الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الشعر والذاكرة

الشعر والذاكرة
30 يوليو 2009 03:41
تتفاوت المجتمعات العربية اليوم في درجة الحفاوة والاهتمام بإنتاجه وتلقيه, عوامل متشابكة تعز على التحليل المبسط, مع ارتباطها الوثيق بمستوى ثقافة الصورة, وقوة العلاقة بالتراث وتمركزه حول البؤرة الدينية فحسب. لكن التفاوت الأوضح يتجلى لدى الأجيال المتعاقبة, مشيراً إلى تراجع هذا الاهتمام نسبيا لدى الشباب وخلو ذاكرتهم من عيون الشعر التي مازال آباؤهم يستحضرونها عند كل موقف مهما كانت معارفهم, فبينما كان الخطاب الثقافي منذ خمسين سنة مضمّخاً بعطر الشعر الذي ينشر شذاه على مختلف جوانب الحياة, وتلمع أبياته في الصحافة والإذاعة, حلت الصورة المرئية منذ عصر التليفزيون في الوعي العام محل الصورة الشعرية المتخيلة, لأنها لا تتطلب جهدا في إنتاجها ولا إدراكها, خضوعاً لقانون الاقتصاد والسرعة. ولولا طوفان العوالم الجديدة التي انفتحت عليها الوسائل المرئية, وما يتطلب من نشاط تخييلي في تصوره واستيعابه لأصيب الإنسان المعاصر بضمور ملكة الخيال نتيجة لهذا القصور. لكن طاقة التعبير باللغة مهددة بالتراجع، حتى لدى المثقفين الحريصين على تشكيل أساليبهم، ما لم تتجدد علاقتهم بالشعر، وتعرف ذواكرهم مرة أخرى الطريق لحفظه واستحلابه، ولعل سلاسة انسياب الذاكرة بالمحفوظ التلقائي من عناصر الشعر يرتبط بأمرين على قدر عظيم من الأهمية: أولهما التواصل المنتظم على مدار مراحل العمر، وباختلاف الأدوات التعليمية والثقافية مع ذاكرة التراث الشعري فى كل العصور؛ خاصة مع تلك النماذج التى امتزجت بوجدان الأجيال المختلفة, واكتسبت قوتها السحرية على اختراق الزمن، مع تكوين الذائقة وتجديد الوعي. وكلما أمعنا النظر في كتب المختارات القديمة والحديثة على حد سواء وجدنا ركيزة هذه النماذج التي احتفظت بها الذاكرة الصامتة والصائتة في الكتب وعلى الألسنة، فالأبيات السائرة قد نجحت في اختبار الزمن، وتخطت حواجز العصور، وقفزت على متغيرات اللغة والظروف والأمزجة، وأصبحت بمثابة النماذج القادرة على تشكيل الحس وتنشيط الوعي، وحفظ ماء الثقافة بقيمها الإنسانية والجمالية، بما يجعل تردادها والتغني بها، تنميتها وتأملها إضافة متجددة للإنسان. وشرطاً ضرورياً لتواصل الأجيال فالشعر لا يصنع في غيبة آبائه، بل يكتمل في حضورهم وعلى عينهم، كما أن العلم لا ينمو فى غيبة العلماء، بل لا يتم إلا بصحبتهم. أما الأمر الثانى الكفيل بالحفاظ على هذا التواصل الخلاق فهو الحرص البالغ على إيقاع اللغة، واستثمار عبقريتها التعبيرية في تشكيل هذا المستوى المذهل من السيرورة؛ فكلما تأملنا عيون الشعر العربي وجدناها تمتلك هذه الخاصية المدهشة؛ حيث تبدو طازجة كأنها خرجت لتوها إلى الحياة، ليس فيها أثر للتكلف أو التقعر أو الافتعال. مما يجعلنا نتساءل عن سر هذه الحيوية الدائمة والشباب المتجدد، هل يمكن فى العلاقة الحميمة بين بنية التفكير وأسلوب التعبير، أم في هذه التلقائية والبساطة، وكيف لنا أن نستهدفها ونحققها فى لغتنا اليوم؟ ولعل مطارحتنا لبعض النماذج الخوالد من هذه الفلذات الشعرية أن يكون مراساً على التواصل من ناحية، ومقاربة لبهجته وحيويته المنعشة من ناحية أخرى.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©