الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الطبيبة الكندية حسمت حربها!

الطبيبة الكندية حسمت حربها!
12 مارس 2013 20:46
تجربة أنايس باربو لافاتيه في فيلمها “إن شاء الله” تحمل شيئا مختلفا عن بقية الأفلام التي تناولت الصراع الفلسطيني الإسرائيلي من منظور غربي. فيها اختلاف يبدأ من العنوان، التي تميل مدلولاته إلى الجهة العربية أكثر من الجهة الأخرى. وتحمل معانيه الشعبية، كتعبير سائد في لغة الفلسطينيين والعرب المحكية، أبعاداً نفسية واجتماعية لا يفهمها بالضرورة غيرهم، وبالتالي يكتسب معناها خصوصية.. ولكنها وحين يستخدمها الغربي ستأتي بمدلولات مضافة فيها شيء من موقفه الشخصي وثقافته، ولهذا وكي نفهم جيداً فيلم الكندية القادمة من إقليم الكيبك إلى فلسطين لابد من إبقاء العنصر الشخصي شاخصاً أمامنا حتى نتجنب تحميله ثقل مواقف لا يحتملها، كونه ينشد بالأساس عرض حال الطبيبة الكندية كلويه والمتغيرات التي طرأت على موقفها على ضوء تجربتها الميدانية في أحد مخيمات اللاجئين في الضفة الغربية في إطار المساعدات المقدمة من منظمات إنسانية تابعة للأمم المتحدة. على مستوى الحكاية قد تكون درجات اختلافها كبيرة وربما لأول مرة تعرض بذات الأسلوب الذي قدم به سينمائيون كثر القضية اليهودية، وطبعاً هذه المرة معكوسة، حيث تحكي العذابات التي يعاني منها الفلسطينيون وكيف تدفعهم سياسات التمييز الإسرائيلية إلى الجنوح نحو أفعال عنيفة وصادمة. التمايز اللافت في “أن شاء الله” يأتي من تحول الزائر/ المراقب إلى طرف في الصراع، بل يعتبر المعركة التي تجري أمام عينيه معركته الشخصية! موضوع شائك الخوض في موضوع شائك كالذي اختارته أنايس باربو، يتطلب على مستوى الصنعة إلماما كافيا بحيثياته، لأن الكتابة وحتى لو كانت جيدة لا تساعد كثيراً المخرج إذا لم يسيطر بنفسه على موضوعه ويتشبع بالنص المكتوب على الورق، ولهذا مكثت الكندية مدة زمنية طويلة نسبياً في مناطق فلسطينية وفي القدس لتعايش الناس وتستمع بنفسها إلى الحجج المقدمة من الأطراف المتصارعة والأسباب التي يسوقونها لتبرير كل فعل من أفعالهم. وعلى مستوى التمثيل احتاجت المخرجة إلى إسناد دور الطبيبة إلى ممثلة تجيد أو تعرف بعض العربية، على الأقل، وهنا يحسب للكندية ايفلين بروشو تجسيدها المتميز لدور الطبيبة كلويه وحفاظها على درجة عالية من التوتر والقلق المطلوب من امرأة غريبة تجد نفسها وسط صراع معقد وخطير، مع كل انحيازها إلى الطرف المتضرر فيه، إلى الفلسطينيين الذين ستقيم أغلب وقتها وسطهم في حين ستقضي جزءاً آخر منه في القدس بصحبة صديقتها المجندة الإسرائيلية والتي تعاني بسبب تكليفها بمهمة مراقبة أحد الحواجز من تأنيب ضمير ومن صراع لا يظهر إلى السطح إلا بمقدار ضئيل معبر عنه بإيماءات ورفض داخلي تفهمه صديقتها الطبيبة الكندية أفضل من بقية أصحابها وعائلتها. كل شخصيات “إن شاء الله” لصيقة بالواقع لدرجة يبدو الفيلم في أسلوبه السينمائي أقرب إلى “ديكودراما” أي الخليط بين الوثائقي والدرامي، فالمشاهد أغلبيتها صورت في المناطق الفلسطينية والقدس ما أعطاه مصداقية أكبر وقوة تأثير بخاصة المشاهد التي صورت قرب الجدار العازل الذي صار مسرحاً لأحداث جرت قربه وشاهداً على تفاعل عوالم وحيوات لفلسطينيين فقراء كانوا يعتاشون على ما يجدونه من بقايا النفايات المرمية عليهم من الجهة الأخرى، يدورونها بدورهم خامات ويبيعونها فيما بعد كخردة تدُر عليهم ما لا يسد رمقهم. وكانت الطبيبة وسط كل هذا البؤس مشاركة تقضي وقتاً بصحبة صديقتها الفلسطينية الحامل رند (الممثلة صابرين وزني) تدخل بيتها وتعتبر نفسها جزءاً من العائلة بوجود رابط عاطفي بينها وبين الشاب فيصل (الممثل يوسف سويد) وإن ظل غامضاً، متستراً على ما فيه من مصارحة في الظاهر. حيادية سياسية بين طرفي النزاع عاشت الطبيبة وبهذا المقدار كانت تعبر عن حيادية غربية فهي لم تقاطع طرفاً ولم تنحاز بالكامل إلى واحد دون الآخر، لكنها وبسبب عملها كانت أقرب إلى مراجعيها من النساء الفلسطينيات بحكم اختصاصها في التوليد وأمراض الأطفال. وفي متن هذا رمزية ستتجلى أبعادها وتفسيراتها كلما أوغلنا في التفاصيل. التحميل الرمزي سيجعل من “إن شاء الله” فيلماً مركباً، الواقعية فيه عالية، فيما ستعطي تطورات أحداثه له أبعاداً افتراضية، وأسئلة ملحاحة تبقى مستمرة في ذهن المشاهد حتى بعد خروجه من الصالة كونها تمس موضوعاً آنياً لم ينته، وبهذا المعنى ينتمي الفيلم، الذي عرض في مهرجان برلين الأخير، إلى اللحظة وما بعدها على ما فيه من عمق تاريخي يفرضه الصراع على الأرض وعلى وجود بشري غير مجسد بمكان واضح بما يشبه المفارقة. فالأرض هي للفلسطينيين ومع هذا هم يعيشون على مساحة محدودة منها كالأغراب، وتلك حيرة عصية الفهم على ذهنية المتلقي الغربي على وجه الخصوص مهما كان قد قرأ أو سمع من أخبار، فالمعايشة هي من تبصم الحقيقة على الجلد ودونها ستبدو الأشياء عابرة، ومن هنا كانت المجندة الإسرائيلية وكلما شعرت بأن الطبيبة تتدخل في الصراع مباشرة تنبهها بالقول “تذكري جيداً هذه ليست حربك!”. حرب من إذن؟ واحد من الأسئلة المقلقة التي ستتوزع بين أكثر من موقع، ومجريات الحياة اليومية ستغذيها لتكبر أكثر وأكثر.. فكلما مرت الطبيبة الغربية بحاجز أثناء انتقالها من المناطق الفلسطينية إلى القدس شعرت بالفرق الكبير بين التعامل معها كونها أجنبية تحمل جواز سفر كنديا وبين بقية الفلسطينيين المنتظرين لساعات وربما لأيام. واستمتاعها بمتع الحياة العصرية في القدس يقابله شعور بالمرارة تتذوقه كلما جاءت إلى حي فلسطيني أو أكلت طعاماً من عندهم. حرب من هي إذن؟ حرب المجندة صديقتها التي تريد حماية بلادها التي لا تعرف سواها أم حرب فيصل المنتمي لتنظيم فلسطيني محظور يشعر في كل لحظة بالعذاب والمهانة ولا يجد غير الانتقام من معذبيه سبيلاً لتهدئة روحه القلقة؟ حرب صديقتها رند المدهشة حماستها للحياة وهي ترى أطفالها عراة يعيشون على القمامة والزوج مسجون عند عدوها؟ موقف مأساوي سؤال الحرب سيقود كلويه إلى الانغمار تدريجياً في أعمال خارج وظيفتها كطبيبة أممية. ستشارك في توزيع ملصقات تخليد ذكرى الشهداء الساقطين بسلاح الجيش الإسرائيلي، وستتبنى وجهات نظر طرف ترى بأم أعينها كيف يعامل ويهان بشكل منظم ومتعمد، وستكبر في داخلها حماسة صديقتها الفلسطينية للحياة وتشبثها بحملها رغم الفقر والحرمان، وستندهش من قوة تجديد الذاكرة عند سكان المخيمات ومقاومتهم لكل ما من شأنه وضع حد لديمومة حياتهم. في هذا الجزء من التطور الشخصي الداخلي تتدخل عناصر خارجية قوية لتدعمه والمنجز البصري الأهم يكمن في جودة ما هو منقول على الشاشة بصرياً.. ففيلم “إن شاء الله” لا يخاطب العواطف بالكلام والشعارات، مثل كثير من الأفلام الفلسطينية الإنتاج، بل بقوة الصورة وجمالها، وهذه كلها تضاف إلى تميزاته الأخرى على مستوى التصوير والتمثيل الذي ساهم الأطفال في دور كبير بإنجاحه وجعل منه شريطاً منتمي إلى حياتهم، فهم لم يكونوا ممثلين قدر ما كانوا أولاداً يعيشون حياتهم اليومية بكل تفاصيلها المؤلمة ومن أشدها تأثيراً موت وليد رند بعد ولادة عسيرة، وسط الشارع المضطرب بالتصادم وبسبب منع وحدة من الجيش الإسرائيلي نقله بسيارة إسعاف إلى أقرب مستشفى. موته سيدفع الطبيبة وبسبب من شعورها بالذنب لعدم توفقها في إنقاذه إلى قبول مهمة المساعدة في نقل شنطة يدوية محملة بالمتفجرات إلى انتحاري قرر تنفيذ عملية وسط القدس. لقد حسمت الطبيبة موقفها وقررت أن تكون فلسطين حربها، وبموقفها طرحت على مشاهديها سؤالاً إشكالياً مثار جدل ونقاش كونه يفضي إلى استنتاج بأن الإسرائيليين لم يبقوا للفلسطينيين خياراً سوى تفجير أنفسهم وسط المدنيين، وأن الطرف المعذب قادر على أن يكون وبامتياز ولاّدا لانتحاريين...
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©