السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

توحد في استجلاب التاريخ وتنوع في إسقاطه على الراهن

توحد في استجلاب التاريخ وتنوع في إسقاطه على الراهن
22 يوليو 2009 23:09
احتفاء بالمسرح المحلي، وبإنجازاته وتواصله وعطاءاته، يقام كل عام في أبوظبي الموسم المسرحي الإماراتي ليقدم عروض الفرق المحلية وما وصلت إليه صناعة هذا الفن الراقي. انطلق الموسم المسرحي الخامس هذا العام في أبوظبي بعدد من العروض المهمة التي تجسد عطاء الفنان ومواقفه وطموحاته وآماله، ولخصت في كل عمل فكرة، تحمل موقفاً، رؤية للعالم، على مستوى الكتابة، أو الاخراج أو التمثيل أو السينوغرافيا. منذ بدء العروض، بدا التنوع واضحاً ما بين استجلاب التاريخ وإسقاطه على الراهن، وما بين معالجة مباشرة للراهن اليومي، على مستوى ما يتعرض له الفرد العربي في مواجهاته الشخصية والجماعية لمشاكل يحفل به واقعه. ومما لا شك اننا نجد عدم القدرة على الوصول الى المثال في إنجاز النص المؤثر كما لا شك فيه أن هناك تعالياً نصياً وإبداعياً استفاد من تراكمات الخبرة والإبداع. في بدايات العروض قدمت 3 أعمال محلية فلاحظنا من خلالها هذا التفاوت ما بين الجميل والأجمل والتقليدي والمبتكر، والمجترح والكلاسيكي، والمقلد والمتطلع الى التجديد. نحن نعرف تماماً أن النص المسرحي لا يعتبر فردياً عندما يتحول على خشبة المسرح الى حياة كاملة، إذ تدخل أصابع المخرج، والممثلين والفنيين لخلق حالة من الانسجام قادرة على ترجمة ذاك النص الورقي الى حركة وقول منطوق وصراع، وتجاذبات، وبهذا يبدأ الاشتغال جماعياً لتحقيق متعة جماعية مقابلة هي متعة الجمهور المشاهد. ذلك هو المسرح بكل تجلياته، حركة أو لفظة أو انفعال غير منضبط قد يفسد النص، بل يطيح بالمتعة التي تنشد الاكتمال. ثلاثة عروض، أولها «حاميها حراميها» التي قدمها مسرح الفجيرة القومي من إعداد الكاتب المسرحي الاماراتي إسماعيل عبدالله عن مسرحية «حفلة على الخازوق « للمؤلف المصري محفوظ عبدالرحمن وإخراج حسن رجب، وثانيها «ثواني الرحيل» التي قدمها مسرح كلباء الشعبي من تأليف جمعة علي وإخراج فيصل الدرمكي، وثالثها مسرحية «لا هواء» التي قدمتها فرقة المسرح الحديث التابع لجمعية الشارقة للفنون الشعبية والمسرح وهي من تأليف الكاتب والمخرج المسرحي محمود أبو العباس وإخراج إبراهيم سالم. ابتدأ الموسم المسرحي بمسرحية «حاميها حراميها» من تمثيل جمعة علي بدور المحتسب وحميد فارس بدور الوزير وعبيد الهرش بدور مدير السجن ومحمد اسماعيل بتقمصه ثلاثة أدوار وهي دور مساعد مدير السجن وكاتب المحتسب ومساعد الوزير والفنانة هند بدور رشا وخالد علي بدور النجار ومبارك ماشي بدور النخاس وعبدالله الرشدي بدور حسن وناصر الضنحاني بدور الوالي. نص قسم الى 6 مشاهد، حاول المخرج حسن رجب أن يقدم القصة كما هي تسلسلياً دون أن يقدم أو يؤخر في العرض القصصي الذي ورد في ألف ليلة وليلة واستفاد منه «محفوظ عبدالرحمن» لكتابة «حفلة على الخازوق» واستطاع اسماعيل عبدالله أن يعدها لمسرح الفجيرة القومي باسم «حاميها حراميها».. وما بين العنوانين «حفلة على الخازوق» و«حاميها حراميها» اختلاف في تقصي الهدف والموقف والتوصيف والفعل. حفلة على الخازوق توصيف لا يحمل موقفاً، بينما نجد «حاميها حراميها» فعلاً يمتلك موقفاً. قلت قدمت القصة «متسلسلة ـ كورنولوجيا» وكما هي في إطارها التعاقبي الذي رويت به، وكان الأجدى بالمخرج أن يتلاعب بالنص عبر التقديم والتأخير ليكسر السرد التسلسلي أو ليحطم الزمن الكورنولوجي ليخلق حالة من الخلخلة في ذهن المتلقي الذي لم يجد أي متعة ـ حقاً ـ في المشهد الأول والثاني والثالث والرابع حتى المشهد الخامس الذي كان ممتعاً بحق، أما المشهد السادس فبدا تكميلياً لا أكثر. ثنائيات النص يبدأ العرض بمسرح مظلم وموسيٍقى الموشح الأندلسي «قدك المياس» حيث لا رابط بينهما، الأول كئيب حد النزف، والثاني مبهج حد الرقص. وتنكشف العتمة عن «حسن» يجلس على كرسي يتحكم فيه رجلان وهما مدير السجن ومساعده، وكما يبدو أن هناك تحقيقاً حول قضية تتضح تباعاً بأن «حسن» يحيك مؤامرة لاغتيال الوالي. وما بين ثنائية الاتهام/ الإنكار يبدأ النص في تقديم حالات القهر التي يتعرض لها إنساننا قديماً وحديثاً من قبل السلطات الباغية التي تمنع الفرد حتى من التلذذ بحلم الخلاص. خلفية المسرح زرقاء هادئة تتعارض مع محتوى المشهد القاسي وألوان الستارة الجانبية الكبيرة التي وضعت بمثابة باب يطل على العالم الخارجي تبدو أكثر بهجة تتعارض أيضاً مع فكرة هذا المشهد. يرفض «حسن» اقتراحات مدير السجن ويهدده الأخير بإجلاسه على الخازوق.. وينتهي التحقيق وتدخل الفتاة رشا متوسلة الإفراج عن أخيها حسن، غير أن مدير السجن يرى فيها فتاة جميلة، أرملة، تعيش لوحدها، وتبحث عن خلاص أخيها، لذا كانت تلك الأسباب مدعاة لاستحواذ مدير السجن عليها. تقليدية الحوار كل ذلك يقدمه المشهد الأول الذي لا يخلو من تقليدية في الحوار والحركة غير أن ما يلاحظ أن أداء مدير السجن ومساعده كان «اكروباتيكياً» ليس فيه من غلظة المحقق الأمني الذي عرفته السلطات القاسية مدمراً لشخصية المتهم في عالمنا الشرقي. ويعرض مدير السجن على رشا أن يأتي الى بيتها حين تكون لوحدها، وترفض رشا بشدة ذاهبة في المشهد الثاني الى «المحتسب» متظلمة، حيث تعرض هنا ثنائية الظالم/ المظلوم، القوي/ الضعيف وتروي للمحتسب حكاية مدير السجن معها يوم أبصرها تمشي مع حسن على شاطئ البحر مما جعله يقوم بحبس حسن. غير أن المحتسب يرغب فيها أيضاً فتنهض هنا ثنائية التعفف/ الرغبة حيث يتحول المحتسب من رجل ورع وزاهد محتسب في الظاهر الى وحش تحكمه نزواته فتنفر منه رشا. لم يتبدل الديكور في المشهد الثاني ولا الثالث الذي تذهب فيه رشا الى الوزير شاكية المحتسب ومدير السجن فنكتشف أن الوزير قد ضم في جواريه 365 امرأة على عدد أيام السنة، ومع كل ذلك يراود رشا عن نفسها. تبدو المشاهد 1، 2، 3 وكأنها تحاول أن تقود المتلقي الى صلب حبكة النص حين تغري رشا الرجال الثلاثة للاتيان الى دارها لتوقع بهم حيث تطلب من «النجار» أن يصنع لها صندوقاً بأربع خانات.. يأتي الوزير لها ليلاً ويطرق طارق الباب فجأة وتخبر رشا الوزير بأن زوجها عاد من الحرب سالماً بعد أن ظنت أنه مات وترملت، فيصعق الوزير ويلجأ لها متوسلاً وتخفيه في الخانة السفلية للصندوق، وتفعل مع المحتسب مثل ذلك وتخفيه في الخانة الثانية وكذلك مع مدير السجن الذي يحتل الخانة الثالثة، وأخيراً يأتي النجار الذي أراد أن يراودها عن نفسها بتهديدها أن يكشف سر الصندوق الذي صنعه فيودع في الخانة الرابعة. تكاد القصة المتسلسلة تنتهي حكائياً عندما يودع النجار في طبقته الرابعة، حيث استطاعت رشا أن تسجن سجاني حسن وتنهي فكرة الحكاية التي استجلبت من ليالي ألف ليلة وليلة. مشهد المخرج يتدخل المخرج حسن رجب ليخلق مشهداً خاصاً به ليس للحكاية أي تدخل فيه سوى أنها قادته الى بناء هذا المشهد وهو المشهد الخاص الذي يسلط فيه المخرج الضوء على خانات الصندوق الأربع المفتوحة في مواجهة الجمهور حيث يبدو «الوزير والمحتسب ومدير السجن» وهم يتناقشون في مكان ضيق كأنه السجن وقد تسيّد فوقهم «النجار/ المرتبة الاجتماعية الأوطأ». هنا يلعب المخرج لعبته على المكان والطبقة الاجتماعية والوظيفية والسلطة والشعب وضمن هذا التقسيم المكاني يقدم حسن رجب رؤيته، بل موقفه الذي شاهدناه في العنوان «حاميها حراميها» وضمن هذا التقسيم يتسيد النجار في الأعلى على الطبقات الثلاث المتمثلة في الوزير ومدير السجن والمحتسب حين يهددهم النجار بأن يرمي كل فضلاته عليهم من فوق. وهي تشكل موقفاً لإدانة وتحقير السلطة باعتبارها القوة الباغية كما قدمت في النص. ومن أجل كسر نمطية النص كان على حسن رجب أن يقدم هذا المشهد الى ما قبل المشهد الأول، أما المشهد السادس الذي يدخل فيه الوالي مع حسن ورشا ليكشف حسن للوالي ما يحتويه الصندوق ذو الطبقات الأربع حيث تتضح الحقيقة ويتبين من خلال الاعتراف الأخير لرشا أن حسن لم يكن أخاها ولم تكن متزوجة من رجل ظنته ميتاً ثم عاد من حربه، بل أن حسن ما هو إلا خطيبها الذي استطاعت أن تخرجه من السجن بعد أن أوقعت بمدير السجن والوزير والمحتسب، وبذلك خلق النص ـ في الأصل ـ نسقاً ثلاثياً 1، 2، 3 عبر أكذوبة رشا المتغيرة وهذا نمط من أنماط الحكاية الخرافية كما هو معروف من خلال حكايات ألف ليلة وليلة «الحمال والثلاث بنات» «البطات الثلاث» «الاخوة الثلاث» و «الوزير والمحتسب ومدير السجن». المتعة/ القسوة قدم النص فساد الدولة حينما تستغل جسد الإنسان عبر ثنائية «المتعة/ القسوة» عبر الجسد نفسه، وتحطيم الفكر والقيم عبر المحتسب الذي تتعارض قناعاته الزاهدة الكاذبة مع سلوكه ونزواته، ولكن حين تقدم السلطة «الوزير والمحتسب ومدير السجن» لابد أن نقدم قسوتهم، الشخوص بما يحملون في واقعهم المتسلط، أما أن قدمهم كشخصيات كارتونية ضعيفة فهذا موقف آخر، كما أن المخرج أبقى على الحكاية في تاريخها الزمني «القديم» عبر ملابس الشخوص.. «الجبة والعمامة» وكأنه أراد أن يقول إن ما يحصل كان في الماضي وانه لا ينتقد الحاضر. كذلك قدم المتهمين وكأنهم يمتلكون الجرأة العالية في انظمة ديمقراطية قادرة على أن يشتكي المتظلم حتى الى الوالي. كما أن الوالي له من القدرة على الإنصاف ما يفوق التوقع، ونحن نعرف أن دوافع «ألف ليلة وليلة» في رسم ملامح الولاة كانت تبريرية، أمام معارضات الأحزاب التي تقوم بثورات متتالية ضد حكامها إبان العصر العباسي في بغداد الذي رويت فيه الحكاية أصلاً. حاول حسن رجب (المخرج) أن يربط المشاهد الستة للنص المسرحي بموسيقى «قدك المياس» ولا أجد سبباً لذلك، إذ أن مأساوية النص بالرغم مما دخل فيه من كوميديا «المشهد الخامس.. حوار الشخوص في الخانات المنفتحة على الجمهور» وما حمل من طرافة مسرحية ناضجة لا تبيح استخدام مثل هذه الموسيقى، أما الديكور فكان مبرراً في المشهد 1، 2، 3 كونه يعبر عن تشابه السلطة، إلا أنه كان مملاً ولم يعط دفعاً للنص لفترة طويلة خلال العرض وساهم في ذلك الإضاءة التي ظلت صامتة لم تتبدل حتى المشهد الخامس «المتحرك». ينتهي النص بعقاب الوالي لرؤوس سلطاته الثلاث ويستبدل محلهم وزيراً ومحتسباً ومديراً لسجنه غير أن الوظائف ظلت كما هي لتخلق قساة جدداً. أجاد جمعة علي دوره في تقمص شخصية المحتسب وبرع فيه وأجد أن كل ما قدم من مواقف وبخاصة مشهده وهو يصلي داخل الصندوق كان مكتملاً استطاع أن يفضح زيف هذه الشخصية في تاريخنا العربي. أبدى المخرج حسن رجب تعدد مواهبه، فقد كان مصمماً لديكتور العمل ومشرفاً ومصمماً على الإضاءة والأزياء بالاضافة الى إخراجه للنص، أما كلمات الأغنية فكانت لعبدالله صالح والمكياج لروز وتنفيذ الديكور لمبارك ماشي الذي مثل دور النخاس، والإضاءة لآدم علي والصوت لإبراهيم حيدر والموسيقى لفهد الجسمي ومساعد الإنتاج لمحمد عبدالرزاق والإشراف العام لحميد فارس. «ثواني الرحيل».. حبل الغسيل وسيلة للتمسك بالعادات العرض الثاني كان لمسرحية «ثواني الرحيل» لفرقة مسرح كلباء الشعبي وهي من تأليف جمعة علي وإخراج فيصل الدرمكي وبطولة جمعة علي بدور صاحب المغسلة وأحمد ناصر بدور التاجر وسالم ملابك بدور الصديق وإيمان حسين بدور زوجة صاحب المغسلة وشارك في العرض المجاميع التي ضمت 10 اشخاص. تتكون المسرحية من مشهدين أساسيين يتخللهما رقصات تعبيرية تؤديها المجموعة. كان الاستهلال اختصاراً للمسرحية جميعها، ثم يأتي المشهد الأول ثم الرقصة ومن خلال كل ذلك يحاول المخرج فيصل الدرمكي أن يعيد الزمن عبر كسر المتوالية التسلسلية التعاقبية للزمن بعكس المسرحية السابقة «حاميها حراميها» لكي يتسنى له أن يظهر زوجته المتوفاة. القصة شخصية صاحب المغسلة كان دائماً يحاكي الساعة التي ترمز للزمن، هنا تتضح لعبة المخرج فيصل الدرمكي عندما يستخدم حبلاً للغسيل ليجعل منه دلالة على تمسك صاحب المغسلة بالعادات والتقاليد وثقافات مجتمعه ووطنه. كان صاحب المغسلة يعيش حياة هادئة، بل أجمل أيامه مع صديق له، وكانت ذكريات كثيرة ورائعة تجعله يتمسك بمغسلة الملابس، حيث ضم الديكور حبلاً ومصطبة وملابس معلقة. يجيء الدخيل وهو تاجر من خارج البلدة فيقلب المعادلة ويحاول تحويل أحداث المسرحية باتجاه نواياه بأن ينقلب الصديق على صاحبه حين أصبح سمساراً يفاوض صاحبه على بيع المغسلة للتاجر الدخيل. يرفض صاحب المغسلة بحجة معرفته بكل مآرب التاجر ومخططاته من أجل تهشيم الموروث الشخصي للمكان «لاحظ الرمز المعمق الذي لم يأت مباشرة». بعد عدة محاولات من التاجر، نراه ييأس، فيبدل مخططاته من شراء المغسلة الى الإلحاح على تغيير الحبل، وهنا نتساءل لماذا؟ وبحجة كون الحبل قديماً يرمي بوساخته على «البدلات» بالإشارة الى اختلافها عن الملابس المحلية. يتكشف لصاحب المغسلة المخطط الجديد، فيرفض، ويقوم التاجر بإنزال حبال كثيرة داخل المغسلة ـ هنا يتعمق الرمز أكثر، ويشرك المتلقي لاكتشاف تأويله ـ من أجل أن تتيه الفكرة ويضيع الحبل الأول بين الحبال التي أنزلها التاجر. تحولات الرمز حاول فيصل الدرمكي أن يقدم رموز نصه المسرحي بشكل متدرج، حيث التاجر الذي يرمز للأجنبي، والغربي خصوصاً الذي يريد شراء المغسلة، فيواجه برفض صاحبها ويحاول تبديل الحبل ما دام الأخير رمزاً يوحي بالترابط والانتماء الى ثقافة محلية متأصلة تمتلك تقاليدها، فإذا به لم يستطع شراء الأرض فليبدل العادات والتقاليد عليها، ولأنه لم يستطع ذلك تراه ينزل حبالاً كثيرة بما توازي مفهومياً الثقافات الأخرى والعادات الكثيرة من مثل العصرنة والعولمة كي تزيح العادات التقليدية للشعوب بحجة الانفتاح والتطور. استدعاء زوجة صاحب المغسلة المتوفاة من ذاكرة البطل صاحب المغسلة بوصفها داعماً لقناعاته بما يريد أن يفعل، إذا لم تختلف معه في مواقفها إبان الحياة وبالتالي كان استدعاؤها من ذاكرته في المواقف الصعبة يزيده قوة ويتمالك من خلالها نفسه ثانية من أجل مواجهة المواقف التي تمر عليه بعد رحيلها. يستطيع فيصل الدرمكي أن يفكر جيداً وملياً بكل ما يبثه من رموز داخل عمله الفني، إنه قادر على تناول الفكرة لا من طريقها المباشر بل عبر زوايا حادة يلج منها المشاهد ليعرفه بما يريد قوله. «لا هواء».. بين حرب الصغائر والتشبث بالمكان المسرحية الثالثة هي «لا هواء» لفرقة المسرح الحديث التابع لجمعية الشارقة للفنون الشعبية والمسرح، وهي من تأليف المخرج العراقي محمود أبو العباس وإخراج الإماراتي إبراهيم سالم، ومن تمثيل مرعي الحليان بدور الأخ الأكبر وسميرة الوهيبي بدور الجدة وصالح البحار بدور الأخ الأصغر وأحمد ناصر بدور العم وعبدالرحمن الزرعوني بدور الجار الإسرائيلي. يبدو أن النص المعروض لم يعتمد الفصول والمشاهد في عرضه المسرحي للقصة، بل استمر يقطع المشهد الواحد الى 7 مقاطع يفصلها انطفاء مؤقت للإضاءة يتوافق مع حالة الظلمة التي كانت تلف المدينة الفلسطينية التي كانت على الأرجح «غزة» بوصف العمل محاكاة لحادثة وقعت وتداولتها الصحف.. في كل ظلمة مؤقتة تسمع أزيز الرصاص وفي كل ذلك لم يتبدل الديكور الذي كان يضم سريراً يرقد عليه الأخ الأصغر المصاب وبرميل كازويل وفانوساً وستارة شفيفة تفصل عالمين هما أولاً عالم ظاهر يقدم المأساة مباشرة للجمهور وهو كل ما يحتويه البيت من الداخل الذي ضم تلك الأشياء والثاني عالم خارجي يشاهد ملامحه من خلال ستارة شفيفة يمكن أن ترينا حركة الشارع وركض الناس والقتال المستعر في المدينة الفلسطينية والدخان المتصاعد. كانت بداية النص بمشهد للظلام مصحوب بإطلاق رصاص كثيف. حينها يتكشف المسرح عن مريض «الأخ الأصغر» على سرير تجلس بجواره أمه ماسكة فانوساً، بدا المريض يطلب هواءً وثمة إصابة في رقبته، بينما كان الأب متوجعاً تلفه الحيرة والغموض، في جانب ستارة المسرح ـ بوصفها جداراً للبيت ـ كان ثمة وجه يطل على الأسرة ويكشف ما يستطيع رؤيته، أنه وجه الجار الإسرائيلي الذي يحاور أفراد الاسرة في كل مشاكلهم. من الكوة السوداء يمكن أن تتوضح بيئة الصراع، وهنا تفصح الجدة بأن هذا الجار يقاسمهم الجدار منذ ما يقرب من 60 عاماً، بينما يرفض أفراد العائلة جميعاً التعامل معه، بل يدخلون في حوار ساخن معه يكتنفه الرفض وعدم القبول، وكأننا إزاء قضيتين، الأولى المتمثلة بعلاقة جيل الجدة بالجار الإسرائيلي، والثانية بعلاقة الجيل الشاب بالعدو الإسرائيلي. البنية العميقة المخرج إبراهيم سالم تعامل مع دلالات بدت واضحة بشكل كبير، وكان المفترض أن يعيد طمسها في بناها العميقة لكي يجهد المشاهد أو المتلقي في استكشافها ومشاركته لعبة تشكيل النص ذهنياً. كانت لعبة إطفاء الضوء عن البيت الفلسطيني والإسرائيلي غير مقنعة ما دامت ثمة بروجكترات موجهة من أعلى سقف المسرح وكان الأجدى أن يظل الفانوس مشتعلاً بيد الأم ثم يتنقل بين الايدي طوال العرض ويضاء البيت الإسرائيلي لأن ذلك ما يشكل عمق مفهوم الصراع حيث نجد عالمين، الأول معتم والثاني مضاء. استخدم إبراهيم سالم الستارة الشفيفة ليقدم عالمين، عالم الداخل في البيت والمباشر مع الجمهور، وعالم الشارع الفلسطيني بكل ما فيه من مآس وصراخ وعويل وركض وانفجارات يمكن مشاهدته عبر الستارة الشفيفة وهو استخدام يحسب للمخرج حقاً مما جعله ينقذ النص، ما دامت الفكرة ذات إطار فيه من التقليدية الشيء الكثير من حيث مناقشة طبيعة الصراع الدائر في إطار ترميزي عام. في حوار الابن الأكبر مع الجدة حول مفهوم الجذور والبيت والتمسك بالأرض يبدو مقنعاً بالرغم من أنه مستهلك أيضاً، فالجدة المتمسكة بمفتاح وسند دارهم القديمة يقابلها الابن الأكبر ـ حفيدها ـ الذي لا يرى في الأمر قضية بيت قديم أو مفتاح، وإنما تطورت لتتعدى حدود المحسوس الى الأفكار والذات والوجود وتأكيده الإنساني أمام انسحاقات كبرى تمارسها قوى كبرى ضد المستضعفين. صراع الجدة مع زوجة ابنها وصراع العم والخال هو محاولة من المؤلف محمود أبو العباس أن يشير بهما الى صراعاتنا الداخلية التي لن تجعلنا نواجه أخطار الخارج، ويبدو أن استخدام العم والخال هو محاولة ترميزية تستهدف تمثيل الأطراف الفلسطينية التي تتقاتل على السلطة والاستحواذ على كرسيها وامتلاك مقدراتها مثلما نرى الخال والعم يتقاتلان على أحقية البيت الذي تتواجد فيه الأسرة وادعاء كل واحد منهما أنه يمتلك أرضه. موضوعات النص التقابل بين طرفين الأم وابنها الأصغر المريض من جهة، والجدة والابن الأكبر من جهة أخرى بسبب صراع الموت/ الحياة حيث يمثل الطرف الأول الموت من وجهة نظر الأم والطرف الثاني الحياة من وجهة نظر الجدة، لأنها تؤمن بضرورة استمراريته في قلب الابن الأكبر السليم والمعافى استمراراً للقضية الفلسطينية مع الأصحاء الذين يحملونها. وبالرغم من كل هذه القناعات التي تمتلكها الجدة نرى الابن الأكبر يستهزئ بها حين يقرأ أن المفتاح يحتاج الى باب والباب الى بيت والبيت قد سحقته الدبابات الإسرائيلية. «حرب الصغائر» و«العلاقة مع الآخر ـ الجار الإسرائيلي» و«العلاقة بين جيلين» و«التشبث بالمكان» و«تلوث الهواء» كلها موضوعات حاول النص أن يطرقها. وفيما يحاور الجار الإسرائيلي الابن الأكبر بادياً لطفه اللامعهود، نراه يخطط لمكيدة، فتبدو إشكالية العلاقة هنا ملتبسة. يطرح محمود أبو العباس بوصفه مؤلفاً فكرة أن الجميع يحمل صفة الأخ «أخ الأم، أخ الأب، الأخ الأكبر، الأخ الأصغر» أربعة شخوص يحملون صفة الأخ من 7 شخوص يتحركون على خشبة المسرح، فإنه بذلك يضرب على ذات الوتر الذي أردنا أن نتعمق فيه وهو أن ما يدور من صراع الآن ـ بوصفه داخلياً ـ إنما هو بين الأخوة، بينما نرى الوجه الإسرائيلي الذي يطل ويختفي بين لحظة وأخرى ما هو إلا الخديعة التي يشاهدونها كل يوم عبر الجدار. الجميع وبالرغم من أنهم متصارعون نراهم يتفقون فجأة على مواجهة الموت الآتي فيقررون عدم الرحيل حينما تحتضن الأم ابنها الصغير الذي توفي، ويختتم النص المسرحي بأبيات شعرية «أناديكم.. أشد على أياديكم» في محاولة من خارج النص طافحة بالمستهلك المسرحي الذي شاهدناه في بداية الثورة الفلسطينية.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©