الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

بين المتناهي واللاّمتناهي

بين المتناهي واللاّمتناهي
26 ابريل 2017 20:32
من المرجح أن يكون ابن عربي، وهو القمّة الشّامخة في تاريخ التصوّف الإسلامي، قد ألّف «كتاب الإسفار عن نتائج الأسفار» في نهاية القرن الثّاني عشر، حين كان لا يزال مقيماً بالأندلس. ولا يتعلّق السّفر في هذه الرّسالة بتنقّل في عالم الحسّ، أي تنقّل جسديّ للإنسان عبر المكان، بقدر ما يتمحور حول سفر الإنسان إلى خالقه، وأبعاد ودلالات ذلك السّفر، وذلك عبر ما جاء من آيات في محكم التّنزيل. نريد أن نبيّن هنا، من خلال الدّور المؤسّس للكلمة، أبعاد الإشكاليّة التي تكمن وراء ذلك السّفر وتسنده. ولد ابن عربي في مرسيّة سنة 1165م، وتوفّي بدمشق سنة 1240م، تاركاً وراءه إرثاً ضخماً وأعمالاً فكريّة نفيسة، مهيبة، ضمّت قرابة أربعمائة مؤلّف، غدت بمرور الزّمن من نوادر المعارف، بل إنّها باتت اليوم مصادر لا غنى عنها لكلّ متشوّف إلى المعارف السنيّة والأسرار الذّوقيّة الربّانيّة. ولئن كانت هذه الرّسالة تكشف عن أحد وجوه فكره فحسب، فإنّ تمحورها حول مسألة السّفر يضفي عليها أهميّة خاصّة في مسيرته الرّوحيّة. وقد أبان ابن عربي، بمجرّد تخيّره لعنوان هذه الرّسالة، عن مقصده: تناول المزايا التي يوفّرها السّفر. وفي هذا السّياق اعتمد على سلسلة من الأسفار ذات الدّلالات الرّمزيّة، ألا وهي أسفار الأنبياء والمرسلين، المستنبطة من القرآن الكريم، الّتي سيحدّد في نهاية كلّ فصل من رسالته تلك، منافعها ومزاياها. وقد نتساءل في هذا الإطار عن المكان الذي تتمّ فيه تلك الأسفار، طالما أنّ اللقاء الذي تحيل إليه، بين الإنسانيّ المتناهي والإلهيّ اللاّمتناهي، يبدو من قبيل الأمر المحال، إذ أنّى للإنسان المتناهي، هتك حدوده، وإدراك اللاّمتناهي، دون أن يكون قبل ذلك قد تجرّد من صفته ككائن موسوم بالمحدوديّة والتّناهي؟ مسألة الكشف لنتوقّف أوّلاً عند ما يعتبر أساساً للسّفر، أي الحركة، التي تبدو كليّة الحضور في تصوّرنا نحن للوجود، كما يفصح ابن عربي عن ذلك في رسالته: «لمّا كان الوجود مبدأه على الحركة، لم يتمكّن أن يكون فيه سكون، لأنّه لو سكن لعاد إلى أصله، وهو العدم. فلا يزال السّفر أبداً في العالم العلويّ والسّفليّ، والحقائق الإلهيّة كذلك، لا تزال في سفر، غادية.. رائحة..». بمعنى ما، لا تبدو الحركة حينئذ نابعة من الوجود، بقدر ما تكون عنصراً أساسيّاً في ظهوره واستمراريّته. ويبدو العدم وفق هذا التصوّر، كأنّه المكان الأصليّ لكلّ وجود. ثمّ إنّ هذا الوجود، طالما أنّه لا يمثّل غير بعد من أبعاد هذا العدم، فهو لن يتحيّز حقيقة، إلاّ باعتباره حركة. وينجرّ عن ذلك أنّه «ليس ثمّة من ثبات، وأنّ الحركة في هذا الوجود مستمرّة ومتواصلة». وتبعاً لذلك، فإنّ الإنسان بوصفه كائناً في عالم الأجسام، فهو بالضّرورة في حالة حركة، كما هي الحال، إلى حدّ ما، بالنّسبة للذّات الإلهيّة: «لذا.. فإنّ السّفر لا يتوقّف أبداً في العالم السّفليّ، كما في العالم العلويّ. كما أنّ الحقائق الإلهيّة لا تتوقّف عن السّفر(...)». واللاّفت في هذه الاستشهادات، هو المعنى المشترك لكلمتي: «الحركة» و«السّفر»، وانتقال الكاتب من إحداهما إلى الأخرى، دونما تمييز بين هذه وتلك. ومع ذلك، فإن هذين اللّفظين غير متكافئين، فإذا كانت فكرة السّفر تنطوي بالضّرورة على فعل الحركة، فإنّ العكس ليس صحيحاً، كما أنّ وجود الحركة لا يعني لزوماً أنّه ثمّة سفر. تشكّل كلمة سفر حينئذ جوهر هذه الرّسالة. وفي هذا الصّدد، كتب ابن عربي: «إنّ الأسفار ثلاثة لا رابع لها، أثبتها الحقّ عزّ وجلّ، وهي سفر من عنده، وسفر إليه، وسفر فيه...».. لذا.. يبدو أنّ صورة السّفر من منظور ابن عربي مشروطة بعنصر أساسيّ، أن يكون المولى سبحانه وتعالى قد أثبته، ووفق ذاك الإثبات، حدّد الشّيخ الأكبر تلك الأشكال الثّلاثة من الأسفار. ومع ذلك، ثمّة أنواع مختلفة من الأسفار، قد جمعها ابن عربي في صنفين رئيسيّين: أسفار يدعونا الشّرع الإلهيّ إلى التجهّز لها، وأسفار أخرى. لنتأمّل معاً في هذا السّياق ما جاء في «كتاب الإسفار»: «يتعيّن على العبد (...)، من ناحية، التفكّر وتأمّل الاِختلاف الكامن بين، السّفر الذي يدعوه الشّرع الإلهي إلى التجهّز له، وفيه تنطوي سعادته: سفر إليه، وفيه وله، أي الأسفار الواجبة عليه شرعاً، ومن ناحية أخرى، الأسفار التي لا نحتاج إلى التجهّز لها، كأن نضرب في الأرض لتحقيق غايات مباحة، مثل تعاطي التّجارة وتحقيق الرّبح، (...)». يتبيّن حينئذ، أنّ السّفر كما يفهمه ابن عربي، ينخرط في تمشٍّ أو حركة، تجعل الإنسان، باعتباره مخلوقاً ربّانيّاً، يولّي وجهه شطر مولاه. ومن ناحية أخرى، فإنّ الإنسان بوصفه كائناً متناهياً، لا يمكن له إدراك جوهره، إلاّ في علاقته باللاّنهائيّ. حينئذ.. يكون السّفر بهذا المعنى من قبيل الأمر الضّروري، لأنّه وحده، يجعل الإنسان، بشكل واعٍ، يحقّق ذاته، ويستعيد كينونته. (...) لنتمثل السّفر إذن، على أنّه بحث عن تلك العلاقة الضّروريّة بين المخلوق وخالقه. ولكن إلاَمَ قدَ ينتهي ذلك السّفر؟ يجيب الكاتب: «وهذا السّفر فيه، هو سفر التّيه والحيرة، فمن سافر من عنده فوجده، فربحه ما وجد، وذلك هو ربحه، ومن سافر فيه، لم يربح سوى نفسه، والسّفران الأوّلان لهما غاية يصلون إليها ويحطّون رحالهم، وسفر التّيه لا غاية له». وتبيّن تلك الأبعاد المختلفة، أنّ الغاية من السّفر لا تنخرط بالضّرورة في زمن متناه، أو زمن إنسانيّ، وأنّه ثمّة أسفار لا نهاية لها. وبالنّهاية، إنّ تلك الغاية لا ترتبط بالزّمن المتناهي، وإنّما تنتظم خارج الزّمن، طالما أنّ السّفر يكون بمثابة بحث عن الجوهر، وتوق إلى استعادة الذّات. وبهذا المعنى، يكون السّفر تشوّفاً إلى الاستمراريّة، وتطلّعاً إلى ما هو ثابت. غير أنّ وعي الإنسان بجوهر ذاته، بذلك المكان الثّابت داخله ككائن متناهٍ، يمرّ لزوماً عبر البحث عن اللّه، بوصفه خالقاً مطلقاً. لذا.. جاءت الرّسالة منبّهة: «واعلم أنّ الإنسان إذا جهل حاله، جهل وقته، ومن جهل وقته جهل نفسه، ومن جهل نفسه جهل ربّه، ورسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ينبئنا بأنّه (من عرف نفسه، عرف ربّه)». نلاحظ إذن، أنّه من حيث بعدها الجوهريّ، تكون لفكرة البحث عن الذّات وعن اللّه، منزلة أرفع في السّفر، من فعل التنقّل أو الحركة، الذي يظلّ مع ذلك أمراً ضروريّاً. يبقى علينا أن ندرك أيّة وسائل، وأيّة مراحل، قد تسمح للإنسان ببلوغ تلك الغاية. وفي هذا الخصوص، يستدعي ابن عربي انتباه القارئ للعنوان، وقد جاء هذا العنوان مشدّداً على موسيقى كلمتي إِسفار (والإسفار..الكشف) وأَسفار (جمع سفَر)، التي تحيلنا مباشرة على جذرهما المشترك (س. ف. ر). فباختياره لهاتين الكلمتين، أقام ابن عربي ضمنيّاً علاقة بين السّفر وفكرة الكشف، وبيّن أنّ «السّفر سمّي سفراً لأنّه يكشف أو «يُسفر» عن طباع البشر». لذلك فإنّ مسألة الكشف تظلّ مسألة أساسيّة في فكر ابن عربي، ونلمسها حين يتحدّث الكاتب عن نزول القرآن إلى الإنسان: «لا ينفكّ يتنزّل على قلبه (الإنسان)، من لدن مولاه، مجزّأ، إلى أن يتجمّع هناك، ويخلّف وراءه حجابه، متجاوزا «الأين» والكائن المخلوق (...)». ويعني ذلك أن الإنسان ككائن متناهٍ، بإمكانه إدراك أجزاء منبعثة من المطلق، بواسطتها قد يغدو بإمكانه القبض على بعض مدارات اللاّنهائيّ. وبالنّتيجة، يكون السّفر في نظر ابن عربي، هو البحث عن تلك اللّحظة الإكسيريّة التي يمّحي فيها الفرد، ليغدو هو ذاته مطلقاً في قلب المطلق. ويعرض لنا من هذا المنطلق الخطّة التّالية: «سوف نتناول في هذه الرّسالة المختصرة، الأسفار التي توصّلنا إلى معرفتها بفضل العلم والرّؤية المباشرة، وهي أسفار الأنبياء، أي تلك الأسفار السّماويّة للجواهر الكينونيّة، حتّى نتبيّن أيّ الأسفار ينبغي أن نُؤثر». وحتّى ندرك على وجه الدقّة أسّ مسألة السّفر- الكشف تلك، لنتوقّف عند الدّافع إليه، ولنعد تحديداً إلى السَّفر الأوّل الذي أشار إليه الشّيخ الأكبر، ذاك المتمثّل في الخلق. انبثاق الكلمة إنّ السّفر الذي يفتتح به ابن عربي رسالته هو السّفر الربّانيّ، الذي يورده تحت عنوان «السّفر الربّانيّ من العماء إلى عرش الاِستواء الذي تسلّمه الاِسم الرّحمان»، ولنركّز اهتمامنا هنا، على ذاك السَّفر الاِفتتاحيّ، الذي يكون أساسيّاً لسببين: فهو يمثّل استهلالاً لرسالة ابن عربي، ويتعلّق مباشرة بالألوهيّة، ويثير مسألة الاِنتقال من العماء إلى الألوهيّة (عرش الاِستواء): «اِعلم أنّ هذا سرادق الألوهيّة وحاجز عظيم يمنع الكون أن يتّصل بالألوهيّة، ويمنع الألوهيّة أن تتّصل بالكون.. حتّى العرش أو كرسيّ الملك الأقدس، أي حتّى الدّائرة التي تنطوي فيها جميع الكائنات». ويكون هذا السّفر ضروريّاً، لأنّ اللّه «لمّا أوجد دائرة الكون المحيطة، المعبّر عنه بالسّرير الأقدس، كان لا بدّ لملك لهذا السّرير، وهو يريد الإيجاد، والإيجاد يمدّه جود الوجود الإلهي». ينتهي هذا السّفر حينئذ بخلق الكائنات. ومع ذلك، كان «لا بدّ من الرّحمانيّة أن تكون الحاكمة في هذا الفصل، فاستوى عليه الاِسم، الرّحمان، في سرادق العما، الذي يليق بالرّحمانيّة الإلهيّة (...)، وهو الاسم الرّحمان الذي وسعت رحمته كلّ شيء وجوباً ومنّة»، ثمّ «لمّا سافر هذا الاِسم، الرّحمان، سافرت معه جميع الأسماء المتعلّقة بالكون»(...). ويبدو تبعاً لذلك، أنّ حركة خلق الكائنات بفعل المشيئة الإلهيّة، تقوم أساساً على إثبات الأسماء. وينجم عن ذلك أنّ تلك الأسماء هي التي سوف تحدّد من حيث الجوهر، علاقة الكائنات بخالقها. وبهذا المعنى، فإنّه عبر الكلمة خاصّةً، سوف يتيسّر للمخلوقات الإمساك ببعضٍ من أسرار الألوهيّة. وبهذا المعنى أيضاً، يكون الإله بالنّسبة للإنسان المجبول من كلمات، لغةً. غير أنّه من حيث الجوهر، لا يمكن أن تكون الألوهة المطلقة لغة فحسب. هي لغة ولا شكّ، ولكنّها أيضاً لغة فوق اللّغة. وفضلاً عن ذلك، فمن تلك اللّغة التي تكون فوق اللّغة، يمكن أن تنبثق لغة الكائنات، أي أنّ تلك اللّغة الخارجة عن اللّغة، هي التي سوف تجعل اللّغة متخيّلة وممكنة (...). وينبغي أن نضع في اعتبارنا أنّ ابن عربي يرى أنّ كلّ كشف، بما في ذلك الكشف الإلهيّ، يفترض وجوداً مُسبَقاً لما هو غير منكشفٍ، للاّمميّز، للعصيّ على الوصف، للمطلق.. غير أنّه كان قبل ذلك، قد شدّد على محدوديّة اللّغة وتناهيها، ليرى أنّ تلك الرّابطة التي قد تصل الكائن المتناهي بالمطلق، تكون حاملة في الوقت ذاته لمحدوديّتها، فينخرط الشّيخ الأكبر بذلك في قلب الإشكاليّة التي يثيرها استيعاب اللاّمتناهي. وإنّه ليتعذّر على اللّغة بالفعل، القبض على ذلك اللاّمتناهي أو المطلق، وإنْ كانت مهيّأة لاستشعار حضوره، كما يبيّن ابن عربي ذلك في رسالته: «فإذا أردتّ أن تسافر في معرفة ما عدا أسماء الأفعال بأفعالها، خرجت عن كرة العرش خروجاً غير مبائن ولا منفصل، وأردت التعلّق بالجانب الإلهي الأقدس، فوقعت في الحمى، وهو سرادق العما، فتخبّطت فيه، ولكن لا بدّ للواصل أن يلوح له من بوارق الألوهيّة ما تحصل له به معرفة ما..». إنّ هذا الاستشهاد ليبيّن بوضوح، أنّ الرّابطة الأصليّة بين الإنسان وخالقه، وبالتّالي بين المتناهي واللاّمتناهي، لا تسمح بإدراك شموليّ للذّات الإلهيّة. وبالنّهاية، نحن لا علم لنا عنه إلاّ ما علّمنا، وما بلّغه المرسلون والأنبياء لنا، ولا شيء آخر. لذا تبقى أسماؤه كنوزاً مخفيّة، متفلّتة أسرارها عنّا. ونعثر على إيضاح آخر لهذه المسألة الأساسيّة في مقدّمة السّفر الثّاني، في فصل (سفر الخلق والأمر، وهو سفر الإبداع) الذي نقرأ فيه: «تبدأ السّورة، بعد خلق الأرض، بكلمة (ثُمّ)، التي توحي بوجود مهلة من الزّمن». ما يتمّ توضيحه من قبل الكاتب هنا، هو أنّ خلق الأرض يتموقع، بوصفه انبثاق من المطلق، في زمن لا يمكن أن يكون إلاّ منطوياً في الصّمت، مسكوتاً عنه ومضمراً في كلمة (ثُمّ)، وعصيّا في كلّيته، على القول. والنّتيجة، أنّ الكلمات تسمح، ولكن بصورة متناهية، بوصف الأزمنة المختلفة للخلق. ومع ذلك، فعبر الفعل العصيّ عن الوصف، يتكشّف المطلق. ويعني ذلك، أنّ الكلمة التي يتعذّر عليها تحديداً الإفصاح عن كلّ شيء، يجعلها اللاّمتناهي المؤسّس لتلك الكلمة، تستبين وترتسم. حينئذ.. لا يمتلك الإنسان بحكم طبيعته المتناهية، غير (شذرات) منبثقة من المطلق، ولكنّه لا ينفكّ يسعى إلى لملمتها وتجميعها، وضمّها إلى بعضها البعض، حتّى تُسفِر عن زوايا أوسع. ولا شكّ أنّنا بحاجة إلى أن ننزّل الإنسان في علاقته باللّه، في تلك الحركة المزدوجة. وبالمقابل يمكن أن نلاحظ أنّ ذلك التمشّي ينخرط تماماً في إشكاليّة الكشف، وبالتّالي في موضوع السّفر، كما تناولناه بالوصف سابقاً. ولكن، ونحن نتوقّف عند ذلك الاِتّحاد الجوهريّ بين السّفر والكشف، ترتسم أمامنا أيضاً علاقة أساسيّة أخرى: تلك التي تصل موضوع السّفر بمسألة الكلمة. لنمض قدماً إذن في هذا التمشّي، ولنعد إلى الكلمة الأسمى التي يحيلنا إليها ابن عربي، ألا وهو القرآن الكريم. سفر في ما وراء الكلمة ينبغي أن ننزّل القرآن، كتاب الكلمة الإلهيّة بامتياز كما يراه ابن عربي، في سياق التمشّي الذي اعتمدناه سابقاً. ويتحدّث الكاتب عن القرآن بهذه الكلمات: «الإنسان الكليّ على الحقيقة، هو القرآن العزيز، نزل من حضرة نفسه إلى حضرة موحّده...». بعبارة أخرى، يكون القرآن الكريم هو الحيّز الذي عنده يتحقّق كمال الإنسان. وفي ما وراء ذلك، يبدو، باعتباره فيضاً إلهيّاً أدْرَكَنَا عبر بعثة الرّسول (صلّى اللّه عليه وسلّم)، وكأنّه نقطة الاِلتقاء بين المطلق والإنسان. وبهذا المعنى، تستبين الطّريق التي ستجعل الإنسان، يعثر من جديد، بالكلمة، على ذلك المطلق المستكنّ بداخله، والذي عنه صدر. وبالنّهاية، قد يسمح بشكل من أشكال التحقّق، الذي يمرّ بالنّسبة للإنسان بإسلام نفسه للكلمة الإلهيّة، حدّ الاِندماج فيها والتّماهي معها. حينها يغدو الإنسان والقرآن والألوهيّة، أوجهاً من وجوه الأبديّة، أي من ذلك الزّمن الخارج عن الزّمن. ثمّ، نحن نقف من جديد هنا إزاء فكرة أنّه من وراء الطابع المتناهي للّغة، يمكن أن يتمّ الكشف على اللاّنهائيّ. وعلاوة على ذلك، فإنّ إثارة الحديث عن علاقة الإنسان بالنصّ القرآنيّ، تحيلنا أيضاً على فكرة «الإنسان - الكتاب»، التي صوّرها ابن عربي من خلال لقاء بين أبي العبّاس الخشّاب، رفيقِ الإمام أبي مدين، ورجل جاء لزيارته، ليستفسره حول كتاب يهمّ السّلوك الصّوفيّ. وقد التمس هذا الأخير من الشّيخ بعض النّصح، قبل أن يقرأ عليه جزءاً مهمّاً من الكتاب الذي أحضره معه، فأجاب أبو العبّاس مازحاً «كان الأجدر بك أن تقرأني أنا». ونلمس في هذه القصّة الطّريفة بعضاً من جوانب المسائل التي كنّا بصدد إثارتها، وإنْ لم يكن الكتاب هنا، يتعلّق بالقرآن الكريم. ولعلّ ذلك هو الذي قد يجعل توصيفنا للانصِهار بين الإنسان والكتاب، أمراً ميسوراً. وفضلاً عن ذلك، نحن نرى جيّداً، كيف أنّ الإنسان، وهو يتشوّف إلى المراتب العلويّة، ينتهي به الأمر إلى الاِندماج في الخطاب، حتّى يغدو هو ذاته.. الخطاب، أو الكتاب. ولنشر هنا، إلى أنّ علاقة الإنسان بالمدوَّن، هي علاقة ذات بعد ثنائيّ. فالمدوَّن بوصفه مستودع الخطاب الربّانيّ، يبدو كأنّه حجّة، بالنّسبة للإنسان التّائق بواسطته إلى حالات الكشف من ناحية، ومن ناحية أخرى، يكون الإنسان ذاته كمدلول ظاهر، هو الذي يعطي معنى للمدوَّن ويجعله يتحيّز في الوجود. ولنعد الآن إلى نصّ الرّسالة التي يستعرض فيها ابن عربي سلسلة من الأسفار المستنبطة من القرآن الكريم. ولن تكون تلك الأسفار المقدّسة، محلّ وصف فحسب، بل محلّ تحليل دقيق، إذ كما يوحي عنوان الكتاب بذلك، كان الغرض هو الكشف عن نتائجها. ومن هذه النّاحية اكتسبت تلك الرّسالة بعداً تأويليّاً، والأسفار التي تتتابع في الرّسالة، تعلّقت تحديداً بالألوهيّة، بالخلق وبالقرآن، بالنبيّ، بآدم وإدريس ونوح وإبراهيم ولوط وموسى. وكان الغرض من الاستشهاد بتلك الأسفار المقدّسة، هو مرافقة الإنسان في أسفاره الخاصّة. وفي سياق الرّسالة، بيّن ابن عربي الموقف الذي ينبغي أن يبديه قارئ الرّسالة من الأسفار التي قام بعرضها: «فهذا أنموذج من ذلك، أي حظّنا من سفر لوط، وكذلك كلّ سفر أتكلّم فيه، إنّما أتكلّم فيه في ذاتي، لا أقصد التّفكير، تفسير القصّة الواقعة في حقّهم، وإنّما هذه الأسفار قناطر وجسور موضوعة نعبر عليها إلى ذواتنا وأحوالنا المختصّة، فإنّ فيها منفعتنا، إذ كان اللّه نصَبهَا معبراً لنا...». وبالنّهاية، إنّ الأسفار التي عرضها القرآن على سبيل الاستعارة، لا بدّ أن تكون بالنّسبة للفرد التّائق إلى معرفة ذاته والمتشوّف إلى مولاه.. نافعة. وبهذا المعنى، إنّ تلك الأسفار الكونيّة، وفي ما وراء تمثّل المسارات الخاصّة للأفراد في علاقتهم بالإلهي، سوف تكون جزءاً لا يتجزّأ من التمشّي الفردي للقارئ. وعلى هذا المستوى، تصبح قراءة الرّسالة في حدّ ذاتها.. سفَراً، وهي تشكّل مع ذلك جزءاً من ذلك السّفر الأكبر الذي ينبغي أن يتوق إليه كلّ إنسان، ذلك الذي يقود إلى الكشف. وهكذا، يغدو السّفر على صهوة كلمات المكتوب الذي يقوم به القارئ، سفراً في هذا المكتوب أيضاً. وإذا كان هذا السّفر يرتبط بصورة حميميّة بالكلمة، وإذا كان الكتاب سيبدو على أكثر من مستوى محدّداً بليغاً لوجهة السّفر، فإنّ بِنية الرّسالة من حيث جوهرها، تقودنا إلى النّظر إلى السّفر في ما وراء علاقتنا بالمكتوب. وينبغي التّذكير هنا، أنّ الرّسالة لا تكون مفتوحة إلاّ بالقدر المعلن في المقدّمة عن سلسلة أسفار استمرّت إلى غاية عهد المسيح (عليه السّلام)، فيما تتوقّف الأسفار القرآنيّة التي تناولها التّحليل، مع موسى عليه السّلام. وتحيلنا تلك البِنْية بالطّبع إلى الطّابع اللاّنهائيّ للسّفر، لأنّه من ناحية، يكون من غير الممكن ختم عرض تلك الأسفار المرجعيّة في الكتاب ذاته، ولكن.. أيضاً، لأنّ ذلك العرض يجعل العلاقة بين استعارات النصّ القرآني والقرّاء علاقة مساميّة. والحال أنّ الجميع، بغضّ النّظر عن الأزمنة والأمكنة، هم من البشر. والبعض من هؤلاء، ممّن استمسكوا بالكلمة الإلهيّة، كانت لهم علاقات فريدة بالخالق، فتوصّلوا إلى حالات الكشف بعد أن توفّقوا في تحقيق ما يشبه السّفر الأكبر. وتظلّ قائمة الذين قاموا بإحدى تلك الأسفار.. مفتوحة، وبإمكان كلّ فرد أن يجد له مكاناً فيها، ويتابع بشكل ما.. تدوين الكتاب. ومن ناحية أخرى، أن نتوقّف عن ذكر الأسفار القرآنيّة وتأويلها، فتلك دعوة للقارئ كي يمضي إلى ما وراء الكتاب، وألاّ ينظر إليه على أنّه غاية منتهية. ذلك أنّ الكتاب هو تجلّ ربّانيٌّ، وبوصفه كذلك، هو استهلال ومرحلة محتّمة في السّفر إلى اللّه. ثمّ إنّه في تجاوز المكتوب بوصفه تجلّياً، يغدو الكشف أمراً ممكناً. لذا، إنّ التوقّف في السّفر عند المكتوب الذي يسمح به التّأويل، لا يعني في ذاته نهاية السّفر، بل الأمر هو على العكس من ذلك تماماً. ثمّ، أن نتوقّف عن ذلك السّفر ونترك المكان للسّكون، أفلا يكون ذلك وسيلة تجعل المنكشف يتجلّى، وبالتّالي أن ندرك أبعاد الأسفار الإلهيّة من ناحية، وأن يغدو بإمكاننا السّفر إلى اللّه بلا واسطة هذه المرّة، من ناحية ثانية؟ وبعبارة أخرى، قد نرى في السّفر الذي تمثّله رسالة بن عربي علامة حصر ترِدُ للتّشديد على جملة من المسائل الأساسيّة، أي تلك المرتبطة بعلاقة الإنسان، بوصفه كائناً متناهياً، بالألوهيّة باعتبارها مطلقاً. وتُدرَكُ تلك العلاقات بالطّبع في ما وراء الرّسالة، إذ إنّها تذهب على الأقلّ إلى ما وراء المقول. وهذا بالتّحديد ما سعى ابن عربي، في محتوى رسالته كما في بنيتها، إلى إبانته: فالسّفر إلى اللّه ينبغي أن يؤسّس على التجلّيات الإلهيّة، ولكن بالقدر الذي يسمح بتجلّي اللاّمنكشف. وبمعنى ما، إنّ وجود الكتاب ذاته، يفترض أن يسبقه مثالٌ، لا في الزّمن ولكن في المطلق، قد يكون هو الكتاب أو اللاّ كتاب. فعبر الكتاب، وفي تجاوزه إلى اللاّ كتاب، يمضي المسافر باحثاً عن ذاته خارج حدود المكان والزّمان. غاية السفر الغاية من السّفر لا تنخرط بالضّرورة في زمن متناه، أو زمن إنسانيّ، وأنّه ثمّة أسفار لا نهاية لها. وبالنّهاية، إنّ تلك الغاية لا ترتبط بالزّمن المتناهي، وإنّما تنتظم خارج الزّمن، طالما أنّ السّفر يكون بمثابة بحث عن الجوهر، وتوق إلى استعادة الذّات. وبهذا المعنى، يكون السّفر تشوّفاً إلى الاستمراريّة، وتطلّعاً إلى ما هو ثابت. غير أنّ وعي الإنسان بجوهر ذاته، بذلك المكان الثّابت داخله ككائن متناهٍ، يمرّ لزوما عبر البحث عن اللّه، بوصفه خالقا مطلقا. الأسماء كنوز مخفيّة إن الرّابطة الأصليّة بين الإنسان وخالقه، وبالتّالي بين المتناهي واللاّمتناهي، لا تسمح بإدراك شموليّ للذّات الإلهيّة. وبالنّهاية، نحن لا علم لنا عنه إلاّ ما علّمنا، وما بلّغه المرسلون والأنبياء لنا، ولا شيء آخر. لذا تبقى أسماؤه كنوزا مخفيّة، متفلّتة أسرارها عنّا.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©