الثلاثاء 16 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الأصفار في الأسفار!

3 ابريل 2018 23:05
هذا أسود لا بياض فيه.. وذاك أبيض لا شية فيه.. هذا خير لا شر فيه.. وهذا شر لا خير فيه.. تلك خلاصة الفكر العربي من قديم الزمان، وإلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً. إنه التطرف الذي لا يرى ألواناً أخرى. يطلق النسبي.. ويجعل الاحتمال مطلقاً، لا يعرف وسطاً ولا اعتدالاً.. وإنما هو دائماً حرق لمراكب العودة. هو فكر وهي ثقافة عربية ورثناهما كابراً عن كابر. رغم أن الدنيا مخلوقة كلها من النسبية وقائمة على الاحتمال. وليس فيها أمر مقطوع بصحته أو خطئه إلا ما ورد نصاً في القرآن والسنة الصحيحة. وما عدا ذلك كل امرئ، وكل شيء، وكل رأي، وكل فكر يؤخذ منه ويرد عليه. وليس هناك قول فصل. وكل أمر صورة بلا أصل. وفكر الأبيض الذي لا سواد فيه، والأسود الذي لا بياض فيه مسؤول عن كل الصراعات والدماء العربية التي صارت تُراق بلا حساب، وبلا سبب حتى رخصت وهانت على أصحابها قبل أن تهون على أعداء الخارج. لم يحدث أبداً أننا التقينا في منتصف الطريق، أو تقاطعنا في نقطة واحدة، بل إننا خطوط متوازية لا تلتقي مهما امتدت على استقامتها. وهناك شعار عربي عجيب نردده جميعاً بكل فخر وصلف، وهو أننا لا نرجع في كلامنا، ولا نتنازل عن أمور سميناها مبادئ، ولا نفعل إلا ما نقتنع به. ولا نحيد عن أفكارنا، وذلك أسوأ شعار لأنه شعار التخلف والتطرف. ونرى ذلك شجاعة وبطولة، رغم أن شجاعة الرجوع عن الخطأ أعظم من شجاعة التمسك به، وكثيراً ما يكون الانسحاب من معركة خاسرة أعظم من الإصرار على القتال فيها. والتمسك بالرأي الخاطئ غباء وإفلاس، بينما التنازل عنه ذكاء وثراء. فإذا كان في رصيدي الفكري ألف رأي صائب وتنازلت عن رأي خاطئ فيه، فذلك لا يضرني لأنني ثري فكرياً. لكن الفقير فكرياً ووجدانياً وعقلياً يتشبث بالرأي الخاطئ، لأنه لا يملك سواه ولأنه مفلس، والمفلس دائم السب والقذف للدفاع عن أخطائه وأفكاره السقيمة. وهو دائم الانفعال وعالي الصوت، عملاً بالمثل العامي المصري الشهير «خدوهم بالصوت ليغلبوكم»، أي انتصر بصوتك وطول لسانك وقلمك، لا برأيك وفكرك. والله عز وجل يقول (... فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ...)، سورة البقرة: «الآية 213»، أي أن الحق أيضاً فيه خلاف واختلاف. لأنه ليس عند أحد وحده، ولا عند فريق وحده، بل هو ذرات أو أنصبة أو أجزاء. فأنا عندي جزء من الحق، وأنت عندك بعضه، وهذا لديه نصفه. والمصيبة أن كلاً منا يرى أن الحق كله عنده. لذلك لا نجمع حقنا في كومة واحدة ليصبح الحق كله معنا جميعاً. ونصف الحقيقة كذب. وبعض الحق باطل. فالحق كله أو لا شيء. والحق كله معنا جميعاً إذا التقينا، لكننا لا نلتقي أبداً، بل نتقاتل حتى يضيع الحق كله ولا يكون مع أحد أبداً. ويصير العناد سيد المشهد، وتصبح البطولة المطلقة للكراهية والغباء وعمى البصائر، ويطول الصراع الذي كان في بدايته وسيلة للانتصار للرأي والفكر، حتى يتحول إلى غاية وهدف في ذاته، وينسى المتصارعون لماذا تصارعوا ولا يعرفون ولا يتذكرون سبب اندلاعه. فمع طول الصراع تتولد أسباب أخرى وصراعات فرعية، كما يحدث في سوريا وليبيا. ومع طول القتال والصراع تنشأ أجيال ولدت في ظل الدمار والدماء، وتكبر وهي لا تعرف لماذا؟ وما السبب؟ ولا تتصور أن هناك سلاماً أو أمناً أو حتى وطناً يجب الانتماء والولاء له. ويتحول الوطن إلى مليون وطن. وتتوالد أجندات لا علاقة لها بالوطن، ولا بالمبادئ ولا القيم ويصير كل شيء مباحاً ومستباحاً. وأسوأ ما ابتـُليت به أمّة العرب هو تحول الوسائل إلى غايات. فالحرب وسيلة تحولت عندنا إلى غاية، واختلاف الرأي وسيلة تحولت إلى غاية، كما أن الغايات تحولت إلى وسائل، فالدين غاية تحولت إلى وسيلة للتكسّب والقفز على السلطة والبلطجة والإرهاب والقتل. والحرية غاية تحولت إلى وسيلة للفوضى والتجاوز وضرب القيم والثوابت. وكل كلمات الحق يراد بها باطل، وكل كلمات الهدى يُراد بها ضلال، مثل التمسك بالمبدأ أو الرأي، إنه تمسك بالعناد والغباء والإفلاس.. لا توجد في أمة العرب فرقة ناجية، بل كلها فرق هالكة! ولا توجد أفكار مبرأة من الهوى، فقد اتخذ الكل إلهه هواه فضل وأضل، إنه فكر الأبيض والأسود والتضاد، والضدان لا يلتقيان، بل لابد أن يقتل أحدهما الآخر ليبقى هو، وفكر الأبيض والأسود لا يؤمن بالتجاور والتحاور. فلا جوار ولا حوار، بل عوار وخوار وصياح ونباح، أنا دائماً على حق، وأنت دائماً على باطل، رأيي لا يحتمل الخطأ، ورأيك لا يحتمل الصواب. لذلك كله يكون التفاوض في أمتنا عبثاً، ويكون الحوار رفثاً وفسوقاً وعصياناً، نتفق على الطاولة وننقض اتفاقنا على الأرض، نتصافح ليلاً ونتقاتل نهاراً. نوقع الاتفاق والمعاهدة بيد، ونمحو توقيعنا باليد الأخرى.. لأن التنازل في عرفنا عيب، ولأن الاعتراف بالخطأ رذيلة. كم مرة جلس الحوثيون والفرقاء السوريون والفرقاء الليبيون.. والفرقاء اللبنانيون.. والفرقاء الفلسطينيون.. كم مرّة جلس حكام قطر.. وكم مرة جلس العراقيون إلى طاولات التفاوض واتفقوا على طي صفحة الماضي، وفتح صفحة جديدة بيضاء ناصعة ومدوا الأيدي بالسلام والتقت الأحضان في عناق طويل، ثم عادت «ريمة إلى عادتها القديمة»، وعاد الاحتراب والدم. واتهم كل فريق الآخر بنقض الاتفاق، وفي كل مرة يُقال إنه اتفاق تاريخي ومصالحة تاريخية. ولطالما ظلمنا التاريخ بجعل كل أفعالنا وأقوالنا تاريخية.. ولا شيء يحدث سوى إضاعة الوقت بين مدن وعواصم العالم في الجلسات والمؤتمرات والكاميرات والابتسامات المصنوعة في جنيف وأستانا والصخيرات وباريس ولندن ونيويورك بلا طائل ولا مردود حتى لم يعد في الكتاب العربي الملطّخ بالدم أي صفحات بيضاء يمكن الكتابة فيها والبدء بها من جديد. إنها الحركة العربية في كل سفر من الصفر إلى الصفر، ومحصلة كل الأسفار مجموعة ضخمة من الأصفار! *كاتب صحفي
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©