلفة في الأرض، تحكمها سلطة سياسية تقوم على الإجماع والشورى وليست حصراً على نخبة معينة أو فرد تسنده هذه الجماعة أو تلك، ولقد تطور مفهوم الجماعة ليعني غالبية المسلمين وليس كلهم، وليعني حقها في تعيين الحاكم وخلعه، لأنها وحدها مصدر السلطة. ذلك الألق الروحي والأخلاقي والاجتماعي، وإلى حدّ ما السياسي، والذي حرر وطالب الإنسان بأن يحمل الأمانة، أي الالتزام بقضايا الأمة كما نعبّر عنه في عصرنا الحاضر، تمثل إلى حدٍّ كبير أيام رسول الإسلام (صلى الله عليه وسلم) ومن بعده أيام الخلفاء الراشدين في الصعود المذهل لمكانة الفقراء والمهمشين، وفي التراجع الكبير لنفوذ عِلية قوم المال والنفوذ القبلي، وفي أقوال شهيرة من مثل أن الخليفة ليس بأحسن ولا أفضل من غيره، وأن الناس ولدوا أحراراً، وأن بيت المال هو ملك للأمة وليس للسلطة، وأن الناس لهم الحق في الوقوف في المساجد ومحاججة المسؤولين. لكن ذلك الألق بدأ في التراجع التدريجي بعد أن انقلب الحكم إلى ملك عضوض لا رأي للأمة في شكله وأفراده وتوجهاته، ومع تراجع دور الأمة بدأ تراجع الفرد الفاعل، وأصبحت المجتمعات تجمعات رعية أسلمت أمرها لراع يرعى شؤونها، وبدأ موت السياسة. لقد تحقق ذلك التراجع من خلال ظاهرتين: فأولاً انبعاث روح وعقلية وممارسات قبلية ما بعد الإسلام بكل نقاط ضعفها التي ذكرنا، حتى ولو بقيت مظاهر التعبد وطقوسه، وثانياً ظهور مجموعة كبيرة من فقهاء السلاطين الذي برروا الكثير من ممارسات السياسة الخاطئة باسم الإسلام، فكانت النتيجة انقسامات مذهبية وقبلية وسياسية مفجعة تمظهرت في ثورات لا تهدأ وفي ضعف شديد لسلطات الخلافة وفي تشويه متعمد لمقاصد القرآن وللأحاديث النبوية ساهم في الابتعاد عن الألق الثوري العادل للإسلام. لسنا معنيين الآن بما تفعله صراعات السلطة وأحابيل السياسة بالإنسان لكي تمنعه من أن يكون فاعلاً بحرية ومسؤولية وذا تأثير حقيقي في حياة مجتمعه، فهذا موضوع عرفته كل مجتمعات البشرية عبر كل العصور. وتاريخ صعود الفاشستية في أوروبا خير دليل على ذلك. لكننا معنيون بإبراز الدور السلبي الذي لعبه بعض الفقهاء المسلمين، فقهاء السلاطين، في تحويل الإنسان المسلم إلى إنسان غير فاعل وغير معني بحقوقه السياسية، وذلك باسم درء الفتنة من خلال تفسير خاطئ لآية «أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ»، حيث لم يفرقوا بين ولي الأمر العادل وولي الأمر الظالم الفاسق، ولحديث نسبوه للرسول الكريم «اسمع وأطع للأمير الأعظم، وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك»، ومن خلال انشغالهم بهوس بصفات الحاكم وأخلاقياته بدلاً من الانشغال بوضع نظم سياسية تؤدي إلى مؤسسات حكم قابلة للمحاسبة وخاضعة لإرادة الأمة التي، كما ذكرنا سابقاً، استخلفها الله هي ولم يستخلف الحاكم. لقد نسي أولئك الفقهاء، وبالطبع ليسوا كلهم، أوامر قرآنية واضحة من مثل: «كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ» أو «فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى? أَن تَعْدِلُوا» أو «اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى?»، أي نسوا ذلك التشديد الرباني على كلمات القسط والميزان والعدالة، وهي مداخل رئيسية لأي حياة سياسية معقولة. ولم يخلُ عصرنا من نوع أولئك الفقهاء، الذين ساهموا في إضعاف وتهميش فاعلية الإنسان العربي باسم الثورة والقومية والاشتراكية والإسلام وأولوية التنمية وغيرها من مبررات، وهذا موضوع نحتاج أن نعود إليه مستقبلاً.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©