الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الأسرى كثيرون.. والإبداع قليل

الأسرى كثيرون.. والإبداع قليل
22 يوليو 2009 23:11
خلف القضبان العالية لمعتقلات الاحتلال الإسرائيلي يقبع أدب آخر، أدب ولد في ظلماته ونبع من عذابات المناضلين الأسرى، فكان أصحابه شعراء بالفطرة لا بالدرس والبحث.. أصحابه رجال كسروا القيد بالكلمة وصنعوا منها سيفاً مضاءً على رقبة الجلاد. إنه أدب المعتقلات أو السجون الإسرائيلية، وكتّابه وشعراؤه هم المعتقلون الفلسطينيون. والمؤكد أن أغلب من كتب الشعر أو الأدب في المعتقلات الصهيونية كان على شكل هواية على المستوى الشخصي. كان توثيق هذه الأحاسيس ممنوعاً، حتى منعت الأقلام والأوراق عن الأسرى، إلا أن الإرادة صنعت المستحيل، فقد حوّل الأسرى أوراق السجائر وغطاء الزبدة ورقاً يوثقون فيها أعمالهم. أما أقلامهم فكانت أنابيب من الحبر يحملها إليهم الصليب الأحمر. وعلى جدران الزنازين حفر السجناء بأظافرهم ليخطوا قصائد الحرية التي تشتاق إلى شمس الوطن. والواقع أنه لا تختلف تجربة أدب السجون والمعتقلات، من مكان إلى آخر، فكما أنتجت المعتقلات الصهيونية أدباء وشعراء ينتمون إلي الحركة الفلسطينية الأسيرة، حفلت السجون السياسية للأنظمة العربية بحركة أدبية مميزة تمتد من المغرب إلى مصر والعراق وغيرها من البلدان. ويقول الباحث المصري الدكتور الطاهر مكي: إن أدب المعتقلات في الأدب العربي ترك لنا أعمالا مهمة منها ما يجمع بين السيرة الذاتية والرواية مثل كتاب مصطفى أمين «سنة أولى سجن». ولعل رواية «شرف» لصنع الله إبراهيم من هذا النوع، والبطل «شرف» نفسه هو البطل الذي يتعرض للحبس بتهمة غير ثابتة، لكنه سجن والتقى أعدادا مختلفة من المسجونين. وفي المغرب ظهر، على نحو متسارع في نهاية التسعينات ما عرف بأدب السجون، أي جميع ما كتب عن تجارب الاعتقال والحرمان من الحرية، والذي يشمل الرواية والشعر والمقال الطويل والقصة والشهادة، وبقدر ما كانت تجارب الاعتقال هذه فظيعة بقدر ما حاول بعض الضحايا تصويرها بما أنتجوا من روايات وشهادات ونصوص. فمن هؤلاء، من قدموا شهادات في شكل كتب، ومنهم من حاولوا الابتعاد قليلا عن الحكي المباشر لتجربة المعاناة بتفاصيلها وآثروا أن يقتبسوا كنه المعاناة هذه ويوظفوه في كتاباتهم، ونذكر منهم أحمد المرزوق، وجواد مديدشي، وعبد القادر الشاوي، وعبد اللطيف اللعبي. وما يصل بين هذه الكتابات جميعًا عن أدب السجون وتجربة السجن والمعتقلات هو أنها جميعا أشكال من المقاومة، هي تسجيل للقمع واحتجاج عليه بتعريته والكشف عن آلياته ولوازمه، وذلك على نحو يمتزج معه التسجيل الذاتي بالتوثيق الموضوعي، ويكتسب السرد ملامح نوعية يتحول بها السارد الضحية إلى شاهد على جلاديه، وتتحول الكتابة إلى فعل من أفعال الإدانة. ملامح متكررة وتتسم هذه الكتابة بملامح متكررة أو ثابتة، فهي تستخدم التوثيق وسيلة للإدانة، وكشفا عن بشاعة الجرم، سعيا إلى زيادة عدد المحتجين على النظام السياسي الذي ينتج هذه الظاهرة غير الإنسانية، وإدانة لهذا النظام في أعين العالم كله، وتأكيدا للحقيقة التي يسعى هذا النظام عادة إلى إخفائها وراء شعارات براقة. ولذلك يلحظ أن هذه الكتابات تلجأ إلى التفاصيل الواقعية المؤلمة مهما كانت قسوتها أو بشاعتها، وتتأنى سرديا ووصفيا إزاء مشاهد التعذيب والتنكيل والقتل الذي يحدث في السجون والمعتقلات، كما أنها تتم على سبيل الاسترجاع الذي يسعى صاحبه إلى تجسيد مشاهد الخوف والقلق والألم والحزن والغضب واليأس والإحباط وغيرها على الورق، خوفا من النسيان، وقصدا إلى أن تظل وقائع العذاب باقية في الوعي الجمعي كالعار، وفي تاريخ الطغاة كالجريمة، وفي مسيرة التحرر كالدافع المتجدد والمتوهج إلى الأبد. في كل ما سبق يتضح أن الجسد الإنساني يواجه عصر انحطاط يعيشه العالم العربي والإسلامي، لكن ذلك كله يظهر أن الذي يخاف من الكلمة هو السجين الحقيقي، أما الذي يكتبها فهو يجسّد الحرية ويصنعها. وفي التجربة الأدبية للحركة الفلسطينية الأسيرة على وجه التحديد، فقد سجلت في الآونة الأخيرة ظاهرة غريبة، إذ بات ما يعرف بأدب المعتقلات يشهد مرحلة جزر مؤخرا رغم وصول عدد الأسرى في السجون والمعتقلات إلى ما يقارب 11 ألف أسير. ويعزو الكثير من المراقبين تراجع الحركة الأدبية للأسرى إلى التراجع العام في مسار الثورة الفلسطينية والإحباط الذي يكتنف الأسرى من نتائج المسيرة السياسية مع إسرائيل. وبدأ التأريخ لأدب المعتقلات في فلسطين مع بداية الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية وقطاع غزة في العام 1967، حيث نصبت إسرائيل المعتقلات والسجون للفلسطينيين ومعها بدأت الحركة الأسيرة الفلسطينية معركة القلم والورقة مع الاحتلال. معتقلان للفلسطينيين وفي رأي الدكتور زاهر الجوهر حنني، وهو معتقل سابق، أن الفلسطينيين يعيشون في معتقلين، أحدهما صغير ممثلا بالمعتقلات نفسها، والثاني كبير ممثلا بالوطن كله. لهذا يمكن الجزم بأن التجربة الإبداعية داخل المعتقلات لا تختلف كثيرا عنها خارج المعتقلات إلا في إطار كونها تفتقد إلى بعض ما يتوافر عادة في المعتقل الكبير. كذلك فإن مسيرة الأسرى مرت بمراحل نضالية، استطاع المناضلون خلالها أن يحققوا منجزات كثيرة انتزعوها من إدارات المعتقلات انتزاعا، بالعصيان تارة وبمعارك الأمعاء الخاوية في أحيان أخرى، وبغيرها من وسائل النضال التي ما زالت متواصلة حتى يومنا هذا. وقد عبر المناضلون الفلسطينيون ـ ومنهم الأدباء ـ في المعتقلات عن كل تلك التجارب النضالية بعزيمة خاصة، وبطريقة خاصة أيضا، فكان أدبهم إبداعا له خصوصية نابعة في صفاتها من أعماق الجراح، وآلام الأسر ومقتضيات النضال، وفلسفة العطاء لوطن يستحق العطاء، كذلك ظل أدبهم حبيسا داخل زنزاناتهم. والدكتور حنني هو صاحب كتاب «شعر المعتقلات في فلسطين 1967 ـ 1993» التي يمكن القول إنها أول دراسة علمية أكاديمية تناولت هذا الجانب من الحياة الفلسطينية الإبداعية. كذلك هناك دراسة أخرى لحسن عبد الله بعنوان «النتاجات الأدبية الاعتقالية»، فضلا عن دراسة متأخرة زمنيا لفايز أبو شمالة بعنوان «أدب السجون». لا مقارنة وفي رأي الكاتب الفلسطيني رجب أبو سرية أنه: «لاتوجد مقارنة بين الحركة الثقافية في السجون في الوقت الحالي والماضي، المعتقلات كانت منابر ثقافية وتعليمية بل كانت مؤسسات إرشادية لمن هم خارجها، كانت عبارة عن مراكز الإنتاج الأدبي والثقافي الفلسطيني، أما اليوم فغابت الجلسات الثقافية والنتاج الأدبي أصبح قليلا جدا». ويؤكد أن الوضع السياسي الذي أفرزته اتفاقية أوسلو عام 1993 وما خلفته من تغيير لمفاهيم الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي أثر بشكل كبير على النتاج الأدبي والثقافي للحركة الأسيرة الفلسطينية. ويضيف: «بعد إبرام اتفاقية أوسلو تعاملت السلطة الفلسطينية مع ملف الأسرى بالاعتماد على حسن النوايا الإسرائيلية لإطلاق سراحهم، ولكن المفاوض الفلسطيني أخطأ في هذا الملف وكان يجب أن يصر على إنهائه قبل الخوض في أية قضية أخرى، حالة الإحباط التي يعيشها الأسرى نتيجة الوضعين السياسي والميداني في الخارج انعكست على الحراك الثقافي داخل السجون وجعلت الأسرى يركزون اهتمامهم على تحسين ظروفهم الاعتقالية والانشغال في قضايا أخرى غير القضايا الثقافية». ويشير أبو سرية إلى أن المرحلة الذهبية لأدب المعتقلات كانت في فترة السبعينات والثمانينات وأن مرحلة الجزر بدأت مع اتفاقية أوسلو مرورا بالانتفاضة الحالية وما انتهت إليه من انقسام داخلي. الرصاصة والقلم ويبين أبو سرية أن الحركة الأسيرة خاضت نضالات مريرة مع إدارات السجون الإسرائيلية لترسيخ حق الأسير الفلسطيني في القراءة والكتابة. ويضيف: «معركة الرصاصة والقلم بدأت منذ اليوم الأول للاحتلال الإسرائيلي عام 1967، حيث حاولت إسرائيل تطبيق النموذج العنصري في جنوب أفريقيا على الحركة الأسيرة الفلسطينية بسلب الأسير حقه في امتلاك قلم وورقة بهدف إجراء عملية غسيل دماغ للأسرى ودفعهم إلى التفكير بأوضاعهم الاعتقالية، غير أن الأسرى كسروا هذه الرغبة الإسرائيلية عن طريق تنفيذ سلسلة إضرابات أبرزها أعوام 1971، 1976، 1979، 1984، 1987، 1991، نجحوا من خلالها في تحقيق عدد من الحقوق من بينها السماح بإدخال أقلام رصاص وأوراق وكتب أدبية إلى المعتقلات»، ويشير إلى أن الحركة الأسيرة قامت بنقل بعض النتاجات الأدبية والثقافية من داخل السجون إلى الخارج بالاتفاق مع إدارات السجون عن طريق محامين أو عن طريق الأهالي عند الزيارات. ويؤكد أن الحركة الأسيرة كانت دوما رافدا للحركة الثقافية الفلسطينية بل إن كثيرين من الشعراء وكتاب النثر الفلسطينيين أبدعوا ووضعوا النظريات وعاشوا ذروة نتاجهم الأدبي والثقافي وهم داخل السجون الإسرائيلية. ويضيف: «الحركة الأسيرة الفلسطينية كانت دوما تسبق شعبها خارج السجوشن في مختلف الميادين»، وينوه إلى أن أول انتخابات ديمقراطية فلسطينية حقيقية جرت داخل السجون في العام 1971 بينما جرت أول انتخابات خارج السجون عام 1976 بعقد الانتخابات البلدية في ذلك العام. خريجو المعتقلات ويرى الكاتب الفلسطيني علي الخليلي صاحب العديد من الروايات والقصص والذي عاش فترة الاعتقال داخل سجون الاحتلال أن الحركة الثقافية والأدبية للأسرى الفلسطينيين عموما كانت في الماضي المرآة لمجمل الحركة الثقافية الفلسطينية. ويقول: «كانت السجون والمعتقلات عبارة عن مدارس وقلاع ثقافية حتى أنها أضحت الرافد الأساسي للنتاج الأدبي الفلسطيني رغم أن عدد الأسرى في السجون كان أقل بكثير مما هو عليه الآن». ويضيف: «التثقيف والتعليم الذاتي للأسرى أفضل مما عليه الوضع حاليا، لقد خرجت السجون أدباء ومبدعين وصدرت كتبا، وحركة التبادل الثقافي مع الخارج كانت كبيرة». ويبين أنه رغم أن الإجراءات الإسرائيلية في السجون كانت أكثر صرامة فيما يتعلق بالسماح للأسرى باقتناء أدوات الأدب من كتب وورق وأقلام، غير أن الأسرى استطاعوا أن يصدروا للخارج نتاجاتهم الأدبية خفية عن إدارات السجون. إلى الخارج واستخدم الأسرى الفلسطينيون على مدار سنوات من الاحتلال الإسرائيلي ما يعرف بالكبسولات لتهريب رسائل وكتابات خارج السجون حيث يقوم الأسير الذي قاربت مدة محكوميته على الانتهاء ببلع كبسولات قبل ساعات من الإفراج عنه تحتوي بداخلها أوراقا ورسائل مكتوبة بخط صغير الحجم، ثم يقوم بعد الإفراج عنه باستخراج هذه الكبسولات مما يفرزه الجسم. ويشير الخليلي إلى أن الإفراج عن أعداد كبيرة من الأسرى مع توقيع اتفاق أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل مكن الحركة الأسيرة من إخراج الكثير من نتاجها الأدبي والثقافي إلى خارج المعتقلات، لافتا إلى أن عددا كبيرا من الروايات والقصص والقصائد المعروفة في الأدب الفلسطيني كتبت داخل السجون. وكان الخليلي نفسه كتب واحدة من أبرز قصصه المشهورة وهي «المفاتيح تدور في الأقفال داخل المعتقل». ويقول الخليلي حول ذلك: «لقد جاءتني فكرة القصة وأنا داخل المعتقل وشرعت في كتابتها وبعد الإفراج عني قمت بإتمامها». ويتابع: «بلا شك تمثل السجون والمعتقلات تجربة أليمة تستنهض الأديب لإخراج كل ما في جعبته حبرا على ورق». مرحلة الازدهار ويعتقد الخليلي أن مرحلة الازدهار الأدبي والثقافي للحركة الأسيرة الفلسطينية استمرت ما بين عامي 1967 وحتى العام 1993 أي الفترة الواقعة من بدء الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية وقطاع غزة وحتى إقامة السلطة الفلسطينية على الأرض. ويؤكد الخليلي أن تراجع أدب المعتقلات يأتي في سياق عام لتراجع النص الوطني الأدبي وخصوصا انحسار أدب المقاومة في ظل مرحلة الجزر التي تعيشها الثورة الفلسطينية. وينوه إلى أن إقامة السلطة الفلسطينية على الأرض غيّر الكثير من المفاهيم والمصطلحات السائدة في الثورة الفلسطينية وأوجد بعدا وظيفيا لم يكن من قبل، فقل الاهتمام بالقضايا الوطنية وعلى رأسها قضية الأسرى وهذا خلق حالة إحباط في صفوف الأسرى وانعكست هذه الحالة سلبا على الحركة الثقافية والأدبية داخل السجون. بين انتفاضتين ويقارن الخليلي بين الانتفاضتين الأولى عام 1987 والثانية عام 2001 قائلا: «الانتفاضة الأولى مثلت حركة شعبية جارفة لم يكن هناك اختلاف حول أهدافها ولا أدواتها النضالية، بينما في الثانية فقد تباينت الأهداف ووجد اختلاف فلسطيني على الوسائل النضالية والأدوات ما انعكس سلبا على أدب المقاومة، وتوالت الانهيارات السياسية وهمشت قضية الأسرى، رغم ازدياد عددهم ما أدى إلى انحسار ملموس وكبير على الحركة الثقافية والأدبية الفلسطينية. وقسم الشاعر والكاتب والصحفي عبد الحكيم أبو جاموس أدب المعتقلات في فلسطين إلى قسمين أساسيين: الأول عبارة عن أدب توثيقي لنضالات الحركة الأسيرة ومعاناة الأسرى داخل السجون، والثاني نتاجات أدبية صرفة لشعراء وكتاب وأدباء فلسطينيين كتبوا نتاجاتهم داخل المعتقلات فصقلت تجربة الاعتقال الناتج الأدبي بالبعدين النضالي والوطني. وفي النتيجة فإن أدب المعتقلات في فلسطين المحتلة، كتب المعاناة الممتدة والمريرة التي كانت تجري داخل الأسوار العالية. معاناة انخرط فيها عشرات ألوف الفلسطينيين شبانا وشيوخا، نساء ورجالا وأطفالا، أجيال الجدود والأبناء والأحفاد، وخرج من تلك المعتقلات من يسجل سيرتها وسيرة أدبها وأدبائها.. لكن، يبدو أن مداد المعتقلين الآن قد نضب.. لم يبق لهم غير العرق والدم والدموع يقدمونها للوطن المعتقل هو الآخر.. تبقى السجون لكن أدبها انتهى أو توقف، ما السبب؟ ولماذا؟ تكثر الإجابات.. هل نشهد طفرة جديدة في أدب المعتقلات على الصعيد الفلسطيني؟ سوف ننتظر الإجابة من داخل المعتقلات نفسها.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©