الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

وجْه جورْج تراكل.. معجم الموتى

وجْه جورْج تراكل.. معجم الموتى
31 ديسمبر 2014 21:20
1/ إشارة: (هذه رسالة وصلتْ إلى «مارغريت» من أخيها «تراكل» قبل موته بأيام، عكس الظن المتداول بأن الرسالة الأخيرة منه كان قد كتبها لفتغنشتاين، والرسالة المتخيّلة التي أنشرها أدناه، موضوعها هو الصورة المعلقة أعلاه). 2/ حاشية على الرّسالة:أين اختفى وجهُكَ الملائكيّ يا صيدليّ الحرب الشّعواء؟ وكيف ظفر الشيطان بأنْ وطّن قناعه المفزع على صورتكَ؟ عجباً كيف تخون صفحة البحيرة أغوارها! فمرآة وجهك ليست بريداً أميناً لأعشاب داخلك السحريّة!! لك وجْهُ قاتلِ قاصراتٍ يا تراكل. وجه سفّاح أطفالٍ فرّ من المصحّة لتوّه. في أيّ مرآة حلقتَ ذقنك الشّائنة العشب؟ - على صفحة مياه في دلو بئر! وبأيّ مشْطٍ جهنّميٍّ سوّيتَ شعركَ الذي تندلع منه حرائق المدافع؟ - مشْطٌ صنعه جنديٌّ من إبرِ شجرةِ الخرْنوب! لستَ راعي خنازير بكل تأكيد وإن كان دمها يتبخّر من نظرتك الشاخصة في ثقب البشاعة الأسود: الثقب الذي كنتَ ترصد منه أوروبا وهي تخوض الموت في أعتى نجاسته. جثث، جثث، جثث.. يتْرف بها المشهد في كل جهة.. لا ملاذ لفراغ من رائحة القتل.. قتل، قتل، قتل.. يترف به المشهد في كل جهة.. لا ملاذ لفراغ من رائحة الجثث. القتْلُ أسْمَنْتَ وجهكَ والجُثثُ صقعتْهُ فآل إلى معْجمٍ أو قاموسٍ لعناوين الموتى.. كيف يكون هذا وجهَ شابّ في العشرين؟ هي ويْلاتُ الحرْب صيّرتْه كهْلاً.. الحرب التي بلّط روثُها الجهات فاندلعتْ أزهار الشر السوداء واشرأبّتْ وتداغلتْ فصارتْ حقلاً شاسعاً لمشتل الرّعب. الرعب، الرعب، الرعب.. هو ما توقفتْ عنده ساعتُكَ الشّارخة. 3/ نصّ الرّسالة:عزيزتي مارغريت، وجهكَ هاويةٌ يا تراكل! قال لي جندي وهو يلفظ أنفاسه البارحة. كان يمنّي النفس لكي يعيش من أجل قبلة. أطلق رصاصة الرّحمة على صدغه بعد أن تغوّل الألم في جسده كله. الموتى تعشوشب ابتساماتهم هنا بعد شهقة النزع الأخير. صار وجهي انعكاساً رخامياً لشهقات موتهم الغائرة. طلقات الرحمة التي قتل بها الجنود أنفسهم هي الإيقاع المرعب الذي تزدهر به أحلامي. كأنّ صنبوراً مزعجاً يدلق قطرات الجنون في غرفة قصيّة داخل ذهني المجوّف. أفيونُ أمّي اللصيق بلحمي هو ما أحاول أن أطرد به رائحة القتل في هذه الغابة القرمزية. سالزبورغ (طفلة الكلوروفورم) لم تضحك بعد في ذاكرتي. أدمنتني بِصمْتِها حدّ الفزع، وأدمنتُ فراغها حدّ العواء. ثمة وحش زرعتْه الحرب في داخلي. يقتاتُ على دماغي في كلّ دقيقة. أحاول ترويضه بأشكال عاتية من المخدرات، أرتجل صنعها بأدوية سامة. فأثر الكوكايين لا يعدو أن يكون إلا دغدغة للوحش. سأقاومه بكل ما تبقى لي من شراسة. لن أهزمه بالتأكيد. المهم أن لا أكونه. أكتب إليكِ من مصحّة « كراكاو»، زجّوا بي هنا البارحة فقط.. الأوغاد يزعمون أنني حاولت قتل نفسي بمسدّس.. كنت أهدّد الوحش لا غير. كتبت إلى فتغنشتاين أمس، ودعوته لزيارتي. ربما إن تلصّص عليه العنكبوت الذي يتناسل في دماغي، قد يكفّ عن مصّ آخر قطرة في شريان يقظتي. عندي كومة قصائد كتبتها كيفما اتفق على قطع مجتزأة من ثياب الموتى. خاصة القطع العالقة في أسلاك الحدود. منذ زمن أصعد السلالم الدائرية للخراب، ولا أصل إلى السطح. اكتشفت البارحة فقط أنني كنت أنزلها، وما من قرار لحفرتها اللانهائية. ثمة بومةٌ عمياء تبصرني. مولعةٌ بالنحيب في أنقاض جمجمتي. هنّ النساء الذابلات من فرط انتظار انتهاء الحرب، انتظار عودة من لا يعود، يضرّجن تلك الأنقاض كزهرات الخشخاش. إنها آخر فرصة لي في مصحة الأشباح هذه. ثمة امرأة واحدة تنعم بالحياة في مطرح الأشلاء هذا تشبهكِ تماماً يا «مارغريت». هي ممرضة نمساوية بشعر أحمر كأنّه نار موقد «هستيا». نظرتها الطاعنة في اللازورد يندلق منها خدر الحلم. بزرقة عينيها أوهمت ماكينة الألم الهادرة في أعضائي. وجهها شرفة عزلاء تطل على الجنة. إنها القصيدة التي لن أكتبها أبداً. لها وحدها حلقتُ ذقني البارحة في الحديقة فيما العقاعق تهوّم حولي. لها وحدها رتبتُ شعري بمشط نزيلٍ أهدتْه له زوجة جنرال (لأنّه عشيقها طبعاً). داهمني مراسل صحيفة (قرأ شعري في مجلّة الحارق (وأخذ لي هذه الصورة مباغتة. تحاشيت النظر إلى وجهي بعدئذ في المرآة. منذ زمن أتحاشى الاصطدام بوجهي الذي قال عنه الجندي محشرجا بأنّه يشبه هاوية. ليس لأنني أخشى السقوط في هاوية وجهي. بل خشية أن أتذكّر نفسي. لم تزرني الممرضة التي تأنّقْتُ لها في الموعد. حدث خطب ما بالتأكيد. عندما سألتُ عنها صفعني الخبر النّاعي. ماتتْ منتحرة بطلقة في غرفتها بالطابق العلوي. تلك الطلقة الكابوسيّة يتردد رجع صداها في كنيسة جسدي المخربة. لا غناء للعشب في الغابة بعد اليوم. لا ملاذ للحيوانات المذعورة في دمي. الأشجار التي تقمصتْ أرواح الموتى تهلوس في أصابعي. أصابعي التي عجزتْ عن حفر قبر للممرضة الزّرقاء. و ها قد بدأت الرياح بالعواء من جديد. عواء يوقظ فطْر الكوابيس في ظهيرتي. تغولتَ بما يكفي أيها اللوثيان المعربدُ في رأسي. بماء المستنقعات غسلتُ الجراح غير المرئية في وجهي أيها الموت. شتاء الدم كأنه سرمديّ... ما من مطر تجسّ أنامله الرطبة زجاج الشرفة. ما من فاكهة يدلقها علّيق مدينتي. ما من طمأنينة تلي الرقصة. المرايا عمياء كأنما تسكنها الخفافيش. «مارغريت»... هذا وجهي:(يصلح لأن يكون حائطاً حزيناً لعناوين المفقودين في الحرب، دلّي نساء الأرض على حائطهنّ الحزين، كي ينبشن فيه عن مراقد موتاهن الذين نفقوا في الغابات والمصحات والخلاءات... يصلح أن يكون منديلاً وإن بدا خرقة، ربما يمسح آخر دمعاتهن الحجريّة. يصلح أن يكون مقبرة رمزية لجثث أحبتهن اللارموس لها ولا أكفان ولا لحود.. يصلح لأن يكون نشيداً هيروغليفياً لمراسيم جنازاتهم المفترضة.. يصلح أن يكون دلواً يسقطنه في آبار نومهنّ بحثاً عن ماء قرارة مستحيلة، ربما يسحبن به وجوها عزيزة في أحلامهن البائسة..). مارغريت حبيبتي غروديك اغتالت شمساً فوق تلال أبديتي.. غروديك تتفاقم، تستفحل، تستشري.. غروديك الزاحفة بلا حدود هاوية وجهي.. ما رغريت حبيبتي.. اثقبي جليد الموت بنظرتي هذه.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©