الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

لوحة من الفن الأميريكي المعاصر

لوحة من الفن الأميريكي المعاصر
28 ابريل 2010 21:14
لم أتمكن من زيارة بيت العزاء خلال الأيام الثلاثة التي أعقبت وفاة زوجة زميلي في العمل، انشغلت ونسيت. تبين لي أن رئيسنا في العمل، واثنين من زملائي لم يتمكنوا أيضاً من زيارته بسبب انشغالهم. يحدث هذا، لكن، يظل الواجب واجباً، وأن نذهب متأخرين خير من أن لا نذهب، مثلما يقولون. هاتفته معزياً معتذراً عن تأخري، وأبلغته رغبتنا بزيارته في بيته مساء. صمتَ قليلاً، ثم رحب بشيء من التردد. بعد أن أغلقتُ السماعة تذكرت أنني لا أعرف البيت، ولم يسبق أن ذهبت إليه، فعلاقتنا لم تبلغ حدود الزيارات المتبادلة. تأففتُ، ضقت بنفسي، هاتفته مجدداً، استعلمت عن مكان بيته، فوصفه لي بعد تردد أيضاً. حين وصلنا، وجدنا شابين فارعي الطول بانتظارنا قرب البوابة الخارجية، علمت فيما بعد أنهما نجلا ذلك الزميل. صافحانا بفتور، واقتادانا إلى البيت. اجتزنا الحديقة، فوجدناه واقفاً بباب الصالون، يداه معقودتان ببعضهما أسفل بطنه، وتقاطيع وجهه تشير إلى الارتباك لا الحزن. عانقناه ونطقت شفاهنا عبارات العزاء التي بهتت لفرط استخدامها، ثم جلسنا. أغلقت جهازي الخلوي ذي الرنة التي لا تليق بكآبة الجلسة، وضعته على الطاولة الصغيرة إلى جانبي وحوقلت. أحياناً تصيبني الحيرة في مواقف العزاء، فالحذر يشل قدرتي على الحديث، وتنتابني خشية من قول كلمة أو عبارة قد تخدش جلال الموت وهيبة العزاء: ـ عظم الله أجركم، البقية في حياتك، رحمة الله عليها... كل هذه العبارات قلناها فور وصولنا، وماذا بعد؟ ثم إنهم، زوج المرحومة ونجلاه، جلسوا قبالتنا ولم ينطقوا! ثلاثتهم كانوا في حالة ارتباك صامت يستعصي على الفهم. كما لم يبادروا إلى فتح أي حديث، اللهم إلا كلمة “تفضل” التي كررها نجل زميلنا، أثناء تقديمه القهوة المُرة لنا. أحسستُ بأنهم بصمتهم الغريب، يتعجلون خروجنا. لو كانت المرحومة شابة لفهمت أن يستمر الحزن أياماً وربما شهوراً، لكنها كبرت وعانت من شلل تام في أطرافها ولسانها، جراء جلطة دهمتها منذ أربعة أعوام كما علمت، فما الذي يجعلهم واجمين مرتبكين إلى هذا الحد؟ الأهم، أنهم لم يكونوا حزينين، فأنا أعرف ملامح الحزن وغلالاته التي تعلن عن نفسها من دون ضجيج. هو بالذات، زوج المرحومة، كان متمترساً وراء صمته، رأيت ذلك وقرأته في انقباض وجهه الذي بدا متجهماً رافضاً فكرة النطق، وحتى حين اعتذرَ أحدنا عن تأخرنا، فقد رد عليه باختصار شديد يوحي بانتفاء رغبته في الحديث، إذ اكتفى بكلمة واحدة قالها بصوت مهزوز: ـ شرفتونا. وصار يفرك قبضة يده بكف يده الأخرى. أتراه غاضباً بسبب تأخرنا وحضورنا في خامس أيام العزاء؟ لكن ملامحه لا توحي بالغضب أو العتب، إنما بالتوتر. أدرت وجهي مستعرضاً أثاث الصالون، السجاد العجمي، الكنبات الفاخرة، الطاولات وكراسيها المتناسقة، الفضيات واللوحات، الإضاءة.. نظرت إلى ولديه الأسمرين: كان الأول يقضم رؤوس أصابعه بأسنانه وينظر إلى السقف، كأنما هو جالس لوحده، أما الثاني فلم تتوقف قدمه وساقه الملفوفة على الأخرى عن الاهتزاز! تبادلنا ـ زملائي وأنا ـ إيماءات الرغبة في الخروج، وقف رئيسنا في العمل، استأذن الخروج باسمنا، وقف الجميع، سرنا نحو باب الصالون، عانقناه وولداه مستخدمين العبارات إياها، ثم خرجنا واستقلينا سيارتنا. ما إن ابتعدنا عن البيت، حتى بدأنا تساؤلاتنا حول أسباب تجهمهم الذي تبين أنني لست الوحيد الذي أحسه، إنما أربعتنا. قال رئيسنا: ـ جو الجلسة غير مريح، لاحظتم ذلك؟ أجاب أحدنا: ـ شعرت أنه متضايق من زيارتنا. أضاف الثاني: ـ يمكن أن تكون الصدمة قاسية عليه. عاد الرئيس ليقول بامتعاض: ـ هنالك شيء غير طبيعي، لم يسبق لي أن شهدتُ عزاء كهذا. قلت: ـ الرجل وولداه كانوا متوترين، ألم تلاحظوا؟ ـ لاحظنا، لكن لماذا؟ قال اثنان منهم، فتابعتُ: ـ أتراهم اختلفوا مبكراً على إرث خلفته المرحومة؟ فانبرى أحدهم إلى القول: ـ المهم أن يكون هنالك إرث ليختلفوا عليه. ـ الموضوع ليس موضوع إرث. قال رئيسنا بنبرة العارف ثم أكمل: ـ يمكن أن يكون قد أوحى لأبنائه برغبته السريعة في الزواج؟ أيده أحدهم: ـ هذا ممكن؛ لأنه كثيراً ما تذمر من زوجته أمامنا في العمل، ليس بعد ابتلائها بالجلطة، إنما قبلها بسنوات. ـ لكن، لم تمض سوى خمسة أيام على وفاتها، أيمكن أن يكون متعجلاً إلى هذا الحد المشين؟ قلت، وقد انتابني إحساس أن الأمر مختلف تماماً عن تخميناتنا، وآزرني أحدهم بقوله: ـ كيف يتزوج وقد تجاوز الستين من عمره؟ كيف سيتدبر أموره التي تعرفونها في السرير؟ ـ لكل مشكلة حل في هذه الأيام، ألم تسمع بالأقراص المنشطة؟ قال الرئيس ثم أضاف محاولاً تغيير وجهة الحديث: ـ ألم تلاحظوا أن بيته جميل وأثاثه فاخر جداً؟ علق أحدنا: ـ هو رجل استعراضي، يحب نفخ نفسه أمامنا، كلكم تعرفون ذلك، ومن الطبيعي أن يكون صالون بيته بهذه الفخامة. وقبل أن أدلي برأيي، انطلق رنين الهاتف الخلوي للمتحدث بجانبي، وبدأ يحكي بسرعة مع امرأة، يبدو أنها زوجته، فتذكرتُ هاتفي الذي نسيته في بيت زميلنا، زوج المرحومة. حين أخبرتهم امتعضوا وأسمعوني كلاماً قاسياً، ليس لأنني نسيتُ هاتفي، إنما لأنهم مضطرون للعودة إلى ذلك البيت الذي تنفسوا الصعداء حال مغادرتهم له. قلت: ـ إذا كان ثمة من سيتأذى بسبب رجوعنا فهو أنا؛ لأنني أنا من سيقرع الباب ويدخل البيت، بينما ستبقون أنتم في السيارة. عدنا إلى بيته، نزلتُ من السيارة، دخلتُ البوابة الخارجية المشرعة، وقفت بباب الصالون، فسمعتُ صوت أغنية صاخبة تنبعث من داخله! ما الذي يجري؟ عزاء وأغنية صاخبة في آنٍ معاً؟ ضغطتُ كبسة الجرس، انتظرتُ قليلاً، فُتِح الباب عن رجل ضخم لم أره من قبل، نظرتُ حولي مرتبكاً، قلت: ـ أخشى أن أكون أخطأت، أليس هذا بيت.. فزفر مقاطعاً: ـ هذا منزلي أنا. ـ ولكننا كنا هنا قبل قليل، وعزينا.. فقاطعني بنفاد صبر: ـ نعم، صحيح، عزيتم جاري هنا في منزلي، ونسيتم جهازاً خلوياً سآتيك به الآن. وقبل أن يدخل لإحضار الجهاز، قال مشيراً بإصبعه إلى بيت صغير متواضع جداً قرب منزله: ـ ذاك هو بيت صاحبكم، لكنه طلب مني استقبالكم هنا في منزلي، لا أدري لماذا لم يستقبلكم في منزله؟ * قاص أردني
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©