الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

شايغان: نعيش في منطقة اختلاط وتهجين

شايغان: نعيش في منطقة اختلاط وتهجين
4 ابريل 2018 03:29
حوار: شانتال كابيه* ترجمة: أنطوان جوكي منذ أيامٍ قليلة (22 مارس الماضي)، رحل الفيلسوف الإيراني داريوش شايغان عن عمر يناهز 83 عاماً، وبذلك نكون قد فقدنا مفكّراً كبيراً وجريئاً كان أوَّل من فكّك محركات الثورة الإيرانية، وفسّر الصدمة التي أحدثتها الحداثة داخل المجتمعات التقليدية. شايغان متخصِّص في المدارس الفلسفية والديانات الهندية، ودافع عن قِيَم عصر «الأنوار» الغربي، كما يتجلى ذلك في أحد أهم مؤلّفاته: «يأتي النور من الغرب»، الذي بيّـن فيه أن مقاومة مكتسبات هذا العصر لا تقود إلا إلى الظلامية. كتاب اغتنمت مجلة «الحياة» (La Vie) الفرنسية حديثاً صدور طبعته الثانية في فرنسا من أجل محاورة صاحبه فيه وفي مواضيع أخرى مختلفة. هنا نص الحوار: * «يأتي النور من الغرب» هو عنوان أحد كتبك. هل علينا أن نتلقّاه بمعناه الأول؟ ** نعم ولا، لأن النور فيه يرمز أيضاً إلى عصر «الأنوار» في القرن الثامن عِشر. يشكّل هذا العصر منعطفاً في تاريخ البشرية، مرحلة أدرك الإنسان فيها حرّيته، حقوقه، وتاق إلى التحرّر من وصايتين، وفقاً للفيلسوف إيمانويل كانط: السلطة والمقدَّس. من جهة أخرى، وبشكلٍ مفارق، كي تنمو الفردية والروحانية، كان على الإنسان أن يعيش في محيط معلمَن، تحت سقف دولة القانون وتحت حماية مؤسسات عقلانية وديمقراطية. أظن أن مغامرة الحداثة خلال هذا العصر شكّلت حركة تحرّر هائلة للإنسان. إن الفصل بين الإيمان والمعرفة هو شرط لتحرّر أي مجتمع من التمثلات الرجعية. فمن دون أربعة قرون من العلمنة لما بلغنا مفهوم الديمقراطية الدنيوي. أكثر من ذلك، لولا الصدمة التي أحدثها كوبرنيك وغاليليوس لما انبثقت علوم الطبيعة؛ ومن دون الصدمة البيولوجية لما عرفنا حقيقة تطور الأجناس، ومن دون الصدمة السيكولوجية لما تمكّنا من اكتشاف آليات اللاوعي الغامضة. هذه الصدمات الثلاث هي التي كوّنت وعي الإنسان الحديث، وفقاً لفرويد. اختلاط وتهجين * هل ما زالت صالحة وثاقبة تلك النظرة التي تقابل الغرب بسائر العالم؟ * لم تعد لها أي قيمة. تحدّثنا منذ عدة سنوات عن «تصادُم الحضارات». وفقاً لهانتيغنتون، صاحب هذه الأطروحة، العالم مسرح صراعات بين عدة حضارات كبرى، لكن هذه الحضارات لم تعد عوالم معزولة، كما رأى ماركو بولو الصين مثلاً في القرن الثالث عشر. لم تعد هذه الحضارات اليوم تكتفي بذاتها، كما لم تعد تدور في فلك تاريخها الخاص، بل أصبحت مناطق حساسيات مختلفة تجاه الحداثة الطاغية. ولذلك، نعيش جميعاً اليوم في مناطق اختلاطٍ وتهجينٍ. حضارة سليمة من أي تأثير خارجي هي محض خرافة. حين صدر كتابي «يأتي النور من الغرب» باللغة الفارسية، فوجئتُ بالنجاح الذي لاقاه. كانت المرة الأولى في هذا البلد التي يتوارى فيها ذلك الفصام بين شرق وغرب، أو بين تقليد وحداثة، داخل أفق أوسع، أفق الاختلاط والتعددية الثقافية والهويات المتعددة. وبالتالي، فوجئتُ كم تطّور المجتمع الإيراني أخيراً وكيف تبنّى المثقفون فيه كتابي، كما لو أنهم أرادوا بذلك القول بصوتٍ واحد: «اسكب لنا سمّك كي ينعشنا!/‏‏‏‏‏‏ طالما أن هذه النار تلهب عقلنا، نريد/‏‏‏‏‏‏ الغوص في عمق الهوّة، سماءً كانت أو جحيماً، لا أهمية/‏‏‏‏‏‏ في عمق المجهول حيث الجديد» (شارل بودلير). * «شئنا أم أبينا، نحن جميعاً غربيون»، تقول في كتابك الآخر «الإدراك الهجين». ماذا تقصد بذلك تحديداً؟ ** عاطفياً، أشعر بأنني شرقي في عمقي، وفِي الوقت نفسه، أشعر بأنني غربي في فكري النقدي والتزامي بالقيَم الشاملة. هذا يصوّر حالة الفصام التي أنا فيها، مثلي مثل معظم أبناء وطني. أي تقليص لهذا الجانب أو ذاك من فصامنا يقود إلى طريقٍ مسدود. في حالتي الخاصة، تمنحني هويتي الثلاثية (الإيرانية، المسلمة والحداثية) إمكانيات فهمٍ نادرة، شرط أن لا ننسى أن كل جانب من هذه الجوانب الثلاثة فيها يملك نمط تأويله الخاص. المفتاح الذي يفتح فكر هيغل، مثلاً، ليس المفتاح الذي يكشف لنا فكر شاعر متصوّف مثل حافظ. يسمح إدراكنا لنا بتلخيص جميع عصور المعرفة وإعادة ركنها على أرضياتها الخاصة. ويشكّل فن ترتيب الفضاءات المتنوّعة هذا درباً ثالثاً سمّيته «الفصام المدجَّن». دربٌ يسمح بالإفلات من تقليص المعرفة (مثل ردّ كل شيء إلى الدين وتحويله إلى أيديولوجيا) ووهم اليوتوبيات التي يتعذّر إنجازها. الجزء والكل * هل نشهد اليوم نهاية الحضارة الغربية أم، بالعكس، انتشار قيَمها في العالم أجمع؟ ** الحضارة الغربية أصبحت جزءاً لا يتجزّأ من حضارتنا البشرية ككُلّ. أي هوية حصرية تنكر الآخر، أي مقاومة لمكتسبات عصر «الأنوار» هي محاولة يائسة ترمي بِنَا في الظلامية. أعتقد أيضاً بأننا، حين نرفض مكتسبات الحداثة، نكبت هويةً جديدة استوعبناها، أحياناً من غير أن ندري، وباتت تأخذ مكانها إلى جانب الهويات السابقة التي نحملها. سمّيتُ هذه الظاهرة «التغريب اللاواعي»، وعلينا أن نكون مدركين لحقيقته وقيمته، لأن وحدها هذه الهوية الجديدة تتمتّع بملكة النقد. أتذكّر أنني سألتُ مرةً فيلسوفاً إيرانياً تقليدياً كبيراً: «لماذا لا تكتب كتاباً حول تاريخ الفلسفة الإسلامية؟» فأجابني: «لستُ قادرا على ذلك لأنني شخصياً أجسّد هذه الفلسفة». جواب كاشف لأن صاحبه أراد أن يقول إنه لا يملك القدرة على أخذ مسافة من موضوعه، علماً أنه يتعذّر على التقليد أن يتأمّل نفسه من دونها. شئنا أم أبينا هذه المسافة هي ثمرة الفكر النقدي. * ابتكر الغرب الأفضل (الديمقراطية، دولة القانون، التقدّم) وأيضاً الأسوأ (الاستعمار، العبودية، التوتاليتارية…). كيف تفسّر هذا التناقض؟ ** صحيح إن الغرب ابتكر ما تقولونه. فكرة السلطة، التي دفعت ديكارت إلى القول، إن الإنسان هو سيّد العالم ومالكه، كانت حاضرة سلفاً في توسّع الغرب وطغيانه. فكرة أفضت إلى الثورة الصناعية مع كل النتائج التي نعرفها. كتب كلود ليفي شتروس في «عِرق وتاريخ» أن البشرية عرفت ثورتين: ثورة العصر الحجري الحديث والثورة الصناعية التي أحدثت سلسلة تغييرات مترابطة في مختلف ميادين الحياة، وكانت بدورها، كما نعرف، نتيجة يتعذّر تجنّبها لانبثاق الروح العلمية. صحيح أيضاً أن خطاب الحداثة أخذ على عاتقه هيكلة الإنسان قانونياً وسياسياً. أما جوانب الحياة الأخرى، الداخلية، فاعتُبرت كمسائل شخصية تقع على عاتق كل فرد. لكن بسبب هذا الفراغ، يتغلغل الديني أكثر فأكثر في هذا الميدان الخاص، كما أشار ماكس فيبير إلى ذلك جيداً: «اليوم أفلتت روح التزهّد الديني من القفص. (…) لا أحد يعرف بعد مَن سيسكن القفص ولا إن كان سيظهر في نهاية هذا المسيرة أنبياء جدد كلياً أو انبعاث قوي للأفكار والمُثُل القديمة»! «الجمود الهوياتي» * ما هو مصدر الكراهية الحديثة للغرب، برأيك؟ ** مصدر كراهية الغرب، على الأقل في العالم الإسلامي، هو الفشل التاريخي لهذا الأخير الذي يثير شعوراً بالإذلال والاستياء، وخصوصاً أن الإسلام، وفقاً لأتباعه، يتفوّق ميتافيزيقياً على الديانتين اليهودية والمسيحية. بالنسبة إليّ، مصدر الضيق في العالم الإسلامي هو عدم فهم أو استيعاب ظاهرة تاريخية كبرى: مجيء الحداثة. ظاهرة لم تؤخذ في عين الاعتبار إلا وفقاً للتحولات الراديكالية التي ألحقتها بتقاليدنا وطُرُق عيشنا. لذلك، اكتسى كل حكم عليها طابعاً أخلاقياً وَقاد إلى رفضها، لكن تجدر الإشارة هنا إلى أن ردود الفعل على «الأنوار» بدأت في أوروبا بالذات، وفي ألمانيا تحديداً، حيث نمى شعور بضرورة التمرّد على طغيان الثقافة واللغة الفرنسيتين في القارة المذكورة خلال القرن الثامن عشر. ولن تلبث عدوى هذا التمرّد أن تطال في القرن التاسع عشر الشعوب السلافية وكبار الكتّاب الروس، مثل تولستوي ودوستويفسكي، قبل أن تصل في منتصف القرن العشرين إلى العالم الثالث حيث اتّخذت المطالَب الهوياتية أشكالاً متنوعة. ومع الثورة الإيرانية، أفضى هذا التمرّد إلى الانغلاق على الذات أو ما أسمّيه «الجمود الهوياتي». * مَن هم المعادون للغرب اليوم وماذا ينتقدون فيه؟ ** المعادون للغرب هم أولئك الذين يصعب عليهم فهم سير التاريخ ويعيشون في وهمٍ جماعي معتقدين بأن الخلاص هو بالعودة إلى الميثات المؤسسة للبدايات، وهو ما يسمِّيه الفيلسوف سيوران «تعبُّد البدايات». إنهم الناقمون الذين يأملون في إعادة إحياء العصر الذهبي لأولئك الورِعين الذين سبقونا، وينتقدون القطائع التاريخية التي يعتقدون أنهم ضحاياها ولا يبذلون أي جهد لفهمها. * من جهتهم، ألم يصبح الغربيون أطفالاً مدلّلين لم يعودوا يعرفون ما الذي يتوجّب فعله، بعد عيشهم كل شيء؟ ** لعلهم أصبحوا أطفالاً مدلّلين كما تقولون. نقد الديمقراطية في الغرب يتّسم بجميع الجوانب السلبية التي تمتد من الخوف من الفراغ إلى التحنيط. «إنها محنّطة وتختنق تحت وقع المدائح»، يقول الكاتب باسكال بروكنِر. بالنسبة لمواطنه أوليفييه مونجين، أصبح الخوف من الفراغ إحدى السمات الطاغية لـ«الإنسان الديمقراطي». لكن هذا «الانزلاق في الفراغ» يخفي، وفقاً له، ضيقاً: «عجز الديمقراطية عن خلق قِيَم مشتركة وتوليد تاريخ لا يكون فريسة السوق والفردية». وتأتي نهاية التاريخ هذه بعد طقس العربدة، يقول الفيلسوف جان بودريار. ما الذي يتوجّب فعله بعد هذا الطقس؟ حين نطرح هذا السؤال، نكون قد بدأنا بتكرار أنفسنا أو سيناريوهات سبق وأدّيناها. فبعد تحقيق اليوتوبيا، أصبح علينا العيش كما لو أن ثمة يوتوبيات أخرى في الأفق، لكن ماذا يعني كل هذا للناس الذين لم يحققوا هذه الأحلام ولا وضعوا مشاريع لبلوغ هذه المُثُل الكبرى، وما زالوا ينتمون إلى عالم ما زال كل شيء فيه في حالة مسودّة، ولم يتم تفريغ نسغ الكائن فحسب، بل نراه أيضاً يطوف بالعواطف والانفعالات والمشاعر التي تنتظر استثمارها؟ ما هو مكتسَب هنا في الغرب ما زال حلماً يتعذّر تحقيقه هناك. مَن ينعم بهذه الامتيازات ويعتبرها حقاً مكتسَباً لا يعرف إلى أي حد هي أحلام مستحيلة لآخرين كثر. الخوف والقلق * في العمق، ألا يعيش الإنسان الغربي في الخوف؟ ** أعتقد بأن ثمة ترابُطاً بين تراجُع الغرب المزعوم والخوف الذي تعكسه العودة فيه إلى أشكال روحانية مختلفة. كثيرون هم منشدو التراجع ومعلنو غسق الآلهة. نيتشه كشف العدمية المخفية داخل فكرة التقدّم، وشبينغلِر فضح تراجُع الثقافة الـ«فاوستية» (من فاوست، بطل حكايات شعبية ألمانية)، وهايدغر صقل براهين كثيرة لإثبات نهاية الفلسفة. وبالتالي، تتوالى الأطروحات الكارثية بإيقاع محموم، بينما نشهد، بموازاة ذلك، انبثاق بِدَع كبرى، مثل كنيسة السيانتولوجيا، وكنيسة الوحدة التي أسّسها الكوري مون، وشهود يهوه، وطائفة «الأكروبول الجديدة»، وأتباع كريشنا، من دون أن ننسى تيار «العصر الجديد» (New Age). يبدو الإنسان الحديث مسكوناً باللاعقلاني الذي كانت أربعة عصور من العلمانية قد تخلّصت منه. ويفضح هذا التكاثر الغريب للبِدَع داخل المجتمع الغربي ضيقاً وفراغاً لم تعد المسيحية قادرة على معالجتهما، لاشك، بسبب إفراطها في العلمنة من أجل تلبية الحاجات الروحية لأولئك الكثر الذين لم يعودوا يؤمنون بالروح. كل هذه التناقضات تخلق تنافراً في الأصوات وقلقاً يمكن أن يُترجَما كخوفٍ. خوف من شيء أضعناه. كما لو أن التقدّم، بدلاً من توجيهنا نحو مستقبل مُشرِق، دفع بنا إلى عالمٍ تنقلب فيه كل قِيَمنا القديمة ويستسلم الإنسان للتيه بعدما فقد بوصلته. سبب غرق الغرب في اللامعنى أو الفراغ الكلي، وفقاً للكاتب والصحافي جان كلود غييبو، هو نسيانه المساءلة وتحويله حداثته إلى امتياز بدلاً من قلقٍ. باختصار، لأنه توقف عن أن يمارس على نفسه تلك القدرة النقدية التي كانت تشكّله. تمرد أوروبي في رأي الفيلسوف إيراني الأصل داريوش شايغان، أن القيم التي جاء بها عصر الأنوار في أوروبا، واجهت اعتراضاً من داخل أوروبا أولاً، وبالتحديد من ألمانيا، حيث نما شعور بضرورة التمرّد على طغيان الثقافة واللغة الفرنسيتين خلال القرن الثامن عشر. ثم انتقل التمرّد في القرن التاسع عشر إلى الشعوب السلافية وكبار الكتّاب الروس، مثل تولستوي ودوستويفسكي، قبل أن يصل في منتصف القرن العشرين إلى العالم الثالث، حيث اتّخذت المطالَب الهوياتية أشكالاً متنوعة. ومع الثورة الإيرانية، يقول شايغان، أفضى هذا التمرّد إلى الانغلاق على الذات، أو ما أسمّيه «الجمود الهوياتي». * نشر هذا الحوار في المجلة الفرنسية «الحياة» (La Vie)، يوم 24 يونيو 2016. وقد صدر عدد المجلة المذكور، بالتعاون مع جريدة «لوموند» وحمل عنوان «التاريخ والغرب». وشانتال كابيه، هي نائبة رئيس تحرير مجلة «الحياة».
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©