الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

حليمة راشد: كتابي مولود من فوّهة بركان

حليمة راشد: كتابي مولود من فوّهة بركان
20 مارس 2014 13:09
قد تساعد الصور، ومحتويات المتاحف، وبعض الأعمال الفنية على معرفة الحياة الماضية، لكنها لا تستطيع أن تعوّض أصوات الناس الذين خبروا تلك الحياة وعايشوا تفاصيلها. فالأصوات الحيّة، المضمَّخة بالذكريات العتيقة، الواقفة على تفاصيل المشهد التراثي هي وحدها القادرة على استحضاره بروحه الفائرة، بألقه حيناً، بألمه حيناً آخر، بالشغف والحب تارة، وبشيء من الأسى أو الوجع تارات كثيرة. شـهـيـرة أحـمـد إلى الماضي رحلت الكاتبة حليمة عبد الله راشد الصايغ، التي حولتها مصادفة قدرية بحتة إلى باحثة، لتطارد أصواتهم قبل أن تذهب في الغياب، ولتمارس عبر سفَرٍ من نوع خاص واحدة من أصعب مهمات العمل البحثي التراثي، ألا وهو جمع المادة العلمية من أفواه أصحابها. وهي مهمة شاقة على أصحابها، فكيف بمدرّسة كانت كل حياتها محصورة في مهنة التدريس وتوابعها. رغم ذلك، ورغم صعوبات كثيرة يعرفها الراسخون في الحقل التراثي، قدمت لنا هذه الباحثة الدؤوبة، كتاباً جامعاً لكل ما يتصل بحرفة صياغة السيوف والخناجر التقليدية في الإمارات، ولم تترك شاردة، ولا واردة لم تطاردها لتضعها في كتابها الصادر عن هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة، فضلاً عن كون كتابها تحلى بالمنهجية العلمية المتبعة في مثل هذه البحوث، ولا شك في أن لإشراف إدارة التراث المعنوي في الهيئة دوراً كبيراً في هذا.. ناهيك عن الشكل الفني الجميل الذي أخرج به الكتاب، والذي يشكّل نصاً بصرياً موازياً بحق، بحيث بدت الصور قادرة على البوح بما هو أكثر مما تقوله النصوص.. لقد حمّل المخرج الفنان علي جاك الصور بدلالات متشعبة، ثرية، ذات سويّة فنيّة عالية. سفَر في الذاكرة بدأت حليمة سفَرها العلمي في ذاكرة الحرفيين متسلحة بمعرفة قديمة خبرتها في بيتها، إذ هي سليلة أسرة تخصصت في هذا العمل، ولطالما رأت والدها يزين السيوف والخناجر بحبات الذهب والفضة، ويعكف على عمله في محترفه الصغير (ورشته البيتيّة) ليخرج اقتراحاته الجمالية محفورة على القطعة المزيّنة. ربما لهذا السبب نجحت في أن تصطاد معارف وتفاصيل كثيرة يصعب الحصول عليها بالاعتماد على المراجع العلمية المكتوبة فقط.. فضلاً عن ذهابها إلى كل أنحاء الإمارات لاصطياد راوية هنا أو إخباري هناك للسماع منه، والغوص في دقائق الصناعة وتاريخها. وحسناً فعلت، إذ إن معظم الرواة والراويات اللذين قابلتهم انتقلوا بعد ذلك إلى رحمة الله، وكان من الممكن أن تذهب هذه المعرفة معهم إلى قبورهم، وإلى الأبد. ولم يكن الكتاب، وحده، هو حصيلتها أو صيدها الجميل الذي خرجت به من هذه الرحلة في الذاكرة الإماراتية، بل خرجت أيضاً بعدد كبير من مقابلات كبار السن، والرواة، والصاغة، ومعلومات ضافية لم يتسع لها هذا الكتاب.. ولهذا تعد العدّة حالياً لكتابها الثاني. صورة قدريّة «مولود من فوهة بركان» هكذا تصف حليمة عبد الله راشد كتابها الأول «صياغة السيوف والخناجر التقليدية في دولة الإمارات»، وإذ تتحدث عن الدوافع الكامنة وراء الكتاب تعود إلى لحظات الطفولة الأولى حين كانت طفلة تلهو في (حوش) منزلهم في الراشدية، فيما والدها جالس تحت ظل الشجرة المعمرة التي كانت تحتضن الأهل والجيران ليحكوا لها يومياتهم وحكاياتهم وهمومهم، فرغبت في أن تؤبد هذه اللحظات الجميلة. أمسكت بكاميرا صغيرة ثم التقطت صورة عفوية لوالدها، وهو يحمل السيف وينظر إليها. لم يكن ليخطر على بالها في تلك اللحظة الكامنة في البعيد النائي من ذاكرتها الخاصة، أن هذه الصورة ستكون بمثابة «وصية قدرية» لها لكي تحكي حكاية والدها وأصدقائه من حرفيي صياغة السيوف والخناجر. الآن، يبدو الأمر بالنسبة لها، كما لو أن الوالد كان يسلمها سيفه لتنوب عنه بعد حين. تقول: «يخيل إلي أن قدري الشخصي دفعني لالتقاط تلك الصورة، في ثمانينيات القرن العشرين ليضع على عاتقي مهمة قد تفوق قدراتي الكتابية والأدبية التي يحتاجها تدوين تاريخ عريق ومليء بالإنجازات والقصص التي تحمل رائحة الإبداع الفني لأشخاص وأسر أثرت التاريخ الخليجي بصنوف المنتجات الذهبية والفضية. لم أتوقع لتلك الطفلة البالغة من العمر 8 سنوات أن يكرمها صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي بجائزة افضل كتاب مطبوع عن الإمارات، بوصفه أول كتاب في الوطن العربي يكشف التقنيات الصياغية والفنون الزخرفية والمهارات الفنية لابن الإمارات في صياغة السيوف والخناجر والمصاغ الشعبي». قبل الاندثار في لحظة حرجة من تاريخ تلك الحرفة اليدوية أدركت حليمة، كما تقول، إنها مكلفة بحفظ تاريخ ينتسب إلى تراث الإمارات وشبه الجزيرة العربية، وأنه لابد من خوض تجربة الكتابة والتأليف والبحث. فشمرت عن ساعد البحث، وجمعت أمتعتها وسافرت في التاريخ إلى عام 1850م. تلك الفترة التي سمعت فيها جدتها الإخبارية «يوخة» تقص عليها حكاية جدها شيخ الصاغة عبدالرحمن الشلي الصايغ الذي يعتبر مدرسة لعلوم المعادن والتقنيات الصياغية والفنون الزخرفية، والذي أهلته مهارته لأن يتخصص في صياغة المصاغ الذهبي دون الفضي لآل نهيان وآل مكتوم، وأن يصاحب الشيخ زايد بن خليفة (زايد الأول) في مسيرته. دهشت، وشعرت بكثير من الإثارة في الحكايات التي سردتها عليها جدتها، حكايات كثيرة لا مجال للاستفاضة فيها لكونها تنطوي على تاريخ شخصي، لكن من بينها ما يفيد المؤرخين أو الباحثين عن أصل الذهب وفصله في الإمارات. تقول الحكاية، التي تقولها حليمة بدورها، إن خيول الشيخ زايد الأول كان يصاغ لها المصاغ الذهبي، وتضيف: صاغ جدي لخيل الشيخ زايد بن خليفه السرج الذهبي والبرقع الذهبي والمرتعشة الخاصة للخيل، وحدوة الحصان الذي كان يصاغ بالذهب، وهي ترى أن هذا من شأنه أن يستثير فضول الباحث للكشف عن مصدر الذهب في الإمارات، حيث تزيّن أهلها بأغلى المعادن رغم شحّ موارد العيش وشظف الحياة في تلك الحقبة، ناهيك عن انعدام مناجم الذهب في الإمارات وشبه الجزيرة العربية. ربما، من هنا، جاء الفصل الخاص بتاريخ وجود الذهب في الإمارات الذي استعرضت فيه علاقة الإماراتيين بالمعدن الأصفر الذي غوى قلوب النساء واستأثر بقلوبهنّ قبل معاصمهنّ وأعناقهنّ. رصانة ومنهجية لم تكن الرحلة سهلة، والطريق لم تكن مزينة بالورد.. بل ربما كانت مفروشة بالتحديات التي نجحت الكاتبة في تجاوزها واحدة تلو الأخرى، بدءاً من كونها تدخل مغامرة التأليف للمرة الأولى، ومروراً بصعوبات الحقل نفسه وانتهاء بندرة المعلومات بل انعدامها.. لقد كان جهد حليمة الأول من نوعه في هذا المجال، إذ لم يسبق أن قام أحد بتوثيق هذه الحرفة وتفاصيلها كما فعلت. وللحقيقة، فإن الكتاب متميز على أكثر من صعيد، وقد وصفه مؤرخ روسي بأنه سينقل التراث الإماراتي نقلة كبيرة، لكشفه عن معلومات لم يسبق لها التدوين في عالم الزخرفة اليدوية لفنانين إماراتيين لم يسبق الكشف عن أسمائهم. وسواء كنا مع أو رأينا في هذا القول مبالغة من نوع ما، فإن ما لا يختلف عليه اثنان من المختصين في الدراسات التراثية أن الكتاب علمي، ومنهجي، ويتوفر على شروط وسمات البحث الاجتماعي المتعارف عليها أكاديمياً وعلمياً. وبسبب شغفها بالعمل الذي تقوم به، وحبها لإنجاز ما عزمت عليه، سفحت الباحثة سبع سنوات بالتمام والكمال، دون توقف، لكي تنجز كتابها. تحملت خلالها مشاق الانتقال بين الإمارات، والجري وراء المعلومات، وإجراء المقابلات الشخصية بمجهود شخصي والتقاط الصور التي زينت الكتاب دون الاستعانة بأي شخص، أي أنها، حسب قولها، قامت بعمل فريق متكامل تضمن دور المصور والباحث والجامع ومحلل البيانات. تقول: من التحديات التي واجهتني صعوبة التواصل مع المشرفين على البحث، حيث تكبدت عناء الطريق من دبي إلى أبوظبي لمتابعة كل كلمة أو صورة أو معلومة كنت أدوّنها وأوثقها، وقد مثَّل لي ذلك عبئاً كبيراً ومجهوداً مضاعفاً يوازي حجم العمل الذي تم إنجازه في الكتاب. لكن الباحثة، مع كل ذلك، لا تخفي سعادتها وفرحها بأنها أنجزت حلمها، فحين شرعت في بحثها هذا لم يكن قد بقي من منتجات الصاغة الإماراتيين، التي اثروا بها تاريخ شبه الجزيرة العربية بروائع التحف الثمينة ما يسهم في توثيق معلومات الكتاب، سوى الصور المحفورة في مخيلتها عن تلك النماذج التي كان يجري إنتاجها في ورشة والدها المنزلية، والتي تصدَّر آخرها وأقواها غلاف الكتاب، وهو خنجر ذهبي يعتبر كنزاً من كنوز التراث الإماراتي، وقد صاغه آخر صائغ من سلسلة الصاغة الذين يشكلون أسرة حرفية بدأت رحلتها في هذا العالم منذ 150 عاماً. ومن التحديات التي كانت فريدة من نوعها، تذكر الباحثة، أنها قامت بتحويل أفراد أسرتها إلى صور، ووثائق، وأدلة، تؤكد صدقية معلوماتها، والسبب أنه “يندر وجود صاغة تقليديين في الإمارات لوفاة اغلب أفراد الأسرة الحرفية، فما كان مني إلا أن استندت لإثراء المواضيع بصور والدي الصائغ ووالدتي التي تعتبر من النساء اللاتي مارسن التقنيات اليدوية الخفيفة في إنتاج المصاغ الشعبي، حيث يصعب في مجتمعنا الشرقي الخليجي نشر صور النساء في وسائل الإعلام إلا أن أهمية توثيق المعلومات وحبي لتراث وطني دفعني لأقدم أسرتي الحرفية كمحور للكتاب». سرد على الأرض تنوعت القصص التي نقلها الإخباريون من المحيط الحرفي عن مغامراتهم بين المناطق الجبلية والصحراوية لترويج منتجاتهم والتي تكشف نمط العيش في الإمارات وشبه الجزيرة العربية، وهي القصص التي استشعرتها بشكل حقيقي حين ذهبت إلى الأماكن التي حدثت فيها، كما هي الحال في زيارتها قصر الشيخة قضمة الظاهري التي تقول عنها: «عشت حينها لحظات تاريخية، حيث فوجئت بأن ما سردته جدتي عن القصر الذي فارقته منذ 100 عام إلى دبي ما زال يحمل نفس التفاصيل والأروقة والغرف التي وصفتها، وانتابني شعور غريب عند دخولي القصر وكأنني أسمع صوت الشيخة قضمة وحديثها. هنا، تأكدت أن القدر اختارني لتوثيق حقبة من الزمن لابد أن تتطلع عليها الأجيال. لم يفارقني الذهول، وأنا أشعر بأنفاس الشخصيات من حولي، هنا تحققت من حكايات المسنّة “يوخة” التي توفت عام 2012 عن عمر يقارب 110 عاماً. هنا تحولت أغلب القصص الشفاهية التي ترددت على مسامعي إلى واقع ملموس تجري أحداثة على الأرض. وهي تغلق الكتاب، وتسرّح بصرها إلى البعيد، تستذكر حليمة وفاة أغلب من سطروا إنجازات الصاغة في كتابها. الكتاب الذي اختلطت مشاعر الفرح بصدوره بمشاعر الحزن: “توفي والدي قبل أن يرى كتابي النور، ولم يسعفني الحظ لأرسم الفرحة في قلبه، وأن يرى أعماله وزخارفه على الخناجر والسيوف تزين صفحات الكتاب وتوثق معلوماته. كما توفيت الإخبارية جدتي “يوخة” محمد التي أثرت الكتاب بمعلوماتها الثرية كونها ابنة الصاغة أثناء طباعة الكتاب، ووفاء لها افتتحت أول صفحة في الكتاب بأبيات شعرية من نظمها”. بقيت الإشارة إلى أن هذه الباحثة تحلم بكتاب أشمل وأعمق من كتابها الأول، لكنها بحاجة إلى دعم وفريق عمل متميز لإعداده وتنفيذه خاصة من الجهات المعنية بالتراث، تقول: ينتابني شعور بمسؤوليتي الشخصية تجاه حفظ ما وصلني من معلومات ثرية وغنية عن تاريخنا وتراثنا”. تلك هي باختصار شديد رحلة حليمة عبد الله راشد الصايغ في ذاكرة السيوف والخناجر، وفي ذاكرة حرفة تقليدية تعرضت لتقلبات الحياة، فازدهرت حيناً وتراجعت آخر، ولم يبق منها تقريباً سوى هذه السطور والصور التي تبرق في ذهب الزمان وفضة أرواح الصاغة الذين صنعوا جمالاً مدهشاً بأدوات بسيطة، وبذكاء شديد طوّعوا الحديد، واستثمروا كل ما منحتهم البيئة من إمكانيات لإنجاز تحفهم، وكتبوا على أغمدة الخناجر والسيوف المصنوعة من الجلد أو الفضة أو الذهب، نصوصهم الفنية بأياد من ذهب.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©