الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

حقائق الأشياء

حقائق الأشياء
29 ابريل 2010 21:13
كان من دعاء الصالحين “اللهم أرنا الأشياء كما هي” وحقاً إنها لنعمة كبرى أن يرى الإنسان الأشياء كما هي، فيدركها على حقيقتها، ويضعها في موضعها متعاملاً معها بواقعية، ومن ثم فلا يعظم الحقير، ولا يستهين بالصغير، ومن ثم تكون السلامة في العواقب، والحقيقة في تعاطي الأمور. ولقد أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فمارسه في حياته، وعلم إياه أمته. إذ ابتلى النبي صلى الله عليه وسلم بموت ابنه إبراهيم، فتصادف في هذا اليوم أن كسفت الشمس فتعامل الصحابة رضوان الله عليهم مع هذه الظاهرة الكونية بصورة غير واقعية، دفعهم لذلك حبهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا “ لقد كسفت الشمس لموت إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم” فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم الخبر، فأبى أن يؤسس إيمان على وهم أو خرافة، وأبى أن يتعامل المسلم مع الأشياء بغير حقيقتها، فما كان منه صلى الله عليه وسلم إلا أن رد الأمور إلى أسبابها، والفكر إلى موضوعيته وواقعيته فقال صلى الله عليه وسلم، “ إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ، ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فصلوا واذكروا الله”. ولعلنا نلحظ أن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف أراد أن يرد العقل إلى واقعيته وصوابه، وأن يتعامل الإنسان مع الأشياء بوضوح لا لبس فيه ولا خفاء، فيقدر للأشياء قدرها، وينزلها منزلتها، ومن ثم تكون الحكمة في وضعها في أطرها. من هذا المنطلق كان التوجيه الإسلامي [على مثل ضوء الشمس فأشهد] وآفة الإنسان في كل زمان ومكان ألا يعرف للأشياء قدرها، وأن يتعامل معها بغير حقيقتها . لقد ظن الإنسان قديماً أن الجن والشياطين يسكنون الأودية والهضاب، فكان العرب في جاهليتهم إذا نزلوا وادياً قالوا “نعوذ بكبير هذا الوادي من سفهاء قومه” فيزدادون بذلك خوفاً على خوفهم، ومن ثم يقول الحق سبحانه وتعالى: (وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا). الجن (6) . وكم ظن آخرون في نفع الجن وضرهم، وقدرتهم على جلب السعادة والشقاء، في حين أنهم لو تعاملوا مع الأمور على حقيقتها لاستحضروا في عقولهم قول الحق سبحانه: (فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ). سبأ (14) . أضف إلى ذلك أن عدم إدراك حقائق الأشياء يقود الإنسان إلى الجهل بنعمة الله تعالى، لقد كنت في بعض الأسفار فرأيت امرأة تصيح من شدة مصابها، فذكرها أحد الناس بالله تعالى فأبت أن تحمد الله، فتعجبت منها، وأيقنت في نفسى أنها لم تدرك حقيقة قدر الله عز وجل، والذي يدور كله على الخير، فالمسلم إن أصابته ضراء فصبر فكان خيراً له، وإن أصابته سراء فشكر فكان خيراً له، وغفلت عن أن منع الله للإنسان عطاء، وأن المحنة تولد من رحمها المنحة، وأن الجنة هي مأوى الصابرين والشاكرين. ويبقى السؤال ما الذي يصل بالإنسان إلى عدم إدراك حقائق الأشياء ؟ الواقع أن هناك أسباباً متعددة تأتي في مقدمتها الغفلة، وهى داء يجعل الإنسان ينظر إلى نصف الكوب الفارغ، ويغفل عن نصفه المملوء، فمثلاً قد يظن الإنسان أن حقيقة الرزق تكون في سعة المال فيطلبه من حله وحرامه فإذا ما قدر عليه رزقه قنط من رحمة الله ، وغفل عقله أن الرزق اسم واسع لمسميات شتى يأتي في صور متعددة، فقد يكون الرزق ذرية صالحة تسعد الإنسان في حياته، وتنفعه بعد مماته، وقد يضيق الإنسان ذرعاً بزوجة مؤمنة قانتة، ويغفل عما لها من حسنات تجعل منها زهرة في الحياة، وريحانة في الجنة، ومن ثم علمنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نتمعن في حقائق الأشياء، فإذا ما كره الرجل من زوجته خلقاً رضى منها خلقاً آخر ... يلحق بذلك فرط المحبة التي تنسي الإنسان في لحظات معينة ماهية الأشياء وحقائقها ، يجرى قدر الله سبحانه على نبيه صلى الله عليه وسلم فيموت، فيذهل عمر بن الخطاب عن هذه الحقيقة التي يؤكدها قول الحق سبحانه: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ). الزمر (30). وقوله سبحانه: (وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِين مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ). الأنبياء (34). فيقول من قال إن رسول الله قد مات قتلته بسيفي هذا ولكن الصديق رضى الله عنه يبصر عمر بما غاب عنه، من أن من أسرار العظمة في الشخصية المحمدية بشريته صلى الله عليه وسلم، ويضع يده ويد كل مسلم على مستلزمات هذه الحقيقة فيقول” أيها الناس من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت” ثم يقرأ قول الحق سبحانه: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِين مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ). آل عمران (144). فيقول عمر “ والله كأني ما قرأتها من قبل “ . كذلك نجد من أسباب عدم إدراك الإنسان لحقائق الأشياء على ما هي عليه التكبر والغرور، ومن أظهر الأمثلة على ذلك “إبليس”، الذي غاب عنه أن حقيقة تكوينه تكمن في أنه عبد لله تعالى، ولكن الكبر والغرور أنساه هذه الحقيقة فتأبى على أمر ربه، فعندما دعاه الحق سبحانه للسجود لآدم قال في خيلاء “أأسجد لمن خلقت طيناً” وقاس فأخطأ القياس فقال معانداً ربه “ أنا خير منه، خلقتني من نار وخلقته من طين “ . وهكذا تتضافر الأسباب على الإنسان فينسى حقيقة نفسه، وحقائق الأشياء من حوله ، بيد أنه في رحاب الإسلام وموضوعية أحكامه يعود إلى الحق فيدرك موقعه في الكون والحياة مخاطباً نفسه بقول الله عز وجل: (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا). سبأ (46) . هذا التفكير الذي يثمر إدراكاً موضوعياً لحقائق الأشياء يترجم عنه دعاء الإنسان “اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واهدنا لأحسن الأعمال فإنه لا يهدي لأحسنها إلا أنت”. د. محمد عبدالرحيم البيومي أستاذ بكلية الشريعة والقانون بجامعة الإمارات
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©