الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

دولة الجواسيس

دولة الجواسيس
12 مارس 2013 20:47
صدر كتاب إبراهيم المويلحي «ما هنالك» عام 1896، وهو في انتقاد سياسات بلاط السلطان عبدالحميد.. وأهمية الكتاب في وقت صدوره وفي كاتبه الذي وضع كتابه بناء على ما شاهده وسمعه بنفسه، فقد عاش سنوات في العاصمة العثمانية، الآستانة، وكان مقرباً من سراي يلدز مقر حكم السلطان، وكان عبدالحميد قلقاً من اهتزاز صورته، خاصة في مصر، منذ أن تخلى عن أحمد عرابي أثناء مواجهته مع الإنجليز، كان السلطان قد أصدر بياناً بعصيان عرابي وكفره بدعوى أنه لا يحترم آل البيت، فضعضع موقف عرابي، وقدم سنداً لخصومه وللإنجليز، ما سهل أمام الإنجليز احتلال مصر وهزيمة عرابي، وأدى هذا الموقف إلى نمو عداء حقيقي للسلطان في مصر. قرر عبدالحميد مصادرة الكتاب فأرسل إلى مؤلفه يطلب إليه أن يجمع كل نسخ الكتاب ويرسلها إليه في مقر حكمه، وهكذا فعل المويلحي، وحدث أن المويلحي كان قد وزع عدداً من النسخ بلغت 12 نسخة هدايا على أصدقائه وأقاربه، وآلت نسخة من هذه النسخ بعد مرور قرابة قرن من الزمان إلى الباحث الدؤوب أحمد حسين الطماوي، فقام بإعدادها للنشر بمقدمة ودراسة تاريخية، وأصدر الكتاب سنة 1985، ثم نفدت تلك الطبعة فأصدر طبعة جديدة منه مؤخراً مع التوسع في الدراسة التاريخية حوله، قبل إعادة اكتشاف هذا الكتاب تصور بعض الدارسين أنه لم يصدر نهائياً وأنه كان مجرد مشروع لدى المويلحي تحدث عنه وتحدثت عنه صحف ذلك الزمان من دون أن يصدر، هكذا تصور ناقد في وزن الراحل د. علي شلش. شهادة لا يقدم الكتاب تأريخاً للدولة العثمانية ولا للسلطان عبدالحميد، لكنه يقدم شهادة على ما يمكن أن يحدثه الاستبداد، وسيطرة الهواجس الأمنية على الحاكم، وهذا هو المعنى الذي لا يدركه الكثيرون، وهو أنه مع شدة الاستبداد وتحويل كل قضية إلى موضوع أمني، فإن ذلك يكون مؤشراً على قرب سقوط الحاكم وانهيار حكمه، وقد وصل السلطان عبدالحميد في هذا المجال إلى أقصى حد، رغم أن أحداً لا ينكر قيامه ببعض الإصلاحات داخل الدولة من بناء المدارس والاهتمام بالتعليم عموماً وإصلاح الاقتصاد، لكنه أفسد ذلك بخوفه المبالغ فيه من أي رأي أو تفكير لا يوافق هواه وشكه البالغ في الجميع بمن فيهم المقربون منه وكبار مساعديه ومعاونيه. توسع عبدالحميد في استخدام الجواسيس في أنحاء الدولة، وعلى المقربين منه والأخطر من ذلك أنه كان ينصت جيداً لهؤلاء الجواسيس ويصدق ترهاتهم وحدث أن عرضت محتويات إحدى التركات للبيع في مزاد علني فذهب رجل في الجيش العثماني برتبة فريق، واشترى من هذا المزاد (35 مقعداً) كان معجباً بها، وعلى الفور نقل أحد الجواسيس الواقعة إلى السلطان، وزاد عليها استنتاجه التآمري بأن شراء هذا العدد من المقاعد يعني أنه يدير تنظيماً سرياً ويعقد اجتماعات في بيته ضد السلطان وأنه لا يمكن أن يحتاج إلى هذا العدد لغير ذلك وعلى الفور تمت الإطاحة بهذا الرجل من الجيش، رغم كفاءته العسكرية وتميزه في القيادة. ويقدم المويلحي العديد من الوقائع المشابهة حول تقارير جواسيس عبدالحميد وفهمهم للأمور حتى أن عارف باشا ناظر المعارف الشهير عزل من منصبه لأنه ألف كتاباً تحدث فيه عن حشرة الحباحب التي يضيء ذيلها في الليل كالنجم واسمها «يلديز» أي النجم، لكن كتبة التقارير فهموا أنه تحدث عن هذه الحشرة واسمها للتهكم على قصر السلطان. وقد أدت أفعال هؤلاء الجواسيس وتقاريرهم إلى كسر هيبة السلطان والسلطنة بنظر الكثيرين، وأثارت الحقد لدى عامة الناس وخاصتهم أيضاً على السلطان وملأت نفس السلطان قلقاً وغضباً من الآخرين وحتى المقربين منه. كان حال الدولة العلية سيئاً تنفجر من الداخل غضباً وتحاصرها الأطماع الأوروبية من الخارج وشغل السلطان بالحفاظ على موقعه في المقام الأول، وكان خائفاً من أن يعزل أو يقتل كما حدث لآخرين سبقوه في السلطنة، وكان هناك فريق من المطالبين بالإصلاح أعضاء جماعة الاتحاد والترقي، وعلى رأسهم مدحت باشا ولما شعر مدحت أن السلطان سوف يغدر به فر إلى فرنسا هو وبعض أنصاره وأراد السلطان استعادتهم لمحاكمتهم، لكنه فشل، ثم وصل به الأمر إلى أن عرض على فرنسا أن تسلم مدحت باشا في مقابل أن يطلق يدها في تونس وهذا ما حدث، حيث تسلم مدحت وأرسله إلى السجن الرهيب في مدينة «الطائف» بالجزيرة العربية وقتل هناك، ثم نعمت فرنسا باحتلال تونس الخضراء. .. ومشاهد وأبلغ المشاهد التي يصفها المويلحي، هي لحظة خروج السلطان لأداء صلاة الجمعة، حيث تخصص له حراسة تبلغ عشرة آلاف رجل من الأشداء يرقبون الطريق قبل خروج السلطان بساعتين، ويقفون على أبواب المسجد ونوافذه وفوق سطحه يفتشون من يدخل للصلاة تفتيشاً دقيقاً، وهؤلاء لا يؤدون الصلاة وعليهم فقط تأمين خروج السلطان إلى المسجد وعودته بعد انتهاء الصلاة. ويبدي المويلحي دهشته من أن شيخ الإسلام في الأستانة رأى هذا كله ولم ينتقده، بل كان يشارك في هذا الموكب، ولم يفت الكاتب أن يذكر القارئ بما كان عليه عمر بن الخطاب أمير المؤمنين، حيث لا موكب ولا حراسة. لم يكن المويلحي من المعادين لدولة السلطنة، بل كان دائما من أنصارها، لكنه كان يريد لها الصلاح ويخشى عليها من الانهيار وهو ما حدث بعد ذلك كما أن السلطان عبدالحميد رغم مبالغاته الأمنية عزل عن السلطنة عام 1909 وظل حتى وفاته عام 1918 يحاول الدفاع عن نفسه، ونفى التهم التي قبلت بحقه بعد عزله ونفيه، لكن شبح المؤامرة ظل يسيطر على تفكيره وأنه راح ضحية مؤامرة وليس نتيجة سياساته الفاشلة تماماً. ولد إبراهيم المويلحي عام 1844 ووالده هو عبدالخالق المويلحي كان تاجراً ودرس إبراهيم الأدب والبلاغة وعلم العروض على يد عطار كان محله مجاوراً لمحل والده وشغل بالكتابة وبالتجارة فأسس مع عارف باشا جمعية المعارف التي قامت بنشر العديد من كتب التراث العربي، ثم أصدر جريدة «نزهة الأفكار» مع محمد عثمان جلال، ثم أوقفها الخديوي إسماعيل، لعب المويلحي دوراً سياسياً بارزاً أثناء حكم إسماعيل وصار مقرباً من السلطان عبدالحميد، وله العديد من الكتب غير «ما هنالك» وشارك في كتابة اللائحة الوطنية، نواة أول دستور مصري وفي عام 1898 أصدر جريدة «مصباح الشرق»، وظلت تصدر حتى عام 1903 واهتم فيها بنشر المقالات الفكرية والأدبية، فضلاً عن المقالات السياسية وفي 29 يناير 1906 غادر عالمنا، وهو من أسرة قدمت عدداً من رموز الأدب.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©