الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

خوسيه فالنتي.. لملمة العدم

خوسيه فالنتي.. لملمة العدم
4 ابريل 2018 04:09
كتابة كلود إستيبان * ترجمة: أحمد حميدة لقد اقتحمني خوسيه أنخيل فالنتي بالنصّ التّالي: «الآن، أضحيت أدرك جيّدا، أنّنا عشنا سويّا طفولة واحدة، طفولة متقاسمة، لأنّنا قَضَيْنا معا. وتأخذني الرّغبة في المضيّ إلى حيث أنت، لأضع بين يديك، ما يشبه أزهار فات أوانها.. رفاتي أنا» كلمات بعراء حمم البركان، أصداء لغرقى الذّاكرة، تشَاعُر اليائسين، الحبّ العظيم لابنه المتوفّى.. لقد غدت هذه الجمل البالغة الصّفاء، والتي تلامس اللاّمَقول، حارقة وعصيّة على الامّحاء. إنّها تنطلق لتصيبك في صميم جبهتك. من يكون خوسيه فالنتي؟ ظلّ فالنتي، واستنادا إلى ملاحظات وترجمات جاك أنْسِي، الذي حمل كلمات فالنتي على امتداد سبع وعشرين سنة، ممعنا في المضيّ بصورة ما إلى الأعمق. هذا الشّاعر الذي يبدو قريبا من بول سيلان الذي كان يعشقه، ومن سان خوان دي لاكروث وليله المعتم، اللّيل الذي تغدو فيه النّفس في حال الامّحاء، كان يتبدّى وكأنّه شاهد على انقضاء الرّحيل و.. الانتهاء. في مزجه بين ما هو صوفيّ.. باطنيّ والامّحاء، لم يكن فالنتي ينشد معبوداً استعلائياً، ولكن النّسيان المطلق، الحجارة المطهّرة من كلّ علامة. فكما سيلان، بعد الانهيار النهائيّ، لن يتبقّى إذن غير صوت أوحد، صوت قاطع كالضياء وحرون في استنطاق اللاّمرئيّ. ويبدو ذلك الصوت مرتدّاً فوق الفراغ الموجع للكلمات. من بعيد كان يسائل.. الفراغ: «يمضي الزّمان ويحمل معه كلّ ما كان، مجرجرا معه أشياء كثيرة والفراغ.. أي نعم.. الفراغ، وإذا به يفرغنا، كما يفرغ البحر الأسماك الصدفيّة والرخويّات. إنّه يتلفنا حدّ الشفافيّة. ويمنحنا تلك الشفافيّة، حتى يتمكّن العالم من تأمّل ذاته عبرنا، أو ينصت إلى ذاته، كما ننصت نحن لجلبة البحر الأبديّة في فرار قوقعة جوفاء». ثمّة جانب فاجع في الشّعر البالغ السّواد لخوسيه فالنتي. دراساته الصّوفيّة، وخيمياء كلماته، تجعل الغموض يرشح من كتابته. في بحثه عمّا لا يطال، المرأة، الحياة، الموت، الكواكب.. يتبدّى لنا فالنتي وكأنّه يدور حول كلماته، ليتّخذ شعره إمّا شكل شظايا قاطعة أو لوالب مجرّدة، ويبدو هذا الشّعر في كلّ الأحوال تأمّلات موجعة، المقاطع المتشظّية فيها، تبدو كما لو أنّها تمضي به نحو العدم. يتوارى الإنسان، ولا تمكث غير بقيّة باقية من الحضور الإنسانيّ، ذكريات أحداث بعيدة.. آثار خطوات، تتبّعٌ لآثارِ خطى دارسة، آثارٌ تشبه تلك التي يخلّفها الحلزون وراءه.. بقيّة من لعاب. إنّه لمن المثير أن نتأمّل صور فالنتي في سنّ النّضوج وفي أواخر أيّامه. كان الموت قد حدّد مجاله ورسم على كيانه كلّ أخاديده، وسواء تأمّلناه أو قرأناه، فإنّنا عامّة ما نرصد جسدا تائقا إلى الشفافيّة، مخلّفا ضياءه ههنا، لبقيّة باقية من ذاكرة ليالي ال هُناك. بمعنى ما، يرى فالنتي أن «المغنّي لا يتجسّد»، ولا شكّ في ذلك، وأمّا هو فقد مرّ مُضاءً بقناعاته الروحيّة، ليظلّ وامضاً في ظلمة حقيقته. لم يكن يبحث عن الشّعر، بل ولم يكن ينشُدُ حتى الفجر. كان يرنو فحسب إلى ذلك التحلّل البطيء للمحبّة وللأجساد. مراقب قاس للفساد المتواني للأيّام، انزلق فالنتي نحو أحلام تظلّ متمنّعة أمامنا. القليل من التبرّم، ولكن كلمات طافحة برؤيا كارثيّة لنهاية العالم، ومع ذلك، إرادة منح قرابين للأحياء. ولكن، وأنت الميّت، ليس بوسعك البكاء، ولا أن تبكيني من النّادر أن نعثر على شاعر سعى إلى الذّوبان بمثل ذلك التّصميم والثّبات. مشبعاً بمعارفه الروحيّة الصّوفيّة وغيرها اتّجه فالنتي نحو التّجربة القصوى، أن يضع قدميه في أقدام الموت، عساه يستوعب أخيراً العدم. كان يريد فتح وغلق، غلق وفتح.. الأبواب. لقد ضفّرت أكاليل الحروف الغامضة و جعلت لي بابا، حتى أتمكّن من غلق وفتح العوالم، مثلما تنفتح وتنغلق، مقلة العين والجفون.. مقاطع شعريّة لكتاب آت كلّ أعماله هي سلسلة من «دروس في الخيال»: «كلمات الشّاعر كما كلمات المتصوّف، كلمات لا تضيء ظلمتها إلاّ عند انتقالها إلى باطنةَ التّجربة»، هذا ما كتبه خوسيه أنخيل فالنتي في مقدّمةٍ لقصائد سان خوان دي لاكروث. تظلّ الكلمات هكذا آثارا، أمّا هو.. «المتنبّئ العجوز»، فإنّه يرفع صوته في وجه البِلَى الّذي يعمينا. أوَتكون تلك، هي الرّؤى؟ هل تكون لحظة انتشاء للإمساك بالمجهول؟ أن نرى أو لا نرى فيما وراء اللّيل؟ ولكن ما قيمة ذلك لرجل تبنّى هذه المقولة لسان خوان دي لاكروث: «نحن قوم لا نحاول أن نرى، وإنّما نحرص على ألاّ نرى». وقد كانت له هذه الكلمات في مقاربة ماهية الشّعر: لا تقاس قيمة الشّعر بطول الكلام المنظوم، و لكن بقدرته، وبعيدا عن كلّ قياس، على توليد الدّوام. محاورةٌ مع الجسد، في الجسد، في المادّة الجسديّة (الرّوح - الجسد)، كحقيقة كليّة. أن نكتب لا من موقع الترقّب، و لا من موقع الإخبار، و لكن من موقع الإنصات إلى ما سوف تقوله الكلمات وسيكون فالنتي هو ذاته تلك الأذن المصيخة، وذلك الترقّب الخاطف، ولم يكن فالنتي قد تأمّل سيلان، كلماته وصوره. كان يتمنّى الإبحار نحو المرأة المتنائية: «حول المرأة الشّمسيّة، لا تتوقّف الدّورة الغامضة للكون». إنّه يعلم أنّ العالم إلى زوال، وأنّ حياته لن تكون غير كلمات عتيقة، وأنّ الخراب يقبل علينا على مهل. إنّه يدرك ذلك ولا يتساءل، فما جدوى التّساؤل، ولا أحد يمتلك الإجابة، إذن، لا إغاثة ترتجى: «وأنت.. يا روحي، في أي جانب من جسدي كنت تقيمين، حتى لا أنتظر منك أيّة إغاثة؟». الظّلال تطوّق الأفق بأكمله، ولن يكون عملها غير حالة من التّيه، سفر طويل في أصقاع وجع بلا صوت. «أمضي عابرا الصّحراء وحزنها الدّفين الذي لا اسم له». كان فالنتي مطاردا بتجربة الموت، وخاصّة موت ابنه أنطونيو سنة 1990، الذي لن يشفى منه أبدا، والذي يظلّ خياله محتضرا بداخله: «من جسدك المتواري تصلني، كما صوتك في الأيّام الخوالي، أوامر الموت الغامض، معه، لتقم بداخلي، حتّى لا يفلح الموت في اقتلاعك منّي». ولا يتحدّث فالنتي هنا عن الموت الشّخصي، ولكن عن كلّ وجع يخترقه حدّ العدم: «أنت لست هنا، وأنا لست هنا، فأيّ جسد دوّار هو الموت؟». لكأنّه كان يمسك بدفتر أيّام فنائه هو، ليظلّ مسكونا بهاجس النّقطة الصّفر.. باللاّشيء. وللدّيوان الذي يضمّ أعماله، اختار فالنتي عنوان: النّقطة الصّفر (1953 -1979)، ثمّ كان إصداره لـ «ذاكرة المادّة» (1979-1992). وكان هذا العمل الأخير بمثابة «نزول إلى ذاكرة المادّة.. إلى ذاكرة العالم». وأنفاس ذاكرته، الوديعة والعارية، تحفظه من الوقوع في اللّيل، إلى حيث ينزل. غير أنّ الرّغبة في الموت التي تخترق أعماله، تروّضها أحيانا الإشراقات الخاطفة للحياة، ومنها يتصاعد صفاء السّكون. «من اللّيل تصاعد صوت الجوق، عصيّا على الفهم، فقلتَ في سرّك: هذه هي الأغنية التي تنشد، ثم ّ ببطء وعلى مهل، تحلّلت في الُمطَلْسَم». تجربة صوفيّة غريبة، دون أدنى إيمان، ولكن كم تبدو قريبة من الدينيّ. لكن فالنتي كان يتبرّأ من ذلك، ويؤثر البقاء منفتحاً على كلّ التحوّلات الممكنة: «يقول بعضهم «فالنتي.. شاعر متصوّف»، وأعتقد أنّي لست كذلك، ولكن، يبدو أنّ السّبيل التي يطرقها المتصوّف، تشبه إلى حدّ كبير تلك التي يمضي فيها الشّاعر». كان ينشد انبعاث ولده. إنّه أورفيو النّازل إلى الجحيم باحثاً عن ولده، كي لا يواجه غير العدم: «على مهل، في الجانب الآخر، بالكاد كنت أسمع صوتك.. في السّاعة المحدّدة، لم تحضر في موعدنا، كنت غائبا. الشكل النهائيّ لأملِك الذي بلا عيون: الطّيران المتشظّي لآخر النّهار، وفي الأخير تفجّر الكثير من الظّلال». إنّها مقاطع من كتاب آت التي في عرائها الأخير تجعلنا نعتقد أنّنا سوف نلتقي من جديد، رغماً عن «رداءة الرّؤيا بالنّهار والتّوقيت، وانهيار الحول، نهاية الزّمن، والكتامة العدوانيّة للرّديئين». إنّ عمل هذا المراقب لهلاكه الشخصيّ، سوف يكون قصيدته الغنائيّة الأخيرة المهداة لعزلته: «ينتصب أمامه الآن الممكن، المنفتح على الممكن، فالممكن: و حتّى لا يرديه الموت قتيلا، لم يكن أمامه غير الصّحو والتيقّظ «.. دع كلماتك تفرّ شعر: خوسيه أنخيل فالنتي ترقد، غارقا في سواد اللّيل. تنعم بالسّلام. أمّا أنا، فإنّي أخدش الجدران المجمّدة لغيابك، الجدران التي لم يصدّعها الزّمن، والذي ليس بوسعه أن يتمدّد تحت جفونك. أنت الجمرة. أنا الجذور والأصل. صوتك ورقة مرحة. متحجّر هو هذا النّشيد. انت لم تعد لتكون أنت. أنا.. فراغك. أنا.. ذاكرة منك، خفيفة، متباعدة، سوف تعجز عن تذكّري. *** صورتك الحزينة المتشبّثة بالزّجاج والتي يمحوها المطر صورة طفل دائم الانحناء بداخله يبحث على غير هدى عن الصّورة المتشظّية لما كان يريد أن يكون *** لعلّك، في النّهار الظّمئ، الغامض والسّريع قد تحوّلت إلى شيء ما.. آخر ملاصق لك ولكنّه ليس أنت فأنت لا تبين ولا تتجلّى متى عدتّ على غير هدى إلى الجسد الذي كان جسدك في المكان الذي احترق حدّ بياض الحلم. ضع وجهك الذي لم تعد لتتعرّف عليه. دع كلماتك ترْشح حرّرها من ذاتك غير المبصرة.. التي غدت بلا ذاكرة تحت القوس المذهّب الذي يقيمه هناك الخريف الثرّ كتكريم للظّلال بعد الممات.. ستغدو رماداً أعبر المفازة ووحشتها السرية.. التي لا تسمّيها الأسماء يحمل القلب يباس الحجر والانفجارات الليلية لماهيته وعدمه. مع ذلك ثمة ضوء قصيّ، وأعلم أني لست وحيداً وإن لم يوجد بعد هذا وذاك تفكير مفرد قادر على مواجهة الموت، فأنا لست وحيداً. ألامس أخيراً هذه اليد التي تقاسمني الحياة وفيها أثبت ذاتي و أتحسس مقدار محبّتي، أرفعها نحو السماء *** لربّما كان يجب علينا أن نعيد في أناة.. تسجيل حيواتنا أن ندخل عليها تعديلات في الامتداد والتأريخ، أن نمحو عن وجوهنا كل خبر و عن ذواتنا في سجّل صورنا الأموميّة. كان يجب علينا أن نترك شهودا مزيفين، ظلالا مموّهة، آثاراً مهشّمة، شهادات تعميد غير محررة، أو في كل ذاكرة، نافذة مشرعة، إطاراً فارغاً، خلفية بيضاء لامحالة، لأجل اللعبة اللاّمتناهية لكشاف الظلال لا شي.. الممكن.. لاشيء. *** دع كلماتك تفرّ حرّرها من ذاتك غير المبصرة.. التي غدت بلا ذاكرة تحت القوس المذهّب الذي يقيمه هناك الخريف الثرّ كتكريم للظّلال بعد الممات. ............................. * شاعر فرنسي
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©