الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الجمالية والدعابة في «أوديب ملكاً»

الجمالية والدعابة في «أوديب ملكاً»
4 ابريل 2018 04:06
بيير باولو بازوليني ترجمة: أمين صالح أوديب ميت. الموت قد كرّس رواية كاملة، والتي هي الآن معدّلة لما كانه أوديب ذات مرّة. الموت هو الشرط الضروري «لتحقيق قصة عن حياته»، وبالقدر نفسه لـ «تأليف» فيلم عن حياته. ما المعايير التي استخدمتها لانتقاء اللحظات الكشّافة، المعبّرة، في حياة أوديب.. شكل الموت الذي لم يكن حيّاً أبداً؟ أنا بورجوازي صغير. بالتالي، أنا أيضاً موهوب بالصفات المميّزة للجمالية والدعابة. هذا ليس اعترافاً عادياً بل، على نحو محض وببساطة، تصريحاً بالحقيقة. من جهة أخرى، لا بد من الاعتراف بأن البورجوازي الصغير ليس أكثر، ليس أقل، من إنسان: ومن الإنسان هو ورث فكرة الزمن. إنها خرافة، فكرة الزمن هذه التي على أساسها هو لا يبني فقط حياته - ازدهاره، بصيرته، قيمه الأخلاقية، سمعته الطيبة، إلخ إلخ - لكن فنه أيضاً. تهديم الزمن السينما التي هي تعاقب لا نهائي يعيد إنتاج، من وجهة نظر معينة، الوحدة الكاملة للواقع، مبنية على نحو محكم على مفهوم الزمن. إنها بالتالي تعمل وفق القوانين ذاتها كما الحياة نفسها: قوانين وهْم ما. في التعبير عنها بالكلمات، هي تبدو غريبة، لكن علينا أن نسلّم بهذا الوهم.. لأن كل من لا يقبله ولا يسلّم به، عوضاً عن الانتقال إلى مستوى ذي واقع أعلى، يفقد الإحساس بالواقع تماماً. بالتالي، لا شيء يؤلف الواقع غير وهْمه. إذن الجمالية والدعابة كانتا تشرفان على اختيار لحظات نموذجية في حياة أوديب، تلك التي ازدادت قيمةً أو جمالاً بعد موت البطل. إنها تتبع الواحدة الأخرى، طوعاً ومن غير إكراه تقريباً، في الترتيب الزمني ذاته كما في حياته، لكن عبر وقت أقصر على نحو غير متجانس – أو بالأحرى، من خلال تأملات الفنان والإجراءات المونتاجية المتاحة – في وحدة كاملة مركّبة من التجربة. في هذه الحالة، أنا ركّبت الكادرات بطريقة أكثر سينمائية مما هو معتاد أو مألوف (لا أعرف ما إذا هي صارت جميلة أو قبيحة، لكن ما كنت أحاول فعله هو أن أجعلها تبدو جميلة، أن أحصل على «تكوينات جميلة»). وقد وظّفت أيضاً تقنية الانفصال عن الأحداث المصوّرة (خذ على سبيل المثال عينيّ أنجيلو فيما هو مبتسماً يراقب السفينكس (أبا الهول) - الكائن الخرافي الذي له جسم أسد ورأس امرأة، في الميثولوجيا الإغريقية – وينتهك قدسيته بطريقة هزلية تقريباً.. لكن في الوقت نفسه، عيناه تجعلنا ميّالين إلى الشك، وعلى نحو فعّال تحرمنا من أي شعور بالاستغراق في عناصر الأسطورة. نحن من نتاج سرفانتس وأرسطو (شاعر وكاتب مسرحي)، إضافة إلى مانزوني والتراجيديا؟ ألم أرغب في إعادة تراجيديا أوديب إلى الحياة؟ المأساة الساحقة تماماً؟ خاصية المأساة موجودة، على الرغم من كل شيء، بما أن القاسم المشترك للجمالية والدعابة معاً هو الخوف من الموت. هكذا، بوسع البورجوازيين دوماً أن يعتبروا أنفسهم، على نحو غير شرعي، مسيحيين حتى عندما ينسون المسيح ولا يفكرون إلا في الغد. إلى أي مدى نجحت في المحافظة على الحالة الذهنية الضرورية للجمالية (الرغبة في المضي مبتسمين، أياً يكن الأمر، رغم أن أعيننا تكون ملأى بالألم). أوديب مختلفاً السبب الآخر لتصوير الفيلم بـ «جمالية ودعابة» هو أنني لم أعد مهتماً كثيراً ببحوث فرويد وماركس. لم أعد على الإطلاق منهمكاً بجديّة في المستنقع الأكاديمي الذي يحوّل أوديب إلى سارية تنصبها النظريات الفرويديّة أو الماركسية والتي إليها يتمّ شدّه وجلده. صحيح أن فرويد، في نهاية الفيلم، يبدو رابحاً لنقاط أعلى من ماركس، إذ يمضي أوديب ليفقد نفسه في حقول الخشخاش الخضراء وقرب النهر حيث كان يرضع وهو صغير. لكن الأكثر من فرويد، مسرحية «أوديب في كولون» هي التي توحي بفكرة مماثلة: أو على الأقل، في الخليط الاعتباطي للإيحاء الفرويدي والسوفوكليسي (نسبة إلى سوفوكليس)، يظهر الأخير بوصفه الأقوى. لنكن واضحين في هذه النقطة: شخصياً أعتبر مسرحية «أوديب في كولون» من أقل تراجيديات سوفوكليس جمالاً وتناسقاً. في الواقع، أظن أنها خرقاء على نحو لا جدال فيه. مع ذلك هي تحتوي على شذرتين أو ثلاث والتي لا يمكن وصفها إلا باعتبارها رفيعة وسامية. هذه الشذرات هي التي كنت أشير إليها. في ما يتعلق بفرويد، هو لا يعود يحمل ثقلاً في الفيلم أكثر مما قد يمنحه أي هاوٍ. لنأخذ، على سبيل المثال، علاقة أوديب بتريزياس: هو يعرف تريزياس سلفاً، عندما يقوده ذلك الرسول، الذي سوف يظهر في ما بعد في شخصية أنجيلو (دوره ثانوي، هو تماماً دور الوسيط بين تريزياس وأوديب، المبتدئ في العرافة). هذا هو الموضع الذي عنده تلتقي اللحظات الماركسية والفرويديّة، اللحظات الملوّثة والطفولية حسب اعتقادي. آنذاك، مرة أخرى، ينتصر فرويد في مشهد أوديب مع أبي الهول، وهو الشيء الوحيد الذي قمت بتغييره جذرياً (بصرف النظر عن وضع أنجيلو محل أنتيجونه). أبو الهول أو السفينكس، في الحقيقة، لم يعيّن لغزاً، بل يسأل أوديب مباشرةً ليوضّح هذا، على مسؤوليته ومن غير إرشاد، اللغز الذي يحتويه داخل نفسه. وأوديب يرفض أن يفعل ذلك، بل يدفع الوحش إلى الوراء، نحو الهاوية التي خرج منها في الأصل.. على نحو هزلي بعض الشيء. في الحقيقة، أوديب كان يعرف أنه، بدفع الوحش نحو الهاوية، سوف يكون قادراً أن يتزوج أمه: نحن لدينا إذن حالة سمعية - بصرية من الإزاحة أو الاستبدال. أريد أن أؤكد حقيقة أنني قد انبثقت من بريّة العقيدة الفرويديّة والماركسية، لكن إلى أين وصلت؟ سيلفانا مانيانو (الممثلة) ربما لديها الأريج نفسه من زهر الربيع الذي كان ينبعث من أمي عندما كانت شابة، لكن بالتأكيد ليس ثمة ما هو مشترك بيني وبين فرانكو شيتي (الممثل)، باستثناء عظام وجنتيه البارزة قليلاً. ولأنه مختلف عني تماماً - حتى في مركّبات النقص وعقد الشعور بالذنب - فقد اخترته لدور أوديب. إن ما يؤديه ليس دراما شخصية جداً بل تراجيديا. الأحداث، بالتالي، تحرّكها قوى خارجية: على مسرح عالم غامض وملغّز، لكن حقيقي. أوديب يعيش مأساته في جهالة تامة: هو ضحية بريئة لكن عدوانية. تركيب الواقع نستطيع الآن أن نقول بأن السينما هي وسط آلي، ميكانيكي، والذي يحصد أو يجني الواقع ويخزنه (في حقيبة، إن جاز التعبير). من جهة أخرى، «في فيلم معيّن»، الواقع يكون ميتاً ومقذوفاً نحو الماضي، حيث يتم جمعه ولملمته في فكرة، في مثال، في تركيب ما. في خلق مثل هذا التركيب، قمت بتصوير 70 ألف متر (227 ألف قدم) من الفيلم الخام، مع إنني في الواقع كنت أحتاج إلى 70 ملياراً. بعدئذ، وقبل تقليص هذا العدد إلى حوالي 2800 متر (أي 9100 قدم)، تركت التراجيديا حرّة في اتخاذ مسارها الطبيعي. لكن كان هناك مقدار غامض وملتبس في ما يتعلق بوضعيْ: الجمالية والدعابة اللتين سمحت لهما بقيادتي، لم تكونا أصيلتين أو موثوق بهما، بل كانتا من العناصر الفاضحة والمخجلة، نظراً لكونها نابعة من مثقف بورجوازي. لكن، في الوقت نفسه، كانتا حقيقيتين وجديرتين بالتصديق لانتسابهما إلى إنسان يروي أشياء كانت في ذلك الحين عميقة في الماضي. لنعد الآن إلى المعضلات التي كنا نناقشها بوصفنا لغويين وسيميولوجيين هواة. دعونا نفترض أن مورافيا ربما يريد أن يصف سيلفانا مانيانو، كشخصية في واحدة من رواياته، كما فعل أرباسينو مع دوميتا إيركولاني. بالتأكيد سوف ينجز مورافيا تحوّل مانيانو إلى شخصية قصصية بكياسة، برهافة، بموضوعية، بوضوح أكثر مما فعل أرباسينو. مع ذلك، سوف لن يستطيع مورافيا أن يفعل أكثر مما فعله كتّاب آخرون. كان سيضطر إلى استخدام منظومة من الرموز المكتوبة/‏ المنطوقة (بلغتنا الإيطالية الأثيرة)، مكيّفاً إياها وفق أيديولوجيته الشخصية. كان سيضطر أن يصوغها في نظام أسلوب، أليس كذلك؟ إن الرموز التي يستخدمها مورافيا هي علامات بطبيعتها. ما العلاقة بين التجربة الحقيقية التي يملكها مورافيا عن سيلفانا مانيانو (ومانيانو نفسها في الواقع) وهكذا نظام من الرموز - العلامات؟ هذه هي المعضلة الكبيرة، وهناك شيء واحد فقط أستطيع أن أقوله بهذا الشأن، والذي أنا واثق منه: إن قارئ أعمال مورافيا يشارك في نوع من العملية الكيميائية (هذه دوماً تكون في المتناول عندما يكون التوضيح ضرورياً). هو يحوّل الخاصية العلاماتية للرموز ويعيد بناءها أو تركيبها في مخيلته - أي عبر تجربته للواقع - واقع مانيانو الحي. بالتالي يكون المشهد على هذا النحو: مانيانو في الواقع - تحويل لهذا الواقع في رموز وعلامات - إعادة بناء لمانيانو في الواقع. هل اللغة، آنئذ، ليست سوى وسيط؟ مورافيا سوف يصف عينيّ مانيانو، وجنتيها الشاحبتين، حاجبيها المرسومين بالقلم، حلقها الذي يعلو وينخفض على نحو إيقاعي، شذا العطر (زهر الربيع) المنبعث منها (وسوف يفعل هذا على نحو رائع): لكن هل كل هذا ليس إلا فعل رجل ساحر قادر أن ينقل تجربته الخاصة بشأن واقع مانيانو إلى تجربة القارئ بشأن هذا الواقع نفسه؟ بالطبع لا ينبغي أن نغفل حقيقة أن العنصر الهام الوحيد في هذا المشهد هي سيلفانا مانيانو نفسها: من خلال اللغة بإمكان المرء أن ينتقل من واقع إلى واقع. يتعيّن على المرء أن يكون براهما (ذات عليا في الفلسفة الهندوسية) لكي يستخدم التجارب المنعكسة للجنس البشري كعوْن له في تأمل الذات. سيلفانا مانيانو تعيش في زمن محدّد. غير واعية لجمالها، بل وربما تزدريه. هي تكرّس نفسها لمهمات وواجبات يومية متواضعة، لأطفالها وعائلتها، لأمور هي مهمة بالنسبة لأي امرأة. إذا كنا نرغب حقاً في التوصل إلى تفاهم مع واقع مانيانو، يتعيّن علينا أن نتوصل إلى تفاهم مع الزمن الفيزيائي الذي فيه هي تعيش مثل أي كائن آخر. صحيح أننا نستطيع أن ننكر كل هذا. في الواقع، ليس ثمة طريقة للقبول بتسوية والعيش بسلام، مفكرين فقط في الغد، أفضل من استخدام الكلمات لهدم الزمن. أنت لا تستطيع أن تعتبرني واحداً من أولئك المتبطّلين أو مهرجي البلاط. إني أمضي باسلاً لمجابهة معضلة الزمن كما فعل فلوبير. بكتابة السيناريو، كمعالج لآثار أدبية مختلفة، أنا أقدم جوكاستا من خلال الزمن، رغم أنها شخصية سرمدية: ليس لديها غير الانغماس في الحسيّة والتصميم على ألا تعرف. لكن كم من غنى وتنوّع نجد في كائنات، مدّة حياتها لا تدوم إلا للحظةٍ! ويا له من ظهور لا يُصدّق، متفكك واستحواذي، في الزمن الذي يتبناه هؤلاء! غايتهم الموت الذي سوف يشذّب حياتهم إلى سلسلة من «لحظات سامية». سوف يحوّلهم - الموت - إلى ألغاز والتي، في الوقت المناسب، سوف تتعرّج وتتضاعف من غير تنامٍ، مثل قناديل البحر في المياه. هذه تغيّر وتبدّل أشكالها بطرائق عجيبة حتى يجمّدها الموت في شكل محدد (لكن كيف يكون ممكناً أن تموت مثل هذه الأشياء؟ أريد أن يكون واضحاً لدى الآخرين، أنني لا أصدّق أن مخلوقات كهذه يمكن أن تكون فانية. 70 ألف متر من التصوير نستطيع أن نقول، إن السينما هي وسط آلي، ميكانيكي، والذي يحصد أو يجني الواقع ويخزنه «في حقيبة، إن جاز التعبير». من جهة أخرى، «في فيلم معيّن»، الواقع يكون ميتاً ومقذوفاً نحو الماضي، حيث يتم جمعه ولملمته في فكرة، في مثال، في تركيب ما. في خلق مثل هذا التركيب، قمت بتصوير 70 ألف متر (227 ألف قدم) من الفيلم الخام، مع إنني في الواقع كنت أحتاج إلى 70 ملياراً. بعدئذ، وقبل تقليص هذا العدد إلى نحو 2800 متر، (أي 9100 قدم)، تركت التراجيديا حرّة في اتخاذ مسارها الطبيعي. «أوديب» مُحَرَّراً من فرويد وماركس السبب الآخر لتصوير الفيلم بـ «جمالية ودعابة» هو أنني لم أعد مهتماً كثيراً ببحوث فرويد وماركس. لم أعد على الإطلاق منهمكاً بجديّة في المستنقع الأكاديمي الذي يحوّل أوديب إلى سارية تنصبها النظريات الفرويدية أو الماركسية، والتي إليها يتمّ شدّه وجلده. صحيح أن فرويد، في نهاية الفيلم، يبدو رابحاً لنقاط أعلى من ماركس، إذ يمضي أوديب ليفقد نفسه في حقول الخشخاش الخضراء وقرب النهر، حيث كان يرضع وهو صغير، لكن الأكثر من فرويد، مسرحية «أوديب في كولون» هي التي توحي بفكرة مماثلة: أو على الأقل، في الخليط الاعتباطي للإيحاء الفرويدي والسوفوكليسي «نسبة إلى سوفوكليس»، يظهر الأخير بوصفه الأقوى.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©