الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

سعاد العريمي.. غواية السرد وإغواءاته

سعاد العريمي.. غواية السرد وإغواءاته
11 مارس 2015 21:20
يمكن القول: إن محور رواية «دريب الغاويات» للكاتبة سعاد العريمي هو العلاقات المؤثرة في حياة بطلتها «صبحا بنت الريح». علاقتها بالمكان والشخوص، بالمجتمع ممثلاً بسطوة تقاليده وإرادته الذكورية التي تعلق عليها بقولها: «عندما كنت أقدم نفسي كامرأة حرة ساكنة في بلاد الغرب، كان راشد ينتقص من تلك الحرية». راشد هو ابن خال «صبحا» الذي نُذرت زوجة له منذ الصغر، لينقض الوعد، وتصيبها خيبة الأمل بزواجه من امرأة أخرى، وهو ما تقودها تداعياته إلى علاقة أخرى مضادة بـ «محمد بن هضبان» علاقة تكبر وتتحول إلى صعبة، شيء ذو قيمة روحية يعوضها في حياتها العادية، لتبدو كالهروب الدائم نحو حلم جميل تقبض عليه في داخلها كما يُقبض على الجمر. رسائل ودلالات «دريب الغاويات» رواية تأتي من عنوانها مفتوحة على التأويل وعلى أكثر من دلالة.. هل هو دريب (تصغير درب) الغاويات/ الجميلات أم الغاويات/ المهلكات كما يتجسد ذلك في خرافة أم الدويس؟ على أية حال فإن بطلتها بعدما يصيبها الإحباط تعرف كيف تروض نفسها؛ مرة على الزهد، حيث تتضاءل أهمية مظاهر الحياة في المكان الذي ولدت فيه لتصبح لاشيء، ومرة بالرغبة فيها حتى لتشعرك بأن كل شيء في هذا المكان يشغلها. وفي الحالة الأولى لا يهمها شيء سوى تهذيب نفسها وتدريبها على حب البقاء الدائم من خلال ما تعبر عنه قصائد الحلاج، وما تقوله ذاكرة المؤلفة عن المكان وما لديها من قدرة على التعبير. يحتوي كل جزء من الأجزاء الثلاث عشرة التي تشتمل عليها الرواية على حزمة من الرسائل والدلالات الروحانية سواء ظهرت على شكل أبيات أم مواقف تسترجعها من الذاكرة بشاعرية. وهي مواقف تشكل أهمية على المستويين: السردي حين تطرح هذه اللغة لوصف ما يدور في داخلها وفي الخارج، أو البحثي في سعي المؤلفة كباحثة في علم الاجتماع إلى توظيف التراث وثقافة المكان وشخوصه. عن «دريب الغاويات» تقول سعاد العريمي: «... وتخيلت أن غاويات الحي وهن يجتمعن عند تلك المنابع يرتشفن من مدامعها ويرتوين من مجاريها ماء رقراقا صافيا... وتتجدد الفصول والناس والأزمنة والغاويات ما زلن يواصلن ندح المياه في حركة دؤوبة. وفي زيارتي الأخيرة وجدت الدرب قد تبدل... فلم أجد الغاويات ولم أجد عيون الماء...» تلك علاقة حميمية بين المكان والإنسان محفورة في ذاكرة بنات «دريب الغاويات». ولا يقل عن هذا الوصف ما تشير إليه أبيات الحلاج بشاعريتها، إلا أن ما يثير الاهتمام في هذه الأبيات هو أن شعر الحلاج يكرس تفكيرا معينا لدى «صبحا» يتعلق بفكرة التوازن وانعدام التوازن النفسي الوجداني في علاقاتها، بما في ذلك علاقتها بـ «ابن هضبان»، الذي يبدو لك كما لو أنه صوفي مرة وغير ذلك مرة أخرى، دون أن تنجح «صبحا» في تدريبه على فكرة التوازن الروحي. و«بن هضبان» بالنسبة لك كقارئ هو النفس البشرية أنّى وضعتها في أي مكان وزمان، هو طير يحلق في فضاء العشق. في حين أن «صبحا» تشبه على حد تعبير أمها: «أفزعني ما سمعته من أمي وكيف أشبه أم الصبيان» المرأة الطاغية الجمال التي تغري الرجال «ترمي الطير من السماء بطلعة محياها» ثم تقصيهم. سيمياء المكان والشخوص إن «دريب الغاويات» فضاء مملوء بالشخوص والأماكن. وفي الرواية تظهر سيميائية الأشخاص وسيميائية المكان جنبا إلى جنب. المكان تطوف به «صبحا» في ارتحالاتها بين أماكن كثيرة تمتلئ بها الرواية بعضها تحبه وبعضها تحبه إلى درجة العشق كـ «العين» و«دريب الغاويات». وبعضها ليس أكثر من غربة رغم أنه يمنحها شعورا بالحرية، ورغم ذلك لا يمكن مقارنته بالآخر حيث تظل خارجه في تفكيرها لأنه بمثابة المنفى. فالعين هي المدينة التي (حتى وهي تكاد تخنقها بتقاليدها أحيانا) تحبها كحبها لأمها أو حب أمها لها والتي تتعلق بها تعلق المحب الشغوف، وتبادلها «صبحا» الحب ذاته، تقول: «لقد أحببت سلامة بنت راشد أيما حب، أدمنت حبها لدرجة التوحد بها». تحبطها هذه الأم أحيانا، خاصة عندما تكتشف أن ابنتها التي كبرت وازدادت جمالا بالعينين الترابيتين والشعر الأصهب تشبه (أم الصبيان) الأنثى الخرافية التي تفتك بالرجال. تصف «صبحا» مشاعر أمها المتأثرة حتى في عدم وعيها بحكاية هذه المرأة الأسطورية التي لا وجود لها إلا في ثقافة المكان وذهن أصحابه بقولها: «بعد أن اكتشفت أمي الشبه المستحيل والذي جعلته هي ممكنا، دخلت في طور الشك والتطير. أوصدت بابها وباتت لا تسامرني كما كانت تفعل». إلا أن «صبحا» امرأة عاشت وتربت في مدينة العين في «دريب الغاويات» وكغيرها من نساء هذا الدرب عشقنه وبين هذا الحب ومشكلاته هن حائرات: «عرفت في «دريب الغاويات» بـ «صبحا بنت الريح»، وكنت واحدة من الغاويات اللائي ذوبن في الهوى قلوب الصغار وأنهكن بعنفوانهن أفئدة الكبار دون أن أدرك». إلا أن حبها له لا ينقطع رغم قسوة المواقف التي تمر بها في كثير من الأحيان، فهي تلمح لجاذبيته باستمرار، فرغم أنه قتل عائشة وسجن روبي وحكم عليها هي قبل ذلك بأن تفقد حريتها بتكبيلها بقصة حب من طرف واحد، إلا أن العين: «عيون بعيدة - قريبة تسكن رأسي... رياح تهيج روح الوجود... ساقني الشوق إلى تلك المرابع». «صبحا» امرأة تربت في طرقات «دريب الغاويات» في العين، وحكم عليها بأن تفقد حريتها عبر تكبيلها بقصة حب من طرف واحد، عندما تتفق أمها مع خالها على تزويجها من ابن خالها راشد الذي يصدمها بأنه لا يفكر في الزواج منها، وقتل فيها أيضاً إمكانية أي حب آخر غير العذري. إنها سيميائية العين؛ تتشابه معها، فهي واحة لالتقاء الشخوص والتأمل في الجماليات وحتى القبح، الذي تبدو عليه أحيانا بسبب ما يطرأ عليها من تغيير للفطرة والنقاء والجمال والغموض، وها هي «صبحا» بنت الريح تتماهى معها (أي المدينة)، فهي لـ (كل أحد) ولـ (لا أحد).
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©