الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

لوعة الحب

لوعة الحب
5 يونيو 2008 01:10
بهذا الانتقال من المحبوب إلى المحب نعاين لواعج المحبين في ضعفهم الإنساني ورقتهم الوجدانية، إذ تختلف أحوالهم عن هؤلاء الشعراء الذين رأيناهم شغوفين بمظاهر الجمال، مأسورين بفتنته، ولعل الحالة الشعورية الأولى التي يفضي إليها الحب هي الحيرة واللهفة والاستسلام للأمر المقدور· يقول العتابي مثلاً، وهو من شعراء الشام في القرن الثاني الهجري: أمطليني وسوّفي وعديني·· ولا تَفِي اتركيني معلّقا·· إن تجودي وتُسعفِي فعسى يعثر الزمان بجدّي فأشتفى أنا راضٍ بما صنعت·· وإن كان مُتْلفِي ونلاحظ درجة الرقة التعبيرية، وسيولة الأداء الشعري، بما يشف عن مستوى الرقة العاطفية والتدفق الوجداني، فسلاسة الكلمات مظهر للون جديد من العلاقات الناعمة بين الرجال والنساء في الحواضر العربية الراقية تدور بين الدلال والتمنع والرضا بالوعد والمماطلة، بعيداً عن حدة المشاعر، مما يجعل المقطوعة صورة تامة لموقف المحب المستسلم المتلذذ بمناورات الحب والسعيد بكل أحواله· في مقابل ذلك مثلاً نجد حالة وجدانية وشعرية مختلفة لدى الشاعر العارم ذي الرمة؛ إذ يصور ذهوله العاطفي بقوله: كأن سنانًا فارسيًا أصابني على كبدي أو لوعة الحب أوجعُ عشية ما لي حيلة غير أنني بلقط الحصى والخط في التّرب مُولعُ أَخُطّ وأمحو الخطَّ ثم أعيده بكفِّي، والغربان في الدار وقّعُ ولازلت أذكر هذه الأبيات وهي تنسال بقوة وعذوبة من فم شيخي الدكتور مندور وهو يبرهن بها على قوة التصوير لحالة الحيرة التي تنتاب الشاعر فيأخذ في العبث بما تقع يده عليه، فلو كان معاصرًا لأخذ يكتب ويشطب أو يرسم ويترك مارسمه، وقد دفعني تأملي اللاحق لهذه الأبيات نقديًا أن أكتشف فيها أمرين آخرين: أحدهما أن الصورة هنا -وهي لوحة تشكيلية متقنة- لا تعتمد على أي شكل من أشكال المجاز من تشبيه أو استعارة أو كناية، بل تتوسل بنوع خاص من التصوير عبر السرد، فهو يحكي مشهدًا تمثيليًا بالغ الدلالة، وبهذا يصبح بوسعنا أن نعد الصور السردية من مكامن القوة الشعرية· أما الملاحظة الثانية فهي تتصل بالطاقة الرمزية المكثفة لجملة ''والغربان فى الدار وُقع'' فليست هذه الغربان في واقع الأمر سوى مشاعره السوداء التي تنوشه، وهو في أوج حيرته، وهي تتمة رمزية لازمة للصورة السردية السابقة· أما ما يقول ''السريّ الرفاء'' من أن البيت الأخير لذي الرمة مأخوذ من قول امرئ القيس: أظل ردائي فوق رأسي قاعدا أعد الحصى ما تنقضي عبراتي فإن الجامع بينهما هو ''الحصى'' فحسب، فبينما كان امرؤ القيس يعده وهو يبكي واضعًا رداءه فوق رأسه، وهو صورة طريفة وجديدة للملك الضليل، نجد ذا الرمة يلتقطه فحسب مشغولا بذهوله الوجداني وأفكاره المحوّمة كالغربان، في حالة أشد حيرة واحتداماً من حالة جدّه الجاهلي، وإن كان كلاهما شاعرًا يبتكر أدواته التصويرية المتقنة لتمثيل مواجده·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©