السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

مأساة أخي

مأساة أخي
8 يونيو 2008 03:29
أجر قدمي جراً إلى المستشفى، كأنهما صخرتان ثقيلتان· لا أدري لم يحدث هذا لي، شعوري بالعجز أمام هذه المشكلة أثقلني، ماذا سأقول لأخي؟ وماذا سأقول لوالدتي؟ هل أخبرهما بالحقيقة؟ أم اخترع أية أعذار مناسبة؟ أنا حائر في أمري· أدخل الغرفة بحذر شديد· لا أسمع أي صوت· أتأمل أمي وهي نائمة على كرسي غير مريح إلى جانب أخي· أصبحت شبه مقيم في المستشفى، منذ أن دخلها أخي، إنه أصغر أولادها· مسكينة أمي، قلبها يتقطع وينفطر وهي ترى ولدها يتعذب ويتألم ولا يجد خلاصاً لعذاباته· أتأمله، هو أيضاً نائم الآن ولا يتألم في هذه اللحظة· أحمد ربي ألف مرة على لحظات الراحة والسكون التي تجعله يرتاح قليلاً فترتاح الوالدة وتغمض عينيها المتعبتين من كثرة السهر والإجهاد· مسكين أخي، علامات الألم تظل مرسومة على وجهه حتى عندما ينام، جسده صار نحيلاً منهكاً لشدة ما يعانيه· أين ذهب ذلك الجسد الرياضي المتناسق؟ أين تلك القامة الجميلة؟ أين ذلك العنفوان الرائع؟ كلها تبخرت!! ذهبت مع ذهاب الصحة والعافية!! تحول الجسد إلى كومه من العذاب والمعاناة، يا الهي!! كيف يتغير الإنسان بهذا الشكل العجيب؟ كنا نحلم بأن نراه ''معرساً'' يرتدي البشت، يقف وسطنا بزهو الشباب وجماله فنزفه إلى عروسه وتقر أعيننا بسعادته وفرحه، للأسف··· لم يمهله المرض، بشكل مفاجئ، صرخ وتألم، نقلناه إلى المستشفى، أجريت له التحاليل والفحوصات، ثم أخبرونا بأنه مصاب بالفشل الكلوي· ذهلنا كأننا نسمع الاسم لأول مرة، بقينا نتساءل: ما معنى هذا؟ ماذا يعني الفشل الكلوي؟ أخبرنا الطبيب بأن هذا معناه بأن كل من الكليتين لا تعملان، توقفتا عن العمل إلى الأبد، وهو يحتاج لعملية غسل الدم طوال حياته، هل هذا يعقل؟ إنه في الواحدة والعشرين من عمره، لا زال في أول الشباب، بل إنه مجرد طفل، لا يمكن أن يقضي سنين عمره في المستشفيات، إنه أمر فوق الطاقة، ولا حتى يمكن لأحد أن يتقبله· توسلات وحيرة أرجوكم، ارحموا شبابه، لابد من وجود حل، وهل يعجز الطب؟ الدنيا في تطور، ولكل شيء حل، لابد من وجود حل، نعم··· هنالك حل، وهو أن يحصل على كلية من شخص آخر يتبرع بكليته له، شخص يقبل أن يعيش بكلية واحدة فقط· اندفعت بلا أدنى تردد، أنا أخوه، أريد أن أتبرع له بكليتي، كلية واحدة تكفيني، لن أترك أخي يتعذب أو يموت، لن نخسره بهذه السهولة، سنعيش معاً أو نموت معاً، إنه أخي، مستعد لأي تضحية من أجله· صرخت أمي محتجة: حرام عليكم، ماذا تفعلون، هل تريدون موتي؟ يكفي ولد واحد في الخطر، هل سيصبح لدي ولدان مهددان بالخطر، هل سأصبر على تعرض اثنين من أولادي لمثل هذا الأمر؟ لن أقبل بهذه التضحية، حلفت عليكم أن لا تفعلوا، تكفي مصيبة واحدة، ابحثوا عن طرق أخرى· سألنا هنا وهناك، هل من حل؟ أخبرونا، نعم، هناك حل، أن يتم تسفيره إلى إحدى الدول التي تتكفل بإيجاد المتبرعين، فيتم نقل الكلية من الشخص السليم إلى المريض، وتتم متابعة الاثنين حتى تستقر الأمور· حمدنا ربنا بعد أن وجدنا الحل، ولكن!! من يتحمل كل تلك النفقات؟ نحن أسرة فقيرة، لا نملك أي شيء نبيعه كي نغطي كل تلك التكاليف· أخبرونا بان من حقنا أن نطالب بتسفير ولدنا على نفقة الدولة، فحالته تستحق مثل هذه التغطية· حملت الأوراق وقصدت الجهات المختصة، أذهب إلى هنا· أذهب إلى هناك· لف ودوران لا ينتهي أبداً· بعد مراجعات متعددة، أخبروني بأنهم آسفون لأنه قد تم إيقاف سفرات العلاج للخارج، يا الهي!! هل هذا يعقل؟ كل يوم نسمع عن اناس يسافرون للعلاج على نفقة الدولة، فهل يعقل أن يتوقف السفر فقط عندما يصل الأمر إلى أخي المسكين؟ هل سيبقى يتعذب ويتألم؟ وهل سنراه أمامنا وهو يموت كل يوم؟ وأمي!! كيف ستتحمل مثل هذه الصدمة؟ كيف أشرح لها مثل هذا الموقف؟ إنه أمر يصعب علي تبريره· عدت للمستشفى بإحباط شديد، وقفت أتأمل وجه أخي الشاحب، علامات الألم لا تزال مرتسمة عليه، حتى في نومه يتألم، ارحمه يا رب· أمي تنام على كرسي غير مريح، تبقى إلى جانبه كي لا يتألم لوحده، يا لقلب الأم! هذه الإنسانة التي تعيش حياتها وهي تفكر بأولادها وبناتها ولا تفكر بنفسها، مسكينة هذه الأم، إذا أصيب أي واحد منا ولو بشيء بسيط، تنهمر دموعها وتبسط يدها بالدعاء قائلة: ليتني أنا ولا أحد من أولادي· عاشت عمرها كله وهي ترعانا وتخاف علينا من أي شيء· كم أتمنى لو استطيع أن أريحها، وأن أفعل أي شيء أوقف به معاناة أخي فتتوقف معاناتها، للأسف عدت بائساً كمن لا حول له ولا قوة، أقف وأنا أتأملهما بصمت كي لا اوقظهما فيسألاني عما حدث، ولا أملك الإجابة· يا الهي، لابد أن يكون هنالك شيء أفعله من أجل أخي، لا أتحمل رؤيته وهو يتألم، ماذا أفعل؟ الدمعة تترقرق في عيني فأمنعها من السقوط، فأنا رجل والرجال لا يبكون، مهما عصفت بهم ريح المآسي، فإنهم لا يبكون، هذا ما علمني إياه أبي· المواجهة الصعبة الألم يوقظ أخي، يتأوه فتستيقظ والدتي فزعة، تفاجأ بي، تنظر إلي بعينين متسائلتين، ماذا فعلت؟ أنظر إليها وأحاول أن أكذب، لكن لساني ينطق بالحقيقة: لم يوافقوا على السفر، يقولون بأن العلاج في الخارج متوقف· ترتسم علامات الاستفهام على وجهها وتتساءل: كيف ذلك؟ هل هذا يعقل؟ فلانة سافرت منذ أسبوع لأنها تشك بوجود ورم في رحمها، فلان سافر لعلاج الغدة الدرقية، أم فلان سافرت لأن شعر رأسها يتساقط، ماذا تقول؟ الكل يسافر للعلاج على حساب الدولة، هل يعقل أن يقولوا مثل هذا الكلام؟ ولدنا توقفت كليتاه، جسمه يتعرض للتسمم، إنه في أول شبابه، هل سننتظر حتى يموت؟ أجبتها بانفعال حقيقي: أمي أرجوك ارفقي بنفسك وبي، لقد فعلت كل ما بوسعي، ولن أتوقف عن المحاولة، سأقصد كل الجهات، سألجأ للصحف، سأفعل أي شيء من أجل أخي، فقط اهدئي وارحمي نفسك وارحميني· نوبة جديدة من الألم توقظ أخي، يصرخ، أسرع إليه، أمسك بيده، يطلب أدوية، مسكنات، أركض إلى الممرضات، أرجوكم أعطوه مسكنات، إنه يتألم، تجيبني إحداهن، إنها ليست في صالحه· أعود إليه خائباً، ينظر إلي بتوسل، أرجوك أريد أي دواء يذهب عني الألم، أي دواء، المهم أن يسكن الألم، أمسك بيده، يا أخي الغالي: يجب أن تصبر وتتحمل، كان الله في عونك· يرتفع صوته من جديد، ألم يبعثر ويمزق مشاعرنا أنا وأمي، أمي تبكي تفرغ ما بداخلها من حرقة وأنا لا استطيع البكاء، الرجال لا يبكون، هذا ما تعلمته، ولكن ماذا أفعل كيف أساعده، العرق يغطيه، يداه تتشبثان بفواصل الحديد على جانبي السرير، يعتصر بشدة فيتمقع لونه، تتقلص ملامحه ويصرخ بآهات متوسلة ضعيفة يطلب المساعدة، كيف أساعدك يا أخي؟ هل بيدي شيء، تسألني عيناه·· متى النهاية؟ أنظر إليه ببله، ليتني استطيع الإجابة، احتضن يده المرتعشة، أفركها أحاول أن أسحب الألم، فلا يتعذب أخي، بهذا الشكل، ليتني استطيع مساعدته· كانت لديه أحلام وآمال، كان يحاول أن يكون مثالياً في كل شيء، يقلق إذا شعر بازدياد وزنه، يعرض نفسه للحرمان كي لا يتكوم الشحم على جسده، يهوى الرياضة ويعشقها، يدخل النوادي ويمارس رياضة الركض، أمي كانت تخاف عليه خصوصاً عندما يعرض عن الطعام، تتوسل إليه: يا ولدي أترك هذا الوسواس، هذا الشيء الذي تسميه الرجيم سيؤثر على صحتك، إنه بدعة هذا الزمان، كل طعامك وتمتع بصحتك، المؤمن لديه رجيم رباني، ألم تقرأ الآية الكريمة (كلوا وأشربوا ولا تسرفوا) الإسراف في الطعام سيأتي بالمرض، أما الاعتدال فإنه الصحة بعينها· أصيب بفقر الدم نتيجة لذلك الرجيم الحاد، كان يشعر بالدوخة والصداع، أخذ يتناول بعض الحبوب المسكنة، بندول، بروفين ليخفف الألم، ثم فجأة حدثت الكارثة، سقط تحت نوبات من الألم الحاد، أجريت له التحليلات والفحوصات وثبتت إصابته بالفشل الكلوي، ومنذ ذلك اليوم ونحن نعيش مأساة حقيقية· بعد أن طرقت جميع الأبواب ووجدتها موصدة قررت أن ألجأ إلى ربي، وأملي في الله كبير، فلن يخذلني ولن يتركني عاجزاً أمام مشكلة أخي، بالتأكيد سيسخر لي من يستطيع مساعدتي في حل مشكلتي.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©