الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

المشي مع نسوة الماء

المشي مع نسوة الماء
4 ابريل 2018 04:01
الماء والأم التصاق الوجود القديم، منهما أنبتَنا الله كالأشجار والنبوءات والينابيع، لا أجمل من ذلك المشهد الأمومي الممزوج برحمة الماء في تنكات معدنية على رؤوس الأمهات الذاهبات فجراً إلى العيون، على أطراف القرى وفي سككها الترابية. وكان المشي إلى الماء أشبه بالنزهة، برحلة مسامرة مشروعة للأمهات، يتحررن فيها من وتيرة الحياة المعبأة بالهموم المنزلية، كل خطوة للماء هي طاقة فضفضة. مع كل مشية يولد الشفاء وتدب حكاية جديدة على الأرض، والنبع ليس ببعيد، لكن الدرب إليه شاق... رغم الرحلة المتعبة إلا أن العيون هي البوابة الأولى المشرّعة للأمهات على فضاء الحرية المحدودة. العيون هي المخلص الأول لهن، ومسوّغاً للتنفس والنسيان خارج قيد الخضوع، لتنسلّ من حيزها الروتيني، تتحرر من حدود البيت، وفي الينابيع تعود إلى أصلها الوجودي الذي كانت عليه، فلربما كانت الأم وادياً شفافاً منطلقاً في الأخاديد الكونية، أو نجمة ماء جنوبية تغني منذ الأزل، أو شلال غيم في الأبدية، أو قصة شفافة لبراءة حب جديد عند الينبوع، هناك تحديداً قرب الماء وفيه، تحكي وتصغي وتغسل أحزانها، وتلمع شِعراً في سماء رجل يتبع يومياً سيرها الطاهر إلى النبع، فكم من عشق أوردته الجداول بين البساتين، وكم من شق مائي رطب انفلق من سحر النظرة الأولى ومؤانسة الكلام العذب. خطوات إلى الماء منذ زمن طويل وهي تلتصق بالينابيع والشلالات والجرار، (إذا ما نظرنا إلى النماذج الإثنولوجية وأشكال التعبير التصويري القديمة، فإننا نجد الأواني تصوّر فكرة الأم أروع تصوير، فثمة آنية ترجع إلى العصور الأولى، تتخذ شكلا أم تحمل وعاءً، وتصوّر هذه الآنية مدى ما كان عليه الانشغال الروحي الشعبي القديم بفكرة الأم التي هي رمز العطاء والخير والتجدد والمحبة) 1. علاقتي معها كبيرة، تلك الصور المؤثرة بروحها العتيقة، المعلقة على جدار أبيض في معرض أقيم في جنة القطيف. غرفت من ذاكرة ماء السبعينيات، تحديداً 1975، حيث عتبة النهايات الأخيرة لطقس الاغتسال والروح المنذورة للتحولات الكبيرة في حياة القرية والأم ومجتمع القطيف، الذاكرة البصرية لرحلة الأمهات الحافيات وخطواتهن المتعجلة في عباءات النور والأمومة والعطاء. كيف تسللت تلك الصور إلى الناس في القطيف؟ 12 صورة للمصورة الفوتوغرافية الأميركية دوثري ميلر، والتي عملت في شركة الزيت العربية الأميركية (أرامكو) عام 1947، سلطت عدستها على حياة المرأة القطيفيَّة ووقعت تحت جاذبية مشيها اليومي لمنابع الماء وطقس الاغتسال، وقد شكلت هذه الصور مخزوناً ثقافياً يرصد الحالة الاقتصادية والاجتماعية والأوضاع المعيشية لبلدة القطيف في سبعينيات القرن المنصرم. منذ الوهلة الأولى تستشعر السحر الروحي المشع من الصور، وكأن الضوء القديم الذي سُلط هناك يقلّب أنفاسك ويستدعي سؤالك، ماذا حدث لهؤلاء النسوة المستحمّات مع أطفالهن بعد تجميد اللحظة؟ من التي بقيت على قيد الحياة إلى يومنا هذا؟ وما أحوال تلك العيون الدفّاقة بين البساتين؟ والسؤال الأكبر الذي يستثيرك: كيف تمكنت دوثري من الدخول بحميمية إلى ذلك الطقس الخاص بنسوة القطيف، دون أن تجرح شعورهن أو تخدش جمالية اللحظات الخاصة بالستر؟ إن العباءات المعلقة بفوضى وعجالة على أغصان الأشجار وعلى طين الجدار تومئ بمشهد القلق الأنثوي الساحر، تلك الأنوثة الطاغية الكامنة وراء الحُجب، والتي يكمن سر انجذابك إليها في كونها دائرة في فلك الحياء المحفوف بالرّغبات، غامضة ومستترة ومانحة لمخيال إنساني عظيم. ثم إن الماء هو أيقونة جميع الصور، وحدتها الموضوعية، كل ما يُغسل فيه من متعلقات الأمهات يمشي ذاهباً في اتساع النخيل والأشجار والفراديس، وتنهض دورة حياة جديدة في الأشجار، يأتي مكوّن الثمار حاملاً طعم خطوات الأم المتعجلة على الأرض وأفعالها في الماء الأول. سعى المصور أثير السادة - عبر سعة أفقه - إلى جمع أرشيف تلك الصور وتصعيدها ثقافياً عبر استنطاقها في معرض فني استعادي، يحكي سيرة زمن النظام الأمومي الاجتماعي في القطيف، ويمنحها فانتازيا خالدة من موسيقى النبع والأمهات بين ممرات الماء وأجساد الأطفال العارية بسمرتها اللامعة تحت الشمس والمتأهبة لساعة الاستحمام المنتظرة، ورغم أنه موعد استراحة الأمهات من شقائهن، إلا أن القدور والأواني المنتشرة حول العين تفضي إلى كون الأمهات حملن معهن القلق وشقاء البيوت إلى تلك الاستراحة المشروعة. كانت الصور خير تعبير عن ديمومة تتجلى في قوة اللحظة المؤثرة، قوة أثر المعنى، والقوة الروحية للعنوان الرّحلي نحو الذاكرة: (خطوات إلى الماء) ثلاث كلمات تنتج الحياة وتحيي ذلك المشوار المنسي في حقبة وسطى متضاربة ما بين التلاشي والاحتواء. في حديثنا معه يخبرنا أثير السادة عن ظروف انتقال تلك الصور الأنثروبولوجية قائلاً: هذه المجموعة تسللت إلى الناس من خلال أرشيف أرامكو، فبحثنا عن المصورة ومعلوماتها إلى أن وقعنا على خبر إقامة معرض لصورها في الجزيرة العربية في جامعة جورج تاون في واشنطن في عام 2008م، من هناك بدأت الاتصالات مع الجامعة، حيث علمنا أنها أودعت صورها هناك قبيل رحيلها، فكانوا متعاونين كل التعاون ضمن إجراءات إدارية سلسة. توأمة ثمة توأمة للماء والأم في الأساطير؛ ففي الأساطير المصرية القديمة تظهر المياه الأولى (نون)، هي مادة الخليقة الأولى الهيولية، وفي المعتقدات الكنعانية فإن الإله (يم) هو في حقيقته الآلهة الأم الأولى عند الكنعانيين واسمها (يمّو)، وعند البابليين هناك (تيامت) الآلهة الأم الأولى التي عاشت في نهاية حياتها صراعاً أودى بانقلاب النظام الأمومي للكون إلى نظام ذكوري. هكذا ترتبط الصور في النماذج التصويرية وفي المادة الإثنولوجيَّة بتلك التي تظهر في الأساطير والحكايات الخرافية للشعوب، والتي يوحد بينها أعماق اللاشعور الجمعي، فنعيش مع النمط الأصلي للأم، الذي فجّر في الأدب التاريخي والشعبي موضوعات لا حصر لها. وعودة إلى بلدة القطيف، على سبيل المثال، توارثت الأجيال خرافات انبثقت من الروح العتيقة للعيون، والتي يرجع أصل انبجاسها من الأرض إلى الأم القديمة التي نزلت في عالمها السفلي عبر أزمنة بعيدة منسيَّة، إلا أن العجيب في تلك الخرافات يكمن في خروج الأم من نطاق الرحمة والعطاء إلى الرهبة والرعب، فالأم التي تسكن العالم السفلي للماء تأخذ صورة مفزعة تقترب من صورة الأم الغولة في الخرافات المصرية القديمة، هي حارسة للعين تنقض على كل من يأتي لاهياً خالياً من معنى التبرك والتبجيل. يعزز ذلك التصوّر ما جاء في المرويات عن خرافة (راعية العين) أو (جنيّة العين) والتي يوردها الباحث عدنان العوامي في كتابه المرافق لمعرض خطوات إلى الماء، وهذه جنيّة شريرة تسكن أسفل كل عين ماء، تهوى اختطاف الأطفال وإغراقهم، يقول العواميّ: «وهذه مسكنها عيون الماء، لكننا للأسف لا ندري إن كانت عروساً فاتنة أم عجوزاً هرمة، فنحن لا نعرف ماهيتها، وكل ما يتداوله آباؤنا عنها أنها (راعية العين)، فلم يقولوا لنا في صفة هذه الراعية أكثر من أن لكل عين من عيون الماء راعية تقيم فيها، متوارية عن الأنظار فإذا ما مرّ بها أحد بمفرده هجمت عليه، وجرّته إلى داخل أعماقها (التنور) أي منبع العين، حيث لا يُدرى بمصيره بعد ذلك». (2) عبر تلك الجدلية الزائفة ما بين الأم والماء، استطاع الآباء والأمهات أن يزرعوا الخوف والحذر في أولادهم عند ذهابهم للسباحة في هذه العيون، يستكمل الباحث عبد الخالق الجنبي سيرة تلك العين قائلاً: تطور الأمر مع الزمن إلى أن أصبحت أسطورة «جنية العين» حقيقة لا تقبل النقاش لدى الأهالي، وأصبح ضحاياها ليس الأطفال فحسب، بل وحتى الكبار أيضاً، وصار كلّ من يموت غرقاً في هذه العيون سواءً أكان صغيراً أم كبيراً يُلقى سبب موته على «جنية العين» التي غرق فيها، وتطور الأمر إلى حد زعمهم أن لجنيات بعض العيون صفات وعادات ليست لجنيات غيرهن؛ كقولهم إنّ بعض جنيات العيون لها «طلب شهري» أو «طلب سنوي» أي أنها لا بد من أن تقتل شخصاً كل شهر أو كل سنة، وزاد بعضهم في خصائص بعض الجنيات أنها تطلب كل عام عروساً أو عروسة أي أنه لا بد أن يموت غرقاً في عينها أحد العرسان أو إحدى العرائس» (3). ولعيون القطيف أيضاً (راعية الجسر) وهذه تتخذ بيتها تحت الجسر منتظرة فرائسها في الليل والظهيرة، حين يقل المارة، والجسور وما أكثرها في طرقات القرى في القطيف الملأى بالجداول والسواقي والسيب، والجِمام. في أي حيرة توقعنا هذه الخرافات التي قلبت أصل العلاقة الواقعية المانحة بين الأم والماء من قيمة التضحية إلى تلك الأم الغولة القاتلة لأبنائها في المتخيل الشّعبي؟! على الرغم من اعتقاد بعضهم بعدم وجود جنية العين الآن، إلا أنه كان لهذه الأسطورة سطوة الوقع المخيف في قلوب الأولاد الصغار، مما ساهم في تعزيز الخوف لا الحذر من سباحتهم في هذه العيون، كما جعلهم يخافون الماء في حالة الوحدة والتفرّد. وفي المقابل وعبر التتابع الزمني، حقق ذلك الخوف النابت من مخزون سردي زائف للآباء والأمهات ما كانوا يرجونه من سلامة أولادهم عند إخبارهم لهم بأسطورة (جنية العين). خاف الأطفال فخاف الماء في العيون، وكل شيء إذا تُرك في الأرض دون تبادل بشري وعلاقة تفاعلية مانحة مآله الجفاف والندرة والموت، والماء أعظم كائن حساس في الوجود، وحده الماء يتذكّر، وحده مخزن الحقيقة. لعلنا نحتاج إلى مسعى سيكلوجي يتحرى الكشف عن أهم مكونات التصاوير والخرافات الشعبية التي قيلت مراراً في الأم والماء في مجتمعاتنا العربية، ولكن الخطوة الأهم من ذلك هي إعادة صياغة نماذج دلالية معينة أو إنتاج ميثولوجيا جديدة للتعبير والتناقل ما بين الأجيال توحي بقداسة الأم وطهر قلبها المعطاء وتوأمتها مع الماء والعيون، فالأم أيقونة أزلية للوجود الإنساني على وجه البسيطة، وهي القوة التي تستند عليها الخطوات الارتقائية للإنسان في كافة مراحل حياته، وهي التي - كما قال نابليون: (إذا هزّت المهد بيسارها، اهتزّ العالم بيمينها). والماء يفعل ذلك أيضاً. نسوة القطيف 12 صورة للمصورة الفوتوغرافية الأميركية دوثري ميلر، والتي عملت في شركة الزيت العربية الأميركية (أرامكو) عام 1947، سلطت عدستها على حياة المرأة القطيفيّة، ووقعت تحت جاذبية مشيها اليومي لمنابع الماء وطقس الاغتسال، وقد شكلت هذه الصور مخزوناً ثقافياً يرصد الحالة الاقتصادية والاجتماعية والأوضاع المعيشية لبلدة القطيف في سبعينيات القرن المنصرم. فانتازيا سعى المصور «أثير السادة» عبر سعة أفقه إلى جمع أرشيف تلك الصور وتصعيدها ثقافياً عبر استنطاقها في معرض فني استعادي، يحكي سيرة زمن النظام الأمومي الاجتماعي في القطيف، ويمنحها فانتازيا خالدة من موسيقى النبع والأمهات بين ممرات الماء وأجساد الأطفال العارية بسمرتها اللامعة تحت الشمس والمتأهبة لساعة الاستحمام المنتظرة، ورغم أنه موعد استراحة الأمهات من شقائهن، إلا أن القدور والأواني المنتشرة حول العين تفضي إلى كون الأمهات حملن معهن القلق وشقاء البيوت إلى تلك الاستراحة المشروعة. ............................................. 1، د. نبيلة إبراهيم/‏ الدراسات الشعبية بين النظرية والتطبيق/‏ ص: 219/‏ المكتبة الأكاديمية. 2، عدنان السيد محمد العوامي/‏ عيون القطيف.. الفردوس المفقود/‏ ص: 22/‏ الطبعة الأولى 2017 م. 3، عبد الخالق الجنبي، عيون القطيف الأثرية.. أثر بعد عين/‏ شبكة راصد الإخبارية. 3، الصور الوثائقية للمصوّرة الأميركية دوثري ميللر، عُرضت في معرض فوتوغرافي أقيم في القطيف 8 مارس 2018م تحت عنوان (خطوات إلى الماء).
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©