السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

رؤية العالم من خلف أسوار السجن الانفرادي

رؤية العالم من خلف أسوار السجن الانفرادي
28 ابريل 2010 21:08
يعتبر النقّاد الكاتب الأميركي تينسي وليامز واحداً من صفوة الكتاب الذين سخروا أقلامهم لخدمة قضايا الإنسان من خلال إدانة العنصرية والتفرقة بين الناس على أساس العرق أو الدين من خلال أعمال مسرحية تتمتع بالكيفية الجمالية والدرامية التي تكشف ببراعة “الصنعة” عن التناقضات، خاصة في شخصية المجتمع الأميركي، وتشخيص بؤر الاستلاب والانشطار والقهر الذي تنخر فيه. في مقالة له بعنوان “البنية السيكولوجية في مسرحية قطة على صفيح ساخن لتينسي وليامز” يقول الكاتب العراقي عباس لطيف: إن مسرح تينسي وليامز خاصة في مسرحيته الشهيرة “قطة على صفيح ساخن” تكشف عن التفرد والعمق في أسلوبه المعبر من خلال الحوار الخلاق عن قوة التصدي لقوانين مجتمع شائك وملتبس كالمجتمع الاميركي، وقد تجلت قدراته الأسلوبية على مستوى الشكل والمضمون والالتقاط الشفيف لقضايا وهموم المجتمع في أعمال لا تقل أهمية عن هذه المسرحية مثل مسرحيات: “عربة اسمها الرغبة”، “معرض الوحوش الزجاجي”، “هبوط أورفيوس”، و”صيف ودخان”. ومن المدهش أن يتسلل الادهاش السيكولوجي الى كل هذه الأعمال وبالبراعة والمغايرة والتميز الذي عرف به الكاتب. ماجد نور الدين من المهم الإشارة هنا الى أن مسرحية وليامز “قطة على صفيح ساخن” التقطتها السينما المصرية في منتصف السبعينيات وأعدت عنها سيناريو فيلم “قطة على نار” بتوقيع المخرج سمير سيف وتمثيل كل من نور الشريف وبوسي، واعتمد سيناريو الفيلم على الفكرة الأساسية للمسرحية التي تقوم على الخواء العاطفي والشذوذ الجنسي. من جانب ثان قال وليامز عن مسرحيته هذه في المقدمة التي صدرت في كتاب خاص: “إن الهدف الذي آمل أن أحققه في هذه المسرحية هو ليس حل المشكلة النفسية التي يعانيها رجل بعينه، وإنما أحاول أن أضع يدي على على نوع التجربة التي تمر بها جماعة من الناس، وجماعة من الناس هم أسرة تعيش في دلتا المسيسبي في الولايات المتحدة الاميركية على رأسها رجل يتهدده الموت بمرض السرطان، وقد أخفى أعضاء أسرته هذا النبأ موهمين بأنه مجرد التهاب في “القولون” والأب هذا في حقيقة الأمر يملك 28 فداناً ويردد في سره على الدوام: كيف سأترك 28 فداناً لأشخاص أكرههم جداً؟”. في سياق متواصل يشكل وليامز واجهة مسرحية سخرت “النص المسرحي” لمناقشة هموم الإنسان أينما كان، ولهذا قيل إن مسرحياته إنسانية موضوعية أو شمولية الطابع والمعنى والفكر، ولهذا أيضاً أخذت مسرحياته صفة “الثورية” عبر حوار محكم جرئ ومتقن، جعله ينفرد عن أبناء جيله في بناء حوار خلاق يتمتع بشفافية عالية، على الرغم من التغييرات الكثيرة التي طرأت على الحياة الأميركية منذ الحرب العالمية الثانية وعلى الحياة في أوروبا التي تعرضت هي الأخرى لتنويعات من “الإرهاب النفسي الفكري” إذا جاز لنا مثل هذا التعبير، فإن هذا الكاتب الرائع حظي بمكانة مميزة في نفوس الجمهور والنقاد لسنوات طويلة كما لقي احتراماً طيباً على جهوده في تصدير مسرحية غير منحازة لأصحاب القرار، خاصة حينما كتب سلسلة من المسرحيات ذات الطابع الإنساني في ظلال سنوات ما قبل الحرب. بداية فاشلة ولد “توماس لاينر وليامز” العام 1914 في ولاية ميسوري، منتمياً الى عائلة متوسطة الحال، لكنه ومنذ صغره كان شغوفاً بفن المسرح، وظهر اهتمامه الشديد بذلك بعد أن شاهد مسرحية الكاتب المسرحي السويدي هنريك ابسن وكانت بعنوان “الأشباح”، كما كان متأثراً بنظرية سيجموند فرويد وكتابات د. هـ. لورنس، كما تعمق كثيراً بعوالم المسرحي فولكنر حيث الغموض والأجواء الشاعرية والرمزية. من هذا المدخل نستطيع القول إن كاتبنا بدأ يفكر جدياً في اقتحام عالم الكتابة للمسرح، واجتهد في بداياته في كتابة سيناريو سينمائي لشركة “مترو غولدن ماير” الشهيرة في مجال الإنتاج. بعد أن أتم كتابة السيناريو الأول والذي كان في الأصل فكرة مبسطة لمسرحيته التي ذاع صيتها فيما بعد “قصة الحيوانات الزجاجية”، نال أول صدمة في حياته، بعد أن رفضت الشركة عمله، كما أعلنت عن عدم التعامل معه فنياً. هذا الفشل دفع الفتى الصغير الى الاشتغال في العديد من المهن، أسهمت فيما بعد في كتابته للعديد من المسرحيات التي استفادت من الشخوص التي التقاها في عمله في تلك المهن، إلا أن انحرافاً خطيراً تسجله حياة وليامز، بعد أن انجرف لحياة السهر ومعاقرة الخمر بنهم شديد، حتى أصيب بانهيار حاد أدخله مصح الأمراض النفسية. كان ذلك عام 1936 حيث غادر المصح ليلتحق بجامعة إيوا، وقد وصف الرجل تلك المرحلة من حياته بأنها كانت في غاية الصعوبة والقلق، حيث كان جل تفكيره يتوزع بين استعادة الذكريات المؤلمة ومحاولة رصدها في أعمال أدبية مثل القصة القصيرة أو المسرحية. كانت الترجمة الحقيقية لهذا المناخ متمثلة في دخول عالم المسرحية ذات الفصل الواحد، حيث أعجب كل من تيريزا هلبيرن وجون جاسنر بأسلوبه وكتاباته، وقد أظهرا إعجابهما بمسودة مسرحيته “معركة الملائمة” ويرى وليامز أن هذه المسرحية هي الخطوة الأولى في العبور الى سلم الكتابة لفن المسرح. مراحل مسرحية حينما نتأمل حياة هذا الكاتب يمكن لنا أن نضعها في ثلاثة مراحل مهمة: الأولى ويمكن تسميتها بمرحلة المحاكاة أو التجريب على الأفكار الشعرية والغنائية بقوالب وصيغ مسرحية. والمرحلة الثانية التي ظهر بها باحثاً ومتأثراً ومبدعاً في مجال استلهام الموروثات الشعبية والأساطير والحكايات الخرافية وبرز فيها التأثير الديني بالميثيولوجيا اليونانية وكذلك الإيمان العميق بأفكار الفيلسوف سيجموند فرويد. أما المرحلة الثالثة والأخيرة وفيها حاول ابتكار صيغ وأفكار جديدة للمسرح بقصص مألوفة ذات اتجاه جديد، مؤكداً أن عذابات البشرية لا يمكن لها أن تنتهي إلا بتطوير تجارب الإنسان باتجاه خلق وضع اجتماعي جديد يلغي كل أشكال التخلف والمعاناة التي يعيشها الإنسان بسبب استخدام القوة والعنف والسطوة، داعياً الى السمو الديني من خلال “الوعظ الخفي” والتأكيد على الحلول لعذابات البشر، ولهذا عد الناقد فرانس نيشر مسرحيته “عربة اسمها الرغبة” واحدة من أروع وأجرأ مسرحياته على الإطلاق، بل عدها نموذجاً يحتذى في فن الكتابة في المسرح الأميركي المعاصر. ولهذا يمكننا القول إن معظم أبطال مسرحيات وليامز كانت متعلقة بشدة بفكرة الخلاص من خلال واقعية تقوم على وقائع حية من حياة المجتمع الأميركي بكل ما فيه من نزوع فردي واستلاب وغياب لكثير من القيم في ظل ماراثون بشري تسوده روح الاستهلاك والنزعة البراغماتية، وقد يتضح المنحى السيكولوجي والتجريبي هنا حينما نكتشف أن الشخصيات قد تحولت إلى قطط على صفيح ساخن، ولم يكن الأمر مقتصراً على “مارجرت” التي يصفها وليامز بأنها “قديسة ترتل الصلاة” فكل شخصيات المسرحية تقريباً كانت تعاني من قلق سيكولوجي تزيده روح الاستئثار والتملك تأججاً واضطراباً، ونجد دلالات ذلك في ما يسود جو المسرحية من كذب ونفاق وتزييف وجشع ومكايدة لنسف الآخرين وطموحاتهم بحمى الاستحواذ والاستناد الى لعبة المنافقة. وقال وليامز بعد افتتاح العرض الأول لمسرحية “عربة اسمها الرغبة” في نيويورك عام 1947: “أنا لا أعتقد بالأوغاد أو الأبطال، وما يهمني هو كيفية تعامل البعض مع الأفراد الآخرين على نحو حسن أوسيء، والأهم هو كيف يتعامل الإنسان مع الآخرين ليس عن إرداة إنما عن اضطرار أو بالعلاقة مع وضع ومع ماضي هذا الشخص الآخر ومحيطه”، حيث كانت أهم مشكلات المجتمع الاميركي في الخمسينيات هي العزلة والوحدة في عصر الإلكترونيات. وجوه الأربعينيات صنف العديد من النقاد أعمال وليامز على أنها تصلح كمدارس في فن الكتابة للمسرح ولفهم التطور التاريخي لحركة المسرح الاميركي، وقد أكدت بعض الدراسات والأبحاث بأن الدراما الأميركية لم تصبح ذات موضوعات أمريكية خالصة إلا منذ نحو 45 وأربعين عاماً، واستكملت أوج نضوجها الفني في مسرحيات عدد من الكتاب أمثال: يوجين اونيل رائد الواقعية وصاحب مسرحيات شهيرة مثل: “الامبراطور جونز”، “آه أيتها البراري”، “الحداد يليق بالكترا” وغيرها. كذلك الكاتب روبرت شيرود، المر رايس، آرثر ميللر. وقد اعتبر النقاد الكاتب المسرحي روبرت شيرود قريب الصلة بتنسي وليامز، من حيث القدرة على الانتقال من الكوميديا الرفيعة الى الدراما ذات الأثر الجاد في معالجة المشكلات الإنسانية خاصة قضايا التفرقة العنصرية ومأزق التعامل مع القوانين الاجتماعية التي فرضها أصحاب القرار بطريقة أو بأخرى. في السياق ذاته كان شيرود قد كتب في العام 1931 كوميديات حظيت باهتمام كبير بتعرضها لنظريات التحيلي النفسي على نحو ما وجدناه في مسرحية “اجتماع عائلي في فيينا”، وبعد أربع سنوات تقريباً عالج شيرود بنظرة سوداوية متشائمة موضوعات الأزمات الاقتصادية التي كانت تعصف بأميركا في ذلك الوقت ومن ذلك ما ترجمه من أفكار في مسرحيته التي حملت عنوان “الغابة المتحجرة” التي تعتبر من أفضل المسرحيات وأكثرها جودة على مستوى رسم الشخصيات والحوار ومعالجة المشاكل الاقتصادية. وقد أوجد كل من وليامز وميللر بعد الحرب العالمية الثانية حياة جديدة للمسرح الأميركي خاصة أن مناخ ذلك الوقت كان عسيراً بالنسبة لطبقة المثقفين والفنانين والمفكرين، وفي أغلب الأحيان كانت المسرحيات الأميركية خلال الثلاثينيات تظهر الأفراد على أنهم “نماذج” مثل الرجل الغني والمهاجر وغيره من النماذج، وقد وجدنا في الأربعينيات أن شخوص المسرحيات بدأت تعرض في مواقف مختلفة، حيث رأينا الفرد غريباً لا يتملكه أي شعور بأنه ينتمي الى أي مجموعة. ولهذا غدا الموضوع الأساسي في موضوعات وليامز هو موضوع انسلاخ الرجل المعاصر عن واقعه، حتى ان إحدى شخصيات وليامز تقول في مسرحية “الوحوش الزجاجية” التي كتبها عام 1945: “لقد حكم علينا بالسجن الانفرادي داخل خلودنا مدى الحياة” ولعل ذلك إسقاط واضح على وضع اميركا في تلك المرحلة. والمسرحية كما هو معروف هي ذكرى تختلط فيها مشاهد الماضي بالحاضر من خلال استخدام محكم وذكي لعنصر الحدث الاسترجاعي “الفلاش باك” وتحكي أحداث المسرحية قصة عائلة صغيرة تعيش في عالم مغلق في شقة صغيرة جداً، والشخصيات أم مكافحة وابنتها العرجاء المتقوقعة الخجولة، وابنها الكئيب الذي لا يشعر بأي نوع من السعادة، وفي تطور المشاهد نرى الابن يغادر عائلته ليبدأ في رواية القصة، ونرى أيضاً أن “بلانش دوبويس” في عالم غير واقعي يشبهها ببلده، حيث تحاول أن تخفي السن الذي وصلت إليه: “إنني لا أريد الواقع بل أريد الفتنة، نعم انني أحاول أن اقدم ذلك للناس، انني أحرف الأشياء بالنسبة لهم، انني لا أقول الحقيقة بل انني يجب أن أقول ما يجب أن يكون الحقيقة”. ولك أن تتعرف إلى الكثير من جوانب الشخصيات في مسرحيات وليامز، حيث يعتريهم دائماً نوعاً من الخوف من الواقع المعاش، ونوع من الخوف من قوة الزمن المهلكة التي تغير الناس ووجوههم وترسم خطوط الشيخوخة على تلك الوجوه التي كانت يوماً وجوهاً نضرة شابة. شخصيات مهزومة من معيشته وحياته في الجنوب استمد وليامز أدبياته، او قل عناصر التقاليد الأدبية الجنوبية التي برزت بقوة في أعماله، ومن اهم تلك العناصر الأحاسيس المرهفة والمشاعر المعقدة حول الماضي والحاضر، فيما يشكل الماضي بالنسبة له مخزوناً ينثره في جنبات شخصياته انه مخزون يجمع ما بين الحزن الأسود والشعور بالذنب والخوف. وعلى غرار ما فعله بعض الكتاب الجنوبيين، فإنه يصف مجتمعه بأنه نوع من جهنم الوحشية والتمييز العنصري المرفوض، وبذلك نجد الروح المريضة في كافة مسرحياته وهي تعكس صورة عن الأمراض الاجتماعية المستفحلة في حياة المجتمع. في البداية ربما بدا لبعض النقاد أن وليامز هو كاتب واقعي، وفي أغلب الأحيان كانت مسرحياته وكأنها لغة شعرية، كما أن الظروف والشخصيات تبدو مشوهة أحياناً، لكنه صمد كي تكون مسرحياته أكبر من الحياة، ومثل الكاتب إدغار آلان بو الذي كان هو الآخر جنوبياً، فإن وليامز متخصص في التراجيديات التي كتبها وتتحدث من خلال فن الاسقاط عن واقع هو الآخر مشوه، مآس تظهر فيها وقائع مناوشات رعب الروح على نحو مسرحيته “النعش الزجاجي المكسو بالجليد” الصادرة عام 1970، يتم تصوير الشخصيات بواسطة الرعب والكوابيس، فإحدى الشخصيات تفتح فمها مثل سمكة خارجة من الماء. على أن أخطر ما في آراء وليامز التي بثها من خلال شخص مسرحياته أنه كان يرى أن الحياة لعبة لا يمكن الفوز فيها، وبطريقة أو بأخرى فإن كافة الشخصيات التي صورها في مسرحه كانت تمنى بالهزيمة، ولكن هذا لا يعني أن رسالته تنتهي عند هذا المعنى، ففي مسرحيته الشهيرة “قطة على صفيح ساخن” الصادرة عام 1955 نجد بطلتها تقول: “إن الحياة وجدت كي يسمح له بالاستمرار حتى بعد انتهاء حلم الحياة”. مات وحيداً كتب وليامز الذي توفي العام 1983 عن عمر ناهز الحادي والسبعين سيناريو فيلم The Loss Teardrop Diamond في العام 1957، وكان ذاك في أوج شهرته في مسرح برودواي استنادا الى كتاباته التي حققت نجاحاً كبيراً، لكن يذكرنا هذا الفيلم بأنه جعل من بطل فيلم “العراب” مارلون براندو نجماً لامعاً. وقد اقتبس المخرج السينمائي الكبير اليا كازان فكرة مسرحيته “عربة اسمها الرغبة” في فيلم سينمائي بالعنوان ذاته ولعب أدواره مارلون براندو وفيفيان لي. كان وليامز يؤكد على الدوام أن الكتابة كانت قدراً له، وفي ذلك قال: “أقول الحق لم يكن لدي خيار في أن أكون غير كاتب” كما قال مرة: “إذا لم تستطع أن تكون ذاتك، فما فائدة أن تكون أي شيء مهماً كان؟”، بهذا الفهم العميق مارس وليامز فعل الكتابة حتى اصبح واحداً من عظام كتاب المسرح الأميركي المعاصرين، ونالت أعماله المسرحية شهرة واسعة وعرضت على خشبات المسارح في بلاده والعالم بعد أن ترجمت الى معظم اللغات بسبب مضامين تلك المسرحيات ولغتها وحوارها وجرأتها، كما اختار في أعماله مساراً مختلفاً تجسد في التركيز على العلاقات الإنسانية الجريحة والهشة ليعبر من خلالها عن أوجاعه الشخصية التي رافقته منذ سنوات الطفولة حتى وفاته وحيداً في أحد فنادق نيويورك تاركاً لفن المسرح إرثاً مسرحياً ما زال يتمتع بنفس الحياة والقوة والإثارة ومن ذلك روايته الشهيرة بعنوان “الربيع الروماني للسيد ستون” وقد اقتبس عنها المخرج جوزيه كوينتيرو عام 1950 للسينما فيلماً تحت العنوان ذاته، واعتبره وليامز من أفضل الأفلام التي أخذت عن أعماله. أما الرواية فترصد حياة ممثلة مسرحية أميركية حققت نجاحاً واسعاً، وسمعت الكثير من كلمات المديح والإطراء، وكانت محط اهتمام الجميع ليس بسبب موهبتها الفذة في التمثيل وأداء الأدوار ببراعة فقط، وإنما كذلك بسبب جمالها الباهر الذي يجعل منها إحدى سيدات المجتمع الأميركي المخملي اللواتي يعشن في رفاهية على الصعيدين المهني والاجتماعي. الكاتب هنا لا يركز على هذه الشهرة بل يجعلها خلفية زاهية لصورة الممثلة القاتمة بعد أن اعتزلت فن المسرح وعالم التمثيل وبلغ سنها حداً لا يمكن معه تحقيق مجد جديد، هي الآن تعيش وحدة قاتلة في ربيع روما البارد بعد أن تعرضت لثلاث حوادث في فترات متقاربة: تخلت عن مهنتها بسبب فشلها في أداء شخصية أصغر منها سناً وهو دور جولييت في مسرحية روميو وجولييت، وبعد هذا الفشل مات زوجها، وبعد ذلك بعام واحد بلغت سن اليأس، وهو إيذان بأن بريق الجمال خفت كثيراً، كل حادثة من تلك الحوادث الثلاث سجلت صدمة قاسية تركت لها انطباعاً بأنها باتت الآن تعيش وجود بعد الموت. إن وليامز كروائي يغوص في نفسية هذه المرأة، يراقب حالاتها النفسية المضطربة ومشاعرها الغامضة وعلاقتها المرضية مع ماضيها الذهبي البعيد، فهي لا تستطيع أن تتصالح مع سنها الذي لم يعد ملائماً لمغازلات الرجال ومديحهم. هذا الرفض للتأقلم مع تيار الزمن الذي يذهب بنضارتها بقسوة بالغة، يدفع السيدة ستون الى إقامة علاقة غرامية غير متكافئة مع الشاب الايطالي باولو الذي يواجهها في معظم الحوارات بحقيقة مرة: “أنت شديدة الاعتزاز بمجدك وثرائك وصورك في مجلات الأزياء والموضة وزوجك الهش الذي خلف لك ملايينه”. قد تكمن مقولة الرواية هنا، وعلى الرغم من أن الكاتب وبالتالي القارئ لا يتعاطفا مع السيدة ستون التي يظهرها وليامز شخصية متغطرسة أنانية وذات سطوة، إلا أن حقيقة أخرى تظهر بصورة لا واعية، وهي الظلم الذي لحق بهذه الممثلة الكبيرة والمصير المأساوي الذي آلت إليه، فهي أسهمت عبر عمل مضن في تطوير المسرح في بلادها عبر تجسيد أدوار مهمة، وكانت قديرة ومحترمة طالما كانت قادرة على جذب الجماهير وتحقيق الأرباح لمنتجي المسرحيات، لكنها الآن غدت منسية تعيش عزلة خانقة بعد أن فقدت القدرة على استقطاب الجمهور. هنا نعثر على انتقاد للعقليات المادية التي لا تسعى إلا للربح، وتنسى بسرعة أولئك الذين صنعوا لهم ذلك النجاح ومنهم السيدة ستون الغارقة في ربيع روما البارد والقاسي والحزين. أخيراً تكشف الرواية عن العوالم الخاصة التي يتناولها وليامز في أعماله فهو يسلط الضوء غالباً على الجوانب المهملة والمنسية في حياة الإنسان، كما يسعى الى إبراز شخصيات تعاني أزمات قاهرة، وبلا شك فإنه يستوحي هذا العالم المرير من تفاصيل الحياة المتعبة التي عاشها في مراحل حياته الأولى، انه يعبر عن ذاته ويحول الخاص الى العام بمهارة عالية ويحاول أن يدون تجاربه الشخصية في الحياة الصاخبة التي عاشها ويحولها الى أعمال أدبية ومسرحية حملت آراء جريئة، فكانت تلك الآراء ثمناًِ باهظاً دفعه عبر حياته القلقة على الدوام، لكنه سجل للعالم رصيداً متألقاً من الأعمال الصادقة والحقيقية فهو كان على استعداد أن يساوم في أي شيء إلا في عالم الإبداع والكتابة فقد اعتبر أن الفن هو من الإنسان وللإنسان.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©