الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

ابن عربي ولاوتسو وحدة الاختبار الروحي

ابن عربي ولاوتسو وحدة الاختبار الروحي
27 ابريل 2017 15:02
في خريف العام 1924، ألقى الفيلسوف واللاهوتي الألماني رودولف أوتو محاضرة في الولايات المتحدة، عنوانها: (باطنية الشرق وباطنية الغرب) (1)، وفيها كشف عن نظائر مدهشة بين سانكارا (800 قبل الميلاد)، وهو المعلم الهندي لعقيدة انعدام الثنائية، وبين ايكهارت (260-1327م) المعلم الريناني للوحدة البسيطة. لم يُرد أوتو من مثل هذا التناظر بين معلمين صوفيين ينتمي كل منهما إلى حضارة مختلفة عن الأخرى، إلا بيان الوحدة الواصلة بين التجارب الروحية في الحضارات الإنسانية. أما مغزى الأفكار التي قدمها أوتو في هذا الصدد، فهي في الكشف عن وجود بنى مماثلة في ظاهرة التصوف، بمعزل عن المواضع المكانية والفترات التاريخية. ولئن كان بعض التجارب ينزع إلى اتخاذ أشكال متقاربة في التعبير اللغوي وأشكال متقاربة في التعبير الرمزي، إلا أن هذا التماثل لا يلغي التمايز أو الاختلاف. على العكس من ذلك، فإن جوهر التصوف - كما يبين أوتو &ndash لا يمكن أن ينبثق إلا من مجموع التمايزات الممكنة. صحيح أن التعابير المختلفة للظاهرة الصوفية تتحدد بالظروف التي تفترضها السياقات الدينية أو الثقافية المختلفة، إلا أنها تتجاوزها في الوقت نفسه. الدارس المقارن لهذا الاختلاف والتمايز في الاختبارات الروحية، يسعى حين يتعلق الأمر بالتعبير الصوفي، إلى إقامة فواصل حاذقة بين النقل (الواعي) والالتقاء (العفوي). وفي الواقع، فلدى التعرض إلى النص الصوفي المتعدد، فإننا غالباً ما نخرج من طريقة المقابلة والمقارنة بنتائج مدهشة. وهو ما يمكن أن نلاحظه مثلاً، حين ننتقل من السياق الإسلامي إلى سياق آخر ينتسب إلى حضارة عميقة الغور في روحانيتها كحضارة الشرق الأقصى. نجدنا في مثل هذه الحال كما لو أننا بإزاء حوار داخلي حميم بين فضاءين مختلفين متباينين، إلا انهما يلتقيان على جوهر واحد. وهو ما يفضي إليه التصوف كإعراب عن وحدة التجربة الروحية. أما نقطة الالتقاء في فضاء التصوف فهي في ما عبر عنه محيي الدين بن عربي في الفتوحات المكية: الخلاف حقٌ حيث كان(2). وهذا المقتضب من قول الشيخ الأكبر دال على مقصوده من وحدة الوجود والشهود. فالله المتجلِّي في عوالم خلقه هو وحدة واختلاف، وظاهر وباطن، وأول وآخر.. وما عُرِفَ الحق إلا بجمعه الأضداد. تلقاء هذا، ثمة تمثيل مواز من فضاء فلسفي وصوفي مختلف مؤداه أن: (العين التي أرى بها الله هي نفسها التي بها يراني)، وهي النقطة التي توقف عندها هيغل، بعد أن تعرف عليها عن طريق الفيلسوف والمتصوف الألماني فرانتس بادر، عام 1824. لكن من قبل أن نمضي في موضوعنا حول وحدة التجربة الصوفية على نطاق كوني، من المفيد الوقوف، ولو باقتضاب على ماهية التصوف وخصائصه النظرية والعملية كما بيّنتها الثقافات الإنسانية المختلفة. ماهية التصوف لدى السؤال عن ماهية التصوف ومعناه، تتعدد الأجوبة وتتنوع بتعدد وتنوع البنى الحضارية للجماعات الإنسانية. الباحثة الأميركية أفلين أندرهل Evelyn Undrhill (3) درست التجارب الروحية في الإسلام والمسيحية والبوذية، ولاحظت أن ما يسمّيه العالم «تصوّفاً» هو علم المطلقات... أي علم الحق الواضح بذاته، والذي لا يمكن «التفكير فيه بالعقل»، والصوفي هو من يتوق إلى معرفة ما هو مطلق، لكنه يدرك أن المطلق تتعذر معرفته من خلال استخدام العقل فقط. فالمتصوّفة لا يرون في التفكير العقلي، كقاعدة عامة، دليلاً كافياً إلى الروح، ولذلك يستعملون أنواعاً أخرى من النشاط العقلي ليقاربوا المطلق المحيّر. ولما كان لكل ثقافة نصيبها من التصوّف، ورغم اختلاف الأسماء التي أطلقت على المطلق والطرق التي يُسلك إليه من خلالها، يبقى جوهر كل ثقافة متوافقاً مع ما سبق ذكره. هكذا سنرى أن فيدنت يوغيس يبحث عما يسميه «إدراك اتحاد الأتمان بالبراهمان» من خلال ممارسات تأملية وزهدية. إن بوذية الزن تتغيَّا الوصول إلى الوعي الكوني من خلال تأمل صارم تزول من خلاله ثنائية التفكير كلياً وإرادياً من ذهن السالك؛ تماماً كما يسعى الصوفيون إلى اختبار «انتقال الروح» (تجربة مباشرة للمقدّس) من خلال العيش بعزلة، ومن خلال الفقر والتقوى، التي يقصد منها «تحرّر» القلب من كل ما هو غير الله«(James, 455)؛ وأما القديسون الكاثوليك فإنهم يتوجهون نحو اتحاد الروح بالله من خلال الصلاة والصوم والتأمل. أما في التصوف الإسلامي المشبع بالحقيقة القرآنية، فقد انتظمت هندسته المعرفية مع الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي حيث جرى الإعراب عن الشوق إلى المطلق عبر التجلِّي الإلهي في عالم الوجود. الأمر الذي عبّرت عنه منظومة ابن عربي العرفانية بـ (وحدة الوجود ووحدة الشهود) وهي من أعظم ما أنجزته الخبرة الإنسانية في فضاء التصوف. ماهية التصوف إذاً، تكمن في (القدرة على فهم الحقيقة المتعالية)؛ وهي قدرة كامنة في صميم النفس البشرية. تقول أندرهل: قلّة من الناس يمرّون في الحياة من دون معرفة معنى التأثر بالشعور الصوفي (Underhill, 73). قد يكون مشهد الشمس من قمم جبال بعيدة، أو صوت سمفونية أو معانقة حبيب مفقود من فترة طويلة، أو مشهد فقير متألم، سبباً لهذا(الشعور المتعالي الذي يتدفّق من جزء آخر من النفس ويهمس للفهم والحواس بأنهم غافلون عن شيء ما). هذا الشعور مألوف لكثيرين، لكن ما يميّز الصوفيّين عن سواهم هو الانسجام الاستثنائي معه. هذه التجربة التبصّرية تتعدد مسميَّاتها في الثقافة الصوفية والعرفانية. منهم من يذهب إلى تسميتها بـ (الصحوة)، ومنهم من يراها كشفاً للمكنون وتجلياً للألوهية، وأما آخرون فقد انبروا إلى وصفها بـلحظة الانتقال من العدم المحض إلى الجلاء والاستنارة. الصحوة وسواها مما تقدم من أوصاف لأحوال الصوفي تشتمل على إدراك مفاجئ متبصّر لحقيقة العالم العظيمة والبديعة &ndash أو أحياناً لوجهها الآخر، الأسى الإلهي في قلب الأشياء. لكن لا يوجد كلمات يمكن أن تصف هذا الإدراك. أما عالم المدركات الماضية في واقعه، فلا يمكن أن يكون إلا ضبابياً في أحسن الأحوال. ثمة إذاً ثلاثة أوجه أساسية لتلك الاختبارات: أولاً، إنها مفاجئة وقوية؛ ثانياً، تؤدي إلى ترك العلائق الدنيوية؛ وثالثاً، تثير قوة دفع شديدة نحو معرفة إضافية بما تم كشفه في التجربة. يتحدث الفيلسوف الوجودي الألماني مارتن هايدغر (4) عن نموذج أعظم من التجربة الأولية المتعالية، يسميها (القلق الأساسي). القلق الذي يكشف عن اللاشيء (الكامن) في داخل (كل كينونات العالم الداخلي - what is metaphysics).. ويرى أن «القلق الأساسي يمكن أن يستيقظ في الوجود في أي لحظة، ولا يحتاج إلى أي حدث غير اعتيادي لإيقاظه». وأما الحقيقة المتعالية التي تكشف عنها الصحوة، فلا يمكن بلوغها عبر وسائل التفكير العقلي الميتافيزيقي، ذلك لأنها تتجاوز كل مفهوم عقلي قد يسعى هذا النوع من التفكير لحبسه في الداخل.دلّت الاختبارات الروحية لدى العرفاء والقديِّسين في مدار الحضارات العالمية المتنوعة، على أن فهم الأمر القدسي وإدراك أسراره يمكث في المنطقة العليا من الإيمان. والمعني بهذا هو الدرجة التي يصل إليها المؤمنون بالسير والسلوك إلى معرفة أنفسهم، ومعرفة الموجودات وصولاً إلى معرفة الله. والذين يصلون إلى هذه الدرجة المتعالية، هم الذين يطلق على كل فرد منهم صفة العارف أو الإنسان السالك في طريق الكمال. فالإيمان الأقصى هو الذي يوفّر لصاحبه القدرة على التجاوز والتعالي والاستيعاب والإحاطة. ومن يبلغ تلك الدرجة القصوى يستطيع أن يعيش المجاز والحقيقة بنفس المقدار. وان يعيش الغيب والشهود كما لو كان معهما في عالم واحد. فالإيمان في حده الأقصى هو إمكانية جوهرية للإنسان، ولذلك فوجوده ضروري وكلي، وهو ممكن وضروري أيضاً في كل زمان ومكان. وإذا فُهِمَ الإيمان في جوهره على انه همُّ أقصى، - كما يقول بول تيلتش - (5) فلا يمكن إذّاك أن يثلمه العلم الحديث أو أي نوع من الفلسفة. ثم إنه يسوغ ذاته ضد من يهاجمونه، لأنهم لا يستطيعون أن يهاجموه إلا باسم إيمان آخر. ولعل أبرز ما في واقعية الإيمان أن الذين يرفضونه إنما يعبِّرون، وهم يفعلون ذلك عن إيمان ما. مع ذلك فإن جانباً مهماً تستظهره منزلة القدسي في الاجتماع الإنساني. وهذا الجانب هو ما يفضي إليه التصور الدنيوي المحض القائل بالتناظر الضدي بين الإيمان والعقل. فعلى هذا الصعيد يجب أن يسأل المرء أولاً: بأي معنى تُستعمل كلمة (عقل) حين تُواجَه بالإيمان؟ هل المقصود بها، كما هي الحالة الشائعة اليوم، أن تُطلّق بمعنى المنهج العلمي والصرامة المنطقية والحساب التقني أم أنها تُستعَمل، كما كان الحال في كثير الحضارات البشرية ولا سيما الحضارة الغربية، بمعنى منبع المعنى والبنية والمعايير والمبادئ؟ ثمة إجابات لا حصر لها وردت في سياق المحاجّات بين أهل الإيمان وأهل الإلحاد، يصعب إيرادها في هذه العجالة. العقل والتجلِّي عند ابن عربي لئن كانت هذه هي الرؤية التوحيدية الصوفية التي قوربت في الفكر الغربي الحديث، فسنجد ما يناظر خصائصها الجوهرية في المدرسة الصوفية التي وضع معالمها الكبرى الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي فلو كان لنا أن نستجلي هذه الرؤية على وجه الإجمال، فلا مناص من الوقوف عند أطروحته حول التجلِّي الإلهي في عالم الخلق. تأخذ مسألة التجلي التي هي حاصل الإيمان الأقصى، بُعداً محورياً بالغ الأهمية في منظومة التفكير العامة عند ابن عربي، فتجلّي الله أمرُ يتحقق في قلب العارف، ولكي يشرح ابن عربي نظريته فيما يخصّ (الإله المصطنع من الاعتقادات) يربط التجليات الإلهية وقلب الإنسان العارف ربطاً محكماً، ويقول: «وإذا كان الحق يتنوع تجلِّيه في الصور(الصورة)، فبالضرورة يتّسع القلب ويضيق بحسب الصورة التي يقع فيها التجلِّي الإلهي، فإنه لا يفضل شيء عن صورة ما يقع فيها التجلِّي، فإن القلب من العارف أو الإنسان الكامل بمنزلة محل فصّ الخاتم من الخاتم». وتحرير هذه المسألة أن لله تجلّيين: تجلّي غيب، وتجلّي شهادة، فمن تجلّى الغيب يعطي الاستعداد الذي يكون عليه القلب، وهو التجلِّي الذاتي الذي الغيب حقيقته، وهو الهوية التي يستحقها بقوله عن نفسه: (هو). فلا يزال (هو) له دائما أبداً، فإذا حصل له. أعني للقلب. هذا الاستعداد، تجلى له التجلّي الشهودي في الشهادة فرآه فظهر بصورة ما تجلّى له. فهو تعالى أعطاه الاستعداد بقوله: «أعطى كل شيء خلقه»؛ ثم رفع الحجاب بينه وبين عبده، فرآه في صورة معتقده (معتقد). فهو عين اعتقاده، فلا يشد القلبُ ولا العينُ أبداً إلا صورة معتقده في الحق، فالحق الذي في المعتقد هو الذي وسع القلب صورته، وهو الذي يتجلّى له فيعرفه، فلا ترى العين إلا الحق الاعتقادي، ولا خفاء بتنوع الاعتقادات: فمن قيده أنكره في غير ما قيده به، وأقر به فيما قيده به إذا تجلى، ومن أطلقه عن التقييد لم ينكره وأقرّ به (له) في كل صورة يتحول فيها، ويعطيه من نفسه قدر صورة ما تجلى له، إلى ما لا يتناهى، فإن صور التجلي ما لها نهاية تقف عندها، وكذلك العلم بالله (تعالى) ما له غاية في العارف (العارفين) يقف عندها، بل هو العارف في كل زمان يطلب الزيادة من العلم به، «ربِّ زدني علماً» «ربِّ زدني علماً» «ربِّ زدني علماً». فالأمر لا يتناهى من الطرفين(6). حين يبوح العارف الواصل بحال من أحواله فلا ينبغي أن نتوقع منه شرحاً عما هو فيه، أو في ما اختبره في نفسه. وقد تكون هذه واحدة من أظهر سمات الأولياء والعارفين ممن رزقوا العلوم الكشفية وما بان لهم من حقائق الغيب. ولئن كان لكل ولي اختبار معنوي، فهو مخصوص به وليس لغيره منه إلى حظ الإخبار اللفظي، فضلاً عن أنه لا يتكرر للولي على النحو الذي جاءه من قبل. ولذا فالحادث الروحي الذي مرّ على عين العارف وفؤاده، إن هو إلا إخبار إلهي عن أمر غير منظور حتى للعارف نفسه من قبل أن يؤتى بالخبر. وما ذاك إلا لأن هذا الحادث، وان كان ثمرة سير وسلوك ومجاهدة &ndash فهو إشراق رحماني حل في صدره من لدن الروح القدس. وإذن فإنه بهذه المنزلة عطاء مجاني، وحين يتصرف الولي بهذا العطاء على نحو المكاشفة، سيكون شأنه شأن العبد الصالح الذي أوتي علم الكتاب حيث قال تعالى بلسان ذلك العبد: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} (7). لقد واجهت فلسفة التصوف معضلة إدراك السبب الذي يجعل الاختبارات الروحية أمراً عصياً على السرد وفقاً لقوانين المنطق. بعضهم يذهب إلى أن الحقيقة القدسية لا تُعقل. ومعنى لا معقوليتها أن الإدراك الإنساني والجهاز المفهومي الذهني عاجز عن عرض هذه الحقيقة وإيضاحها. وبعضهم يرى أن الحادث المعنوي أمر لا عقلاني وغير قابل للتوصيف. ذلك بأن التجربة الروحية تتحصل بالمباشرة، من دون أن ترتدي لباس المفاهيم. وهذا عائد الى أن الكلمة تقف في مقابل المفهوم، ومن ثم لا يكون لها معنى إذا ما افتقدت مفهوماً معيناً، وبناء عليه فإذا لم يكن ثمة مفهوم في التجرية، فلا يمكن حينئذٍ تشريح الحقيقة التي تحتويها تلك التجربة من خلال نظام دلالي لغوي وبمنظومات لفظية كلامية. (8) ومثلما ظهرت معضلة استعصاء الكشف على البيان في اختبارات التصوف الإسلامي، كذلك ظهرت وتبعاً لخصوصيتها اختبارات التصوف في الأديان التوحيدية الأخرى. يعتقد الفيلسوف الإنكليزي والتر ستيس في كتابه: «العرفان والفلسفة» إن السبب الذي يمنع تفسير التجارب العرفانية هو تأبّيها عن المفاهيم. كما أن سبب عجز الفهم البشري عن إدراك هذا النوع من التجارب هو أن القوانين المنطقية الحاكمة على مجال الفهم الإنساني لا استخدام لها في نطاق هذه التجارب. يرى العارف هنا أن في تجربته تناقضاً. أي أنه يشاهد ما ينقض قوانين المنطق، وهو &ndash من ثم &ndash كلما حاول صوغ ما شاهده في لباس من الألفاظ وجد نفسه متورطًا في تناقض مقولي. أي أن العارف يجد نفسه محاطاً بأناس لهم منطقهم العام، فيما هو يأنس لمنطق ذاتي خارج عن مألوفهم. وعندما تصل الكلمات التي يعبر فيها عن أحواله، فإنهم غالباً ما يأخذهم الشك كلماته فيرمونه إذّاك بالشطح والتكذيب. ولهذا فهو يعود حسيراً تائهاً محاولاً تفسير ما حدث بأن المشكلة هي في لسانه ومنطقه القولي وهو لا محالة سوف يعتقد بأن تجربته &ndash وفقاً لذلك &ndash غير قابلة للوصف والبيان. (9) القضية نفسها شغلت ابن عربي كثيراً، حتى لنراها مبثوثة بالإشارة والعبارة في كبريات أعماله وقد توزعت في صعيدين: الأول: في صعيد التنظير لفلسفة التصوف، والثاني في صعيد التجربة الشخصية. ولعل الشيخ الأكبر هو أحد أكثر العرفاء الذين ساجلوا الفلاسفة والمتكلمين وأهل الحرف من الفقهاء وبخاصة لجهة استعصاء كشوفات الأولياء ومعارفهم على الإعراب. يقول في «الفتوحات»: إن علوم أهل الأسرار الحاصلة عن طريق الكشف والشهود بالتجلي الإلهي وتلقي الفيض القدسي تقع وراء حدود العقل ومجاله (...) ثم إن هذه المعرفة التي يهبها الحق تعالى لمن شاء من عباده لا يستقل العقل بإدراكها، ولكن يقبلها فلا يقوم عليها دليل ولا برهان، ثم أن هذه الأوصاف الذاتية لا يمكن العبارة عنها، لأنها خارجة عن التمثيل والقياس، فإنه ليس كمثله شيء، فكل عقل لم يكشف له من هذه المعرفة شيء يسأل عقلاً آخر«. (10) بعض المحقِّقين لاحظوا هنا طائفة من الاستنتاجات: = منها: أن المعرفة الوهبية (علوم الكشف والشهود والتجلّي) هي معرفة يفهمها العقل ويراها صحيحه ومن ثم فهو يعترف بها ويقر لها. = ومنها: أن العقل غير قادر - بالاستقلال واعتماد طريق الفكر والنظر &ndash على الوصول إلى هذه المعرفة أبداً، ومن هنا كانت واقعة في طور فوق طور العقل. = ومنها: أن العقل على الرغم من استقباله هذه المعارف بوساطة الفيض الإلهي ويقر بها، إلا أنه عاجز عن شرحها وتفسيرها بمنظومة المفاهيم والقضايا التي يحملها، ذلك أنها معرفة لا تتكيف مع هذه المفاهيم (11). = ومنها كذلك أن السر في بلوغ العارف معرفةً بالحق تعالى خارجة عن طاقة الفكر والنظر، يكمن في أن العارف يتحد بالحقيقة التي يصلها في تجربته العرفانية، الأمر الذي لا يحصل بتاتاً في المعرفة العقلانية. ذلك أن الإنسان هناك يدرك الحقيقة من وراء حجاب المفاهيم (...) ثم إن الإنسان الذي يبلغ القدرة الإلهية المطلقة بتجربته العرفانية، يفهم ببصيرته أن كل قدرة في هذا الوجود إنما هي مظهر للقدرة الإلهية، أما سلوك سبيل العقل فهو لا يؤدي بالإنسان إلا إلى التصديق بقدرة الله سبحانه من دون أن يشاهدها.. ومن هنا، يخطو العقل النظري عند ابن عربي في معرفة صفات الله وأسمائه خطوات سليمة في الطريق الصحيح، ويدرك الحقائق &ndash بهداية الأنبياء &ndash إدراكا جيداً، ويرسم خريطة الوجود ومراتبه رسماً مطابقاً للواقع وفق نظام صحيح تماما، فيغدو عالماً عقلياً شبيهاً بالعالم العيني، إلا أنه رغم ذلك كله، لا يبلغ مبلغ العارف في شهوده، فيظل يميزه عنه ما يميّز فهم معنى الحلاوة عن تذوق العسل (...) ومع ذلك فإن ابن عربي، يقرّ &ndash من جهة أخرى &ndash بأن الاكتفاء بهذه المعارف العقلية لا يؤدي إلى الاتصال بالحقيقة المصحوب ببلوغ الكمال والسعادة الحقيقيّين، وإنما يظل الإنسان &ndash رغم هذه المعارف &ndash عَطِشاً كما كان من قبل، ويبقى يتخيّل الماء من دون أن يبلغ فاه، ومن ثم فلا يصدره أو يرويه. (12) ديالكتيك العدم والجلاء عند لاوتسي لا ينأى الطريق إلى فهم الحقيقة اللاَّمتناهية للوجود لدى العرفان الإسلامي عما توصلت إليه صوفية الشرق الأقصى من مقاربات لتلك الحقيقة. فالحقيقة المقصودة هي نفسها، وان اختلفت اللغة ووسائط الإعراب عن الاختبارات الروحية والمعنوية بينهما. يقول لاو تسو:»التاو لا يدرك فهو لا يتعلق بالأفكار«و»تعاليمي يسهل فهمها... لكن عقلك لن يستوعبها أبداً«(Tao Te Ching, 21,70). يمكن أن تطول هذه اللائحة على نحو غير محدد، لأن الصوفيين مجمعون في موقفهم المعارض لأن يكون العقل طريقاً يمكن أن يوصل إلى قمة الجبل المقدس. وفي مقطع آخر يقول الحكيم الصيني:»فوق ليس مشرقاً /&rlm&rlm تحت ليس مظلماً /&rlm&rlm يعود إلى عالم اللاشيء /&rlm&rlm صورة من دون صورة /&rlm&rlm لطيف لا يناله إدراك /&rlm&rlm اقترب منه ولكن ليس هناك بداية /&rlm&rlm اتبعه ولكن لا يوجد نهاية /&rlm&rlm لا تستطيع معرفته لكنك تستطيع أن تكون هو /&rlm&rlm اعرف فقط من أين أتيت /&rlm&rlm هذا هو جوهر الحكمة. (Tao Te Ching 14). يقوم جوهر التاوية على فكرة مؤداها التالي: إن الوجود بأجمعه، بما فيه الوجود الإنساني، يتكون من قوتين أو طاقتين متكاملتين: (ين ـ يان) وتكتب أيضاً (ينغ ـ يانغ) ولفظها الصحيح هو(ينگ ـ يانگ). ويمكن ترجمتهما بعدة كلمات: (المؤنث ـ المذكر)، (البارد ـ الحار)، (المنفعل ـ الفعال)، (السالب ـ الموجب). هذه (الثنائية تكاملية) بمعنى أن أي طرف منها لا يوجد الاّ مع الطرف الآخر. فليس هنالك ليل من دون نهار، شهيق من دون زفير.. إلخ؛ وكلٌّ منهما يحمل معه قدرة التحوُّل نحو الآخر. أما كلمة (تاو) فهي تعني (طريق الانسجام) للتوازن والتكامل بين طاقتي الوجود. أو بمعنى آخر، القوى المطلقة والغاية القصوى لكل الوجود. ولأن ثنائية الوجود عند التاو هي ثنائية تكاملية فإن الخير هو الانسجام والتكامل بين الثنائيات، أما الشر فإنه ينتج من تخلخل الانسجام والتوازن بين هذه الثنائيات، والمغالاة في دور أحد الطرفين على حساب الطرف الآخر. فمثلاً، إن توازن (البرد والحر، الليل والنهار، الرجل والمرأة، الدين والدنيا، الحداثة والأصالة، الدولة والشعب، الواجب والمتعة، الفرد والمجتمع...)، هو الخير، وغلبة أحدهما على الآخر، هو الشر. وهكذا يكمن الخير في انسجام الثنائيات، والشر في تناحرهما. الأنثى وحدها هي الوحشة والجفاف، والذكر وحده هو السأم والموت، الانسجام والتوافق بين الاثنين هو الحب والخصب والحياة. بين الماضي والمستقبل هناك الحاضر، والحاضر هو الخير وهو الواقع، وهو الماضي والمستقبل بآن واحد. إن الشر لا يكمن في النار وحدها بل في الثلج أيضاً، أما الخير فيكمن في وسط النار والثلج، أي الماء الجاري من اتحادهما، وهو الارتواء والخصب وسر الحياة. (13) الجلاء الذي يعانق العدم سوف نرجع إلى كتاب لاوتسو (نحو القرن السادس قبل الميلاد) المسمى: تاو تي تشنغ وكتاب تشوانغتسي (375-300 قبل الميلاد) لفهم المضامين الكونية لمعنى العدم في الجلاء. فإذا حملنا مفهوم العدم على الجلاء، فلن تعود علاقتهما علاقة اعتماد متبادل، بل ستخضع إلى حقيقة جوهر الوجود، فلو اعتبرنا أن معنى الجلاء هو معانقة العدم لذاته كما تفعل الطاوية، لربما انفتح السبيل من أجل رأب الصدع المفرِّق بين العدم والوجود. مثل هذه المعانقة بين ثنائية العدم والوجود سوف تفضي إلى توحيد الوجود الذي حرص ابن عربي على تظهيره من خلال التكامل الذي أجراه بين الوحدة والكثرة وبين الله والعالم عند التاوية سنجد مفهوم اجلاء هو المعادل لهذه السيرورة التكاملية بين أنحاء الكثرة اللامتناهية في الكون. حين يتكلم لاوتسو عن حكماء العصور القديمة أصحاب المعرفة المقربة بالتاو (أو المطلق) (14)، يعود ليتساءَل: «من يقدر على تسكين الماء الموحل، ليعيده ببطء إلى الصفاء، ومن يقدر أن يحرك المياه الساكنة، ليعيدها ببطء إلى الحياة؟». (15) من الصحيح إذن أن الجلاء يفتح نفسه أمام الإشراق والظلام، وكذلك أمام الصوت والصمت، لكنه ليس هو ما يقوم بالجلاء أو الفسح أو التحرير. فقط «التاو» عبر قدرته التوليدية لديه الطاقة على إنتاج هذه الصفات، وفقط العدم المرتبط به يمكن له أن يسهل تحقيقها. سبب هذا، أن العدم، كما يفهمه فلاسفة التاوية، ليس مجرد نفي الحضور أو الافتقار إلى الحضور، بل هو الجوهر الكوزمولوجي الذي يتألف منه الواقع، وهو الحيز الكامل الذي يوجد التاو من خلاله وتتم تجربته فيه. وهكذا فإن جلاء هايدغر ليس أكثر من السطوع الذي يعبئ فراغه، أما التاو، فلأنه ليس لديه أي طبيعة «شيئية»، فإن طاقته الخلاقة تتفجر من خلال العدم بطريقة لا تشبه النهلستية (العدمية) في شيء، ولهذا فلطالما جرت الإشارة إلى الفلسفة التاوية بأنها ميونطولوجية &ndash أي الدراسة الفلسفية للعدم. إذا ما أخذنا صفات العدم المذكورة أعلاه وطبقناها على الجلاء، فإن الجلاء يلعب دورين مترابطين ولكن متمايزين: 1- على مستوى الموجودات، حيث يقوم بتجويفها ليتيح المجال أمام دفق الحياة الخلاق ليحصل فيها. 2- على مستوى الوجود فإنه يجلو الوجود نفسه بحيث يشرق تجذره في العدم. بكلمات أخرى: يستمر الجلاء دون مانع من الوجود أو حد منه، ولكن انكشافه لا ينبع من حالة سابقة من إخفائه لذاته بل من خلال كونه متحداً مع التاو. العدم بمفهومه التاوي هو خالقية الحياة في أقصى صورها، وهو وسيلة الإمكانيات المصبوغة بدهشة التاو التي تقع في جوهر كل موجود كان ثم لم يعد كائناً، أو هو كائن الآن، أو سيكون لاحقاً. إن شموليتها هي اكتمالها، ومن خلال هذا الاكتمال يدع التاو الأشياء تكون كما في استعدادها الطبيعي أن تكون؛ ولهذا أمكن القول إن القفزة إلى هاوية العدم ليست قفزة من هذه الذات إلى ذات أخرى، بل هي عودة باطنية إلى السكون البسيط الفارغ المتجرد الذي يميز الأشياء التي تتناغم مع التاو. وهكذا يتم تجاوز «حدث الوجود» في الجلاء من خلال «لا حدث» التاو؛ وهو «لا حدث» لأن التاو يعمل كالمحور لجميع التحولات، وفي الوقت ذاته يعمل كأساس حقيقتها في حال كونه دون أساس سابق له. وعلى الإجمال فإن التاوية تجعل العدم كالموئل الذي يحقق فيه التاو أخلاقيته، ومن خلال ذلك تنسب إليه صفات تفتقد إلى الوجود تماماً للتأكد من أن رفعته ستظل أبعد من تطفل أيدي الإنسانية. أما بالنسبة إلى حكيمي الصين لاوتسو وتشوانغتسي فليس الجلاء «زوال خفاء» بل انكشاف أن الوجود متحد دائماً مع العدم في دورة التولد وإعادة التولد والبروز والكمون. لذلك يشير الجلاء إلى موقع حريتنا الكوزمولوجية التي تسهل انجلاء جوهر الحقيقة نفسها، وهي حقيقة ترتبط من دون ريب مع تعايش التاو مع العدم واستخدامه له. يتحدث هنري كوربان في كتابه «الخيال الخلاَّق عند ابن عربي» عن الوحدة الصوفية باعتبارها وحدة تفاعلية بين الله والعالم، وكذلك داخل الاختلاف في هذا العالم. يقول في هذا مقتبساً من الشيخ الأكبر إن كل مخلوق هو مظهر أو مجلى للوجود الإلهي الذي يتجلى فيه متلبسا باسم أو عدة أسماء من الأسماء الإلهية. والعالم هو مجموع الأسماء الإلهية التي يتسمى بها حين نسميه من خلالها. لهذا يقول ابن عربي: «وكل موجود فما له من الله إلا ربه خاصة، ويستحيل أن يكون له الكل». (16) بين التجلِّي كحاصل عرفاني لفلسفة وحدة الوجود عند ابن عربي، والجلاء كحاصل لعناق حميم بين الوجود والعدم عند لاوتسو، تنعقد مقامات الوصل في عالم الكثرة، ليصير الوجود كله نفساً واحدة لتجلِّي الواجد الأعظم. ............................................ * باحث في الفلسفة والتصوف المقارن &ndash لبنان. ............................................... 1 - خوسيه آنذل بالنثه - حول لغة المتصوفة وظاهرتي الالتقاء والنقل &ndash فصلية «المعارج» &ndash ملف خاص حول التصوف &ndash العددان (48-49)- ربيع 2004. 2- محيي الدين بن عربي &ndash الفتوحات المكية &ndash الباب الثامن والخمسون وخمسمائة &ndash الجزء الرابع &ndash دار صادر &ndash بيروت &ndash ص 296. 3- ديفيد تشاي &ndash هايدغر والتاوية &ndash فصلية الاستغراب &ndash العدد الخامس &ndash بيروت &ndash خريف 2016. 4- Martin Heidegger. Contributions to Philosophy، Trans. Richard Rojcewicz. And Daniela Vallega Indiana University Press 2012. 88-89 5- بول تيلتش &ndash بواعث الإيمان &ndash ترجمة سعد الغانمي &ndash دار الجمل &ndash بيروت &ndash برلين &ndash ص 90. 6- علي شيرواني &ndash الأسس النظرية للتجربة الدينية &ndash قراءة نقدية مقارنة لآراء ابن عربي ورودولف أوتو &ndash ترجمة: حيدر حب الله &ndash دار الغدير- 2003 &ndash ص 333. 7- سورة الكهف &ndash الآية 82. 8- شيرواني &ndash مصدر سابق &ndash ص 152. 9- والتر ستيس &ndash العرفان والفلسفة &ndash من مقدمة إمام عبد الفتاح إمام لكتاب الدين والعقل الحديث &ndash مكتبة مدبولي &ndash القاهرة. ص 308 10- الفتوحات المكية &ndash دار صادر &ndash الجزء الأول &ndash ص 93-94. 11- علي شيرواني &ndash مصدر سبق ذكره &ndash ص 245. 12- المصدر نفسه &ndash ص 247 &ndash 148. 13- راجع فراس السواح- موسوعة تاريخ الأديان &ndash الكتاب الرابع &ndash دار علاء الدين &ndash دمشق 2006. 14- من الصعب جداً أن نقدم تفسيراً لهذا المصطلح، إِذِ الطاو ليس لا مبدأ ولا عملية، ولكنه أصل جميع المبادئ والعمليات. لا يمكننا أن نعرفه بأنه إلهي، فمع أن جميع الأشياء تأتي منه ومع أنه أبعد عن الزمان والمكان إلا أنه حاضر فيهما ولا يتأثر بالتغيرات التي يمران بها 15- Wang Bi Jijiao Shi، ed. Lou Yulie، (Beijing: Zhonghua Shuju، 1980)، 34. 16- إن سبب كونها بسيطة وفارغة وساكنة هو بسبب انعدام الأسماء والصفات في حقها، وهي نعوت تضفيها عليهم الإنسانية ولكنها في الحقيقة أجنبية عن حقيقتها الجوهرية في ذاتها.  
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©