السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

كين لوتش.. رسائل بصرية من «خبز وزهور» و«أمطار حجرية»

كين لوتش.. رسائل بصرية من «خبز وزهور» و«أمطار حجرية»
30 يوليو 2009 03:37
هو أحد المخرجين النادرين في العالم الذين ما زالوا يؤمنون بقدرة الفن على التغيير وعلى تمكين النمط النضالي من التنفس والنهوض وسط حرائق وأدخنة الفنون النفعية والتجارية البحتة. وهو من السينمائيين القلائل الذين يتحركون ضد الاتجاه المهيمن والسائد و ما زالوا يتمتعون بعافيتهم الفنية واتزانهم الموضوعي فيما يتعلق بمواقفهم الإنسانية الخاصة، بغض النظر عن التحولات والانعطافات السياسية والاجتماعية والاقتصادية الكبرى التي شهدتها السنوات الأخيرة في هذا القرن المضطرب. رغم التدخلات الرسمية والرقابية التي تحاول عرقلته ورغم الحروب الإعلامية التي تشن عليه يثبت المخرج الإنجليزي العتيد «كين لوتش» في كل مناسبة سينمائية أنه نصير دائم للطبقات الكادحة والشعوب المضطهدة والأقليات المسحوقة، وآخر ما تداولته الأخبار حول مواقفه الإنسانية والسياسية الثابتة مقاطعته لمهرجان ملبورن السينمائي في استراليا وسحب فيلمه (البحث عن إيريك) الذي يتناول قصة لاعب الكرة الفرنسي المعتزل «إريك كانتونا» من العروض المخصصة للمهرجان. لوتش أعلن المخرج بوضوح أن السبب المباشر للانسحاب هو دعم إسرائيل المالي لفعاليات المهرجان. وأرجع المخرج أسباب موقفه إلى: «ممارسات الاحتلال الإسرائيلي غير الشرعية في الأراضي الفلسطينية وتدمير المنازل ومقومات الحياة، فضلا عن ارتكاب مجازر في غزة». وأضاف المخرج الحائز على سعفة «كان» الذهبية في العام 2006 عن فيلمه الشهير: «الريح التي هزت حقل الشعير إنه «يقف مع دعوة الفنانين والأكاديميين الفلسطينيين في مقاطعة الأحداث الفنية والثقافية التي تمولها إسرائيل». وكانت إشارة صحيفة «ذي أستراليان» الأسترالية واضحة في هذا السياق عندما ذكرت أن لوش، سحب فيلمه من المهرجان الذي تأسس العام 1951 بعدما رفض المنظمون الامتثال للطلب الذي تقدم به بحجب أي رعاية من قبل الحكومة الإسرائيلية للمهرجان. الواقعية الجديدة يعتبر كين لوتش المولود في العام 1936 بمقاطعة يورك شاير بإنجلترا أحد المؤسسين الكبار للواقعية الجديدة في السينما الإنجليزية، وساهمت طفولته الفقيرة وعمل والده بمناجم الفحم في تأكيد رغبته الجامحة لكشف خبايا وعذابات الطبقة العمالية، والتعبير من خلال المسرح أولا ومن خلال الكاميرا بعد ذلك عن هذا الجانب المعتم في المجتمع الإنجليزي. ورغم نجاح والده في إقناعه بالالتحاق بكلية الحقوق بجامعة أكسفورد، إلا أن هوس لوتش بالمسرح والتمثيل في الجامعة كان هو المحرك الأكبر لخياراته الفنية والمهنية بعد ذلك، ففي العام 1961 التحق لوتش بقناة الـ «بي بي سي» وأخرج أفلاما تسجيلية ووثائقية ومسلسلات تلفزيونية صنعت اسمه كمخرج شاب صاحب أسلوب مميز في إدارة الأفلام الوثائقية حيث كان ينبذ الديكورات المقحمة، ويخرج بكاميرته إلى الشارع كي يتحول الجمهور العادي إلى لاعب أساسي في هذه الأفلام. هذا النمط الإخراجي عزز لديه حس المغامرة في أفلامه الروائية بعد ذلك عندما كان يستعين بممثلين غير محترفين، ويترك للمشاركين في العمل حرية التدخل في تفاصيل الفيلم وارتجال حوارات تثري النص المكتوب وتضيف أبعادا درامية جديدة عليه. وتأثرت التوجهات الفكرية المبكرة في أفلام لوتش بثورة جيل الستينات الساخط والتي حملت شعار «أنظر وراءك في غضب» وهو الشعار الذي عنون إحدى مسرحيات الكاتب الإنجليزي المتمرد «أوزبورن». شهدت هذه الفترة أيضا تعاطف لوتش مع موسيقا البوب و فرقة الخنافس (البيتلز) والأطروحات الفنية المغايرة في أعمال المطرب المثير للجدل «بوب ديلان». هذه الانعطافات الجديدة والثورية في منظومة الواقع الستيني جعلت لوتش يتخلص نهائيا من المحتوى الترفيهي والتأثيرات البرجماتية في أعماله ويميل بقوة تجاه الفقراء والأهالي المبتلين بالقوانين الاجتماعية المجحفة، فقدم في العام 1966 فيلما وثائقيا صادما حمل عنوان : «كاثي عودي إلى المنزل» Cathy come home يصور من خلاله مأساة أب يفصل من عمله ويتم طرده من منزله، ما يجبره على وضع أطفاله في ملجأ للفقراء والمعوزين وخلق حاجز إنساني وعاطفي مؤلم بين هذا الأب المجبر من قبل القانون وبين أبنائه الذين لا ذنب لهم . هز هذا الفيلم المؤثر قطاعات واسعة في المجتمع الإنجليزي وساهم بقوة في تغيير القوانين المدنية المتعلقة بإيواء المشردين والفقراء. في العام التالي قدم لوتش أولى أعماله الروائية الطويلة تحت عنوان: «البقرة العاجزة» poor cow حيث يصور بكاميرته المتأثرة بالنمط التسجيلي وقائع الحياة المغيبة والمسكوت عنها في الأحياء الإنجليزية الفقيرة راويا قصة فتاة في الثامنة عشرة من عمرها تهرب من عائلتها كي تتزوج من صديقها، وعندما يدخل زوجها السجن تكتشف أنها تحمل جنينا في أحشائها وأن عليها التكفل بتبعات حياتها الجديدة لوحدها ما يضطرها لممارسة البغاء والدخول في عالم ملوث وقذر يتحكم فيه أصحاب النفوذ غير المرئيين، وعندما تفقد طفلها الوحيد تستيقظ على حقيقة حياتها المرة واللامجدية والعبثية. من الأفلام الأخرى التي أبانت عن تعاطف لوتش مع قضايا الشعوب المضطهدة يبرز فيلم «أغنية كارلا– carlas song « الذي أنجزه في العام 1996 ليتناول قصة فتاة من نيكاراجوا تنتمي للجبهة الساندينية المحظورة وتعيش مضطرة في المنفى الاسكتلندي، ومن خلال قصة حب تجمع بين الفتاة وبين سائق حافلة أسكتلندي يعيد المخرج تذكيرنا بمعاناة الشعب النيكاراجوي الذي سلبت ثرواته بسبب سياسات داخلية خاطئة وتدخلات خارجية تسعى لامتصاص واستغلال الموارد الطبيعية بعيدا عن شروط العدالة الاجتماعية. أفلام وقضايا قدم لوتش في مشواره الفني والمهني والسينمائي الحافل والمديد حوالي 22 فيلما وثائقيا و35 فيلما روائيا تتصدرها بعض العناوين المهمة مثل: «خبز وورود» و»الملاحون» و «أمطار حجرية» و «المنبوذون» و «الأجندة السرية» و «إسمي جو»، هذه الأفلام وغيرها قدمت كين لوتش للمجتمع السينمائي في العالم كناقد صارم للأوضاع العمالية في بلده ولبؤس الشعوب المبتلية بالخراب الإقتصادي وعنف الحروب ومأساة الأقليات المناضلة التي يزيف الإعلام السائد حقيقة نزعتها التحررية ومطالبها الشرعية، وقدم لوتش في رسائله البصرية الفاضحة والصادمة الكثير من المشاهد الحسية المقلقة للسلطات والهيئات الرقابية ، عرض لوتش هذه المشاهد كما هي وبقبحها وعريها الكاملين كي يعبر عن واقعية الألم دون لبس وتورية ـ، ففي فيلم « الريح التي هزت حقل الشعير» مثلا كان هناك مشهد لقلع أظافر أحد المقاومين الأيرلنديين، وتم تصوير المشهد بواقعية حادة وصارخة وبلا مؤثرات بصرية، وكان القصد واضحا في توصيل الإحساس الكامل بالألم إلى المتفرج ! ــ ورغم تاريخه الطويل في عالم الأفلام المهمة والمؤثرة فإن «لوتش» لم يخضع يوما لإغراءات المنتجين في هوليوود، فضل «لوتش» الانتماء لعالمه الشديد الخصوصية على حساب التنازلات التي يمكن أن تفرضها شروط الإنتاج التجاري. ويعتبر «لوتش» أحد المساهمين الكبار في صياغة تقاليد السينما البريطانية المهمومة بتفاصيل الحياة اليومية والقصص الإنسانية والتاريخية المرتبطة بالمكان وبالذاكرة، فابتعد وبخطوات واسعة عن أفلام التسلية العابرة ذات النسق الترفيهي البحت. إن أسلوب العمل الحر والمتفرد والبعيد عن الإملاءات ضمن لـ «لوتش» موقعا مهما في خارطة السينما الأوربية، كما حجز له مكانة مشهودة في سجل الأسماء الإخراجية الكبيرة داخل المناخ الفني العام للقارة العجوز، صفة ومكانة لم يحزها لا في وطنه الأصلي ولا في إمبراطورية هوليوود، ولكنها ورغم كل الظروف المعاكسة رسخت اسمه كواحد من أهم المخرجين الأحياء في أوروبا الحديثة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©