الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

غربة الروح

31 مارس 2018 22:37
تشير عقارب السنة إلى الواحدة بتوقيت الغربة! من قال إنّ الغربة ليست جميلة!؟ بلى، إنّها جميلة بكلّ تفاصيلها، جميلة ببهرجتها وأضوائها وشساعتها. إنّها جميلة حقاّ، لكنّها باردة! باردة رغم أنّ كلّ ما فيها يوحي بالدفء، بل موحشة رغم بريقها الفاتن. أجمل ما في الغربة صدقها؛ فهي لا تخدعك ولا تغدر بك إطلاقا. لا تتوانى عن تذكيرك من حين لآخر، بأنك مجرّد ظلّ يجوب دروبها، يستجدي الدفء على عتبات الذكريات، ويبني قلاع الوهم على عتبات الوطن. جميلة هي الغربة لأنّها بسيطة، شفافة مثل المرآة، في بهوها تسقط جميع الأقنعة؛ إذ تجعلك تكتشف قيمة الروابط الاجتماعيّة، تتبيّن المتين منها من المزيّف، فتعيد اكتشاف قيمة الصداقة والأهل، وتعرف معنى الوحدة والصبر والمحبّة. وأكثر من ذلك، تجعلك تعرف من تكون، وتعرف طبيعة علاقتك بالآخرين، وتعرف مغزى الحياة وقيمة الصدق. تشير عقارب السنة إلى الثانية بتوقيت الغربة! كم تخلّل هذا الوجود من فقد وحزن، وأنت هناك بعيداً بآلاف الأشواق عن الأحباب! كم من عزيز ووري الثرى، وأنت لا تستطيع حتّى وداعه، فتكتفي بتقديم العزاء عبر الأثير مثل برنامج إذاعي رديء. مهلاً، هل قلت: عزاء عبر الأثير؟! كيف يمكن لهذا الهراء أن يكون ممكنا؟ كم من دموع هطلت على أبواب الأعياد، وأنت مثل قطّ يتيم يجوب دروب المدينة وفيافي الرمضاء لعلّك تنال نصيبا من فرحة العيد؟ كم من شوق زرعت وكم من حنين حصدت! واهما تشرئبّ نحو المستحيل. كم من أفراح ومناسبات عائليّة فاتك بذخها، وأنت تراقب من بعيد، مكتفيا بتخيّل ابتسامة هذا ومزاح ذاك، وشغب مريم الجميلة وهي تداعب جدّتها؟ كم من حزن بذلت، وأنت تعرف بأنّ قطعة من حضن وطنك قد أصابها الوهن وأنت لم تنهل من ينابيع حبها ما يكفي من زاد المسير؟ كم من حرص أنفقت، وأنت تطلّ كلّ مرة على هاتفك، خوفا من حدوث طارئ ما، أو خبر قد يجثم على هذه الآلة التي تبقيها متّقدة ومنتبهة ليل نهار؟ كم مرّة جلست تراقب عن بعد نزيف الوطن، تناقضاته وجراحاته التي لا تتوانى تفاجئ الجميع؟ تشير عقارب السنة إلى الثالثة بتوقيت الغربة! أشواق طويلة مرّت، وأنت لست هناك ولا هنا، كنت تعدّها ليصل وقت اللقيا والارتماء في أحضان الوطن. وعندما دقت ساعة العودة، قفزت من طائرة الغربة مسرعا متلهفا بحثا عن أحضان الوطن الدافئة. فأخبرني يا عزيزي، كم حجم الانكسارات التي ملأت الطرقات المؤدّية إلى هناك! وكم كانت خيبتك كبيرة؟ تعجز حتّى عن وصف إحساسك، وأنت تكتشف بأنّ كلّ شيء قد تغيّر، كل شيء، حتى الوجوه ازدادت تجاعيدها، الأطفال كبروا بغتة، علاقات أصابها الصدأ، عيون تترصّد الوشاية، قلوب بهت لونها، وأسماء قطفت من القاموس إلى الأبد. أليست الغربة في الوطن أقسى وأفدح؟  كنت تبحث عن أشياء وأشخاص وأحلام تركتها وراءك، لكنك عبثا كنت تبحث، عبثا تبحث. ما وجدت غير أياد باردة وشوارع صدئة وأحلام ميّتة. ما وجدت غير حقيبة وحلم لم يكتمل. حزمت الحلم في الحقيبة وطرت مرة أخرى نحو آفاق جديدة. تشير عقارب السنة إلى الرابعة وخمسين بتوقيت الغربة! أضواء بهيجة في الخارج، شرفة تطلّ على بحر الخليج الممعن في الزرقة والهادئ تماما كالحلم الذي يسكنني. وعصافير ثلاثة تزقزق في بهو غربتي. فنجان قهوة عربية، عبق حب الهيل وأغنية فيروز تصدح في الفضاء: «احكي لي... احكي لي عن بلدي احكي لي... يا نسيم اللي مارق ع الشجر مقابل لي... عن أهلي حكاية عن بيتي حكاية»... فيمتد حائط الزمن أمام بصري ويتسارع نبض الحنين... أرتشف قهوتي وأضم اشتياقي، وأنهل الهدوء من زرقة البحر الذي يتأمّلني... ويحكي لي الكثير عن ذكريات يدونها لزمن قادم. نبيلة مسعودي - أبوظبي
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©