الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

مدن السعادة

مدن السعادة
30 يوليو 2009 03:43
بعد أن يقرر أبو نصر الفارابي في كتابه آراء أهل المدينة الفاضلة أن الخير الأفضل والكمال الأقصى إنما يُنال أولاً بالمدينة، يشترط أن يكون الاجتماع فيها مقصوداً به التعاون على الأشياء التي تُنال بها السعادة الحقيقية لتكون جديرة بوصف المدينة الفاضلة. الحروب والعنف إذن ليست على لائحة الفارابي أو تضاريس مدينته، لأن الاجتماع الفاضل شرط آخر لوجود تلك اليوتوبيا، ولا بد أن يتم به التعاون على نيل السعادة، تلك التي لا يلازمها موت أو فناء أو دمار. ثم تتدرج عنده حلقات التعاون وتتسع دوائره من المدينة والجماعة إلى الأمة التي يقول الفارابي إنها إذا تعاونت مدنها كلها على ما تُنال به السعادة فهي الأمة الفاضلة. وإذا وُجدت تلك الأمة بمدنها فسوف نصل إلى ما يدعوه الفارابي المعمورة الفاضلة التي إنما تكون إذا ما كان الخلق أو الأمم - التي فيها يتعاونون على السعادة. مدن السعادة تلك باشتراطاتها البسيطة والتعاون والاجتماع الفاضل متصلة الغاية والهدف، لأن سبلها واحدة أيضاً، لكن قدرها أن تظل مدن حلم أو خيال رغم ذلك. فهي تتسم بالعداء لبعضها والبغض لمخلوقاتها وتتباهى بالنبذ وعزلة ساكنيها. الريفيون هم ضحاياها الأوائل تدوسهم طرقاتها وتنكرهم ويشعرون فيها بالغربة التي توقعهم في كمائن محتالي المدن : ذلك ما يصنعه أبو الفتح الإسكندري بالسوادي- الريفي - في المقامة البغدادية ويوهمه بأنه ضيفه فيدعوه ليتركه منسلاً بعد انتهاء الطعام. وذلك ما يكرره شعراء الحداثة: مدينة حجازي التي بلا قلب، ومدينة السياب التي تلتف حوله دروبها كحبال من الطين يمضغن قلبه، ومدينة كفافي التي يلحق الفرد خرابها حيث حل. لكن لعنة المدن لم تمنع الإنسان من الحلم بمدن أخرى ذات وجود علوي لا يحل بأهله ما يحل بهم اليوم من ظلم مزدوج: ظلم أهلهم من محترفي الشقاء، والأقوياء الذين يرون أن نواميس مدنهم لا بد لها أن تسود كنايةً عن سيادة قيمهم ومبادئهم. هكذا تتراجع السعادة عن المدن ولا يغدو اجتماع أهلها فاضلاً، فهي تتبارى في التهام أبنائها و رميهم متنكرة جاحدة، وتغلق على نفسها ما ينفتح من كوى على الآخر، وتجنّد عقلها وعلمها وأسلحتها لقتله ومصادرته وتنفيره. قتلُ الذات والآخر هما شغل المدن اليوم فلا يفلت من عقابها أحد: الإبن المنذور للموت والآخر المقصى من الرؤية، ولكي تعيش السعادة الموهومة عليك أن تبحث عن وجودك في مدن أخرى ليست إلا نسخاً من تلك التي غادرتها، وخربت فيها حياتك، فغدت خرابا حيث حللت. أما السعادة فهي مفردة ظلت وهماً في حلم المدن الفاضلة التي عاشت على الورق، ولم تعترف بجغرافيتها عيون البشر في المعمورة التي بالغ أبو نصر في خياله متصوراً إمكان وجودها بصفتها الفاضلة تأسيساً على تلك المدينة التي لم تولد بعد.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©