الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

تشظيات صيفية ...

20 يوليو 2009 22:34
ما إن تخطف العشرة الأيام الأولى، من تسيّحك في بلاد العم سام، حتى تبدأ فتائل نوبات الحنين، بإشعال لهيبها في جوفك، وقلبك، وذاكرتك، وفي معدتك أيضاً! تبدأ الروح الوطنية في الارتفاع، وتطفح فجأة، أحاسيس الطفولة الآنيّة، الجياشة في نفسك، عندما يطري عليك، في الصباح الباكر، «قرص» و»خمير» الوالدة، مع دلة الشاي بالحليب، بالزعفران والهيل، بعد أن تكون قد انتفخت بطنك بشتى أنواع «الفورماج» والكرواسون، وعصير الجريب فروت الأصفر، والأحمر! أمّا إذا جاء وقت الغداء، فستمر من أمام عتبات المطاعم التي ارتدتها أول وصولك، وفرحت، وتطوّست أمام معارفك بدخولها كثيراً، لتنظر إليها، بعد اليوم العاشر، نظرة الشامتين، وكأنها محال لبيع الإطارات المستعملة! لأنها ما عادت تغريك بتجريب أطباقها المملة الباردة. ستتذكر طعم أطباق» شقية» مُطلقتك الأولى، وتخبيصها ومعافرها في مطبخك، محاولة إرضاءك وإقناعك، واجتذابك لأطباقها «الماسخة»، النصف سِواء. في جوعك، ربما ستشتهي طبخها، وستتذكر أيضاً أيامك معها، وستتذكر شيئاً من محاسنها، وأسباب انفصالكما، وهنا سيلتبس عليك الشعوران، هل هو الجوع إليها، أمْ هو افتقادك لأطباقها «الماسخة»؟! ستبدأ في استرجاع ذاكرتك التذوقية، من أول حليب أمك، إلى آخر طبق لطمته قبل سفرك، فيعْنُّ عليك صحن «المشخول»، ومرقة البامية «الخرز» الخاثرة، من يد أم محمد، وممكن صينية «المكرونة بالباشميل»، من يد جارتكم أم تامر، أو طنجرة «مشّكل المحشي»، وورق العنب بدبس الرمان، من يد أم صبحي، أو»زبدية» الحِريرة، وصينية «البسْطيلة» بالدجاج، من يد نعيمة، حرمة خويك سلومّ، لتحبس بعدها، بغوري شاي أخضر مراكشيّ، لتركن بعدها، على جنب بكل أدب، وتشْخّر! أمّا إذا ما صادف سفرك، حلول شهر رمضان المبارك، فهنا سيشتت لعابك إلى أكثر من جهة، وتطرق شهيّتك أبواباً، ومجالس، دائماً عامرة بما لذّ وطاب. فإذا ما عنْ عليك صحن «الهريس»، فهريسة قوم «بن شيبان»، وقوم «بن يوسف» يا حافظ عليهم، وعليها ذيك «الذوابة» الغاوية، أو «مجبوس» و»مشْواي» قوم العتيبة، ربما لن تستطيع مُقاومة هذا الشعور القاتل، إلا ّ بربط بطنك، أوضرب رأسك بأقرب جدار، لتبعد عنك كل تلك الوساوس! هكذا نحن العرب، في سفرنا وترحالنا، تُشّرع لنا الذاكرة ألف نافذة، وزاوية، بألف صورة وصوت، بقصصها، ومواقفها، يكون أحياناً مُحرضُّها الأول، «طبقاً» بيتياً، هفتْك نفسك عليه فجأة، بعد أن نشفت معدتك، من أكل المطاعم الأوروبية الغالية! في الغربة يصبح كلُّ شيء في الوطن، ومنه غالياً، له قيمة، وطعم، ولون، ورائحة، وذائقة، له ذكرى، ومعنى، ومقاييس خاصة، وحضوراً مُقدساً، ليجعلنا نعترف ضمنياً، حينما تُطبق علينا نوبات الحنين، ونزعات شهوة الجوع، بأنَّ لبعض الناس ذاكرة أخرى، موازية لأسمائهم، يتميزون، ويُعرفون بها، هي ذاكرة إنسانية، ولكن بطعم، ورائحة، تختزلهم وحدهم، كنكهة أطباقهم!!! فاطمة اللامي Esmeralda8844@gmail.com
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©