الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الكاتب الملعون...

الكاتب الملعون...
16 مارس 2011 19:17
لست أدري لماذا انتظرت حتى بلوغي سن الثلاثين لكي أقرأ أعمال الكاتب الفرنسي الكبير لوي فارديناند سيلين(LOUIS FERDINAND CELINE). ولعل غيابه عن الكتب الأدبية التي عرّفتني بالأدب الفرنسي كان سببا في ذلك. أو لعلي وقعت تحت تأثير البعض مما كانوا يكرهونه، وينفرون حتى من ذكر اسمه، فبتّ أخشى الاقتراب من أعماله ظانا أنها هلوسات كاتب مريض، لا تستحق الاهتمام. لكن ذات يوم، وقعت في يدي روايته “سفرة في آخر الليل”، فإذا بي ألتهمها بنفس المتعة التي التهمت بها الروايات العظيمة. بعدها أتيت على العديد من أعماله الأخرى مثل “الموت بالدّين”، و”شمال”، و”من قصر إلى آخر”، وغيرها من الروائع التي أثبتت لي جميعها أن مؤلفها واحد من أعظم الروائيين الذين عرفهم القرن العشرون. كان السبب الأساسي في حرمانه من الشهرة العالمية التي كان يتمتع بها معاصروه من الكتاب الفرنسيين من أمثال اندريه جيد واندريه مالرو وجان بول سارتر والبير كامو هو تشهيره باليهود، وانتقاده اللاذع لهم، وانحيازه للنازية خلال الحرب الكونية الثانية. لذلك أصبح كاتبا “ملعونا”، وذاق بسبب مواقفه الأمرّين. مع الجيش ينتمي لوي فارديناند سيلين المولود بضواحي باريس في 27 مايو 1894 إلى عائلة متوسطة الحال. فقد كانت أمه تملك محلا صغيرا لبيع الملابس. أما والده فكان موظفا في شركة للتأمين. وعند بلوغه سن الرابعة، استقرت العائلة بباريس. وأثناء الطفولة والمراهقة تنقل سيلين بين العديد من الأماكن. فبعد حصوله على الشهادة الابتدائية أمضى سنة في ألمانيا، ثم انتقل بعد ذلك إلى جنوب انجلترا حيث أمضى فترة هناك تعلم خلالها لغة شكسبير، وأصبح يتكلمها بطلاقة. وكان في الثامنة عشرة من عمره لما انتسب إلى الجيش ليشارك في الحرب الكونية الأولى حيث أصيب بجراح خطيرة نقل إثرها إلى المستشفى الذي ظل فيه حتى عام 1915. بعدها عمل في القنصلية الفرنسية العامة بلندن، واختلط هناك بالمشبوهين، وبالمتاجرين بالدعارة. لكنه لم يلبث أن ترك عمله في القنصلية، ليمضي سنة في أفريقيا التي ستحضر في روايته الشهيرة “سفرة إلى آخر الليل”. بعد انتهاء الحرب الكونية الأولى التحق سيلين بكلية الطب، وتزوج من اديث فولي (EDITH FOLLET)، ابنة الأستاذ فولي (FOLLET) الذي سوف يكون في ما بعد مديرا لمدرسة الطب في مدينة (RENNES) الفرنسية، ومنها سينجب ابنته الوحيدة كوليت (COLETTE). بعد تخرجه، عمل سيلين في جنيف ضمن “هيئة الصحة” التابعة لـ”مجمع الأمم”. وقد خول له عمله ذاك القيام بمهمات في الولايات المتحدة الأميركية (1925)، وفي إفريقيا (1926)، وفي بعض البلدان الأوروبية. كما خول له التعرف عن كثب على أوضاع وأحداث سياسية واجتماعية سوف تكون ملامحها حاضرة في ما بعد في مجمل أعماله. وفي عام 1926، انفصل عن زوجته ليعيش مع راقصة جميلة تدعى اليزابيت كرايج (ELISABATH CRAIG). وانطلاقا من عام 1927، شرع في العمل كطبيب في ضواحي باريس. بلا جائزة وستكون سنة 1932، سنة هامة للغاية بالنسبة لسيلين على المستوى الأدبي. فقد أصدر عمله الروائي الأول “سفرة إلى آخر الليل” التي أثارت ضجة كبيرة حال صدورها. غير أن جائزة “غونكور” المرموقة منحت لكاتب سوف يلفه النسيان في ما بعد. وهو يدعى غاي موزلين (GUY MUSELINE) وكان قد أصدر آنذاك رواية حملت عنوان “الذئاب”. ولم ينل سيلين غير جائزة “رونودو”. ولم تحظ روايته “سفرة إلى آخر الليل” باهتمام النقاد الفرنسيين فقط، بل أشادت بها الصحف الأدبية في كل من الولايات المتحدة الأمريكية، وإيطاليا، وألمانيا وبريطانيا. وتبدأ الرواية المذكورة بجملة بسيطة للغاية “بدأ الأمر على النحو التالي”. وهي جملة لم تكن مألوفة في الروايات الفرنسية في ذلك الوقت إذ أن صاحبها استمدها من اللهجة الدارجة. وتتحدث الرواية عن الموت والرذيلة والعنف والحرب والشر. وفيها تتداخل الأصوات والأماكن وبطلها “باردامو” (BARDAMU) يأخذنا من فرنسا إلى أدغال إفريقيا، ثم إلى المدن الأمريكية حيث الاقتتال على جمع الثروة وكسب النفوذ يأخذ طابعا وحشيا وشرسا. في نفس السنة التي صدرت فيها رواية “سفرة إلى آخر الليل”، أرسل سيلين إلى ألمانيا التي كانت تشهد آنذاك صعود النازيين بزعامة ادولف هتلر للقيام بتحقيق حول الصحة الاجتماعية التي كانت تمولها “هيئة الصحة” التابعة لمجمع الأمم. وعند عودته مطلع عام 1933، كتب مقالا في جريدة “LE MOIS” حمل عنوان “لقتل البطالة، هل سيقتلون العاطلين عن العمل؟”. خلال الثلاثينات، انشغل سيلين بكتابة العديد من أعماله الروائية الأخرى مثل “الموت بالدّين”، و”تفاهات من أجل مذبحة”، و”مدرسة الجثث”. كما كتب نصوصا معادية للسامية، معتبرا أن اليهود هم “سبب الشر في العالم”. في هذه الفترة أيضا، سافر سيلين إلى الولايات المتحدة الأمريكية محاولا إقناع الراقصة اليزابيت كرايغ التي انفصلت عنه بالعودة إليه. غير أنه لم يفلح في ذلك. كما سافر إلى انجلترا، وإلى شمال فرنسا حيث كتب “مدرسة الجثث”. وعندما اندلعت الحرب الكونية الثانية، رحب بالاحتلال النازي لبلاده، وكتب العديد من المقالات، وأجرى العديد من الحوارات للدفاع عن مواقفه السياسية المناهضة لليهود، وللحلفاء. ومع كتاب ومثقفين سوف تعتبرهم المقاومة الفرنسية في ما بعد “خونة” و”عملاء”، أمضى بيانا يندد بانجلترا وحلفائها وجرائمها. وقد فعل ذلك عقب زيارة أداها إلى برلين. وقد يكون التقى خلالها، غوبلس، وزير الدعاية النازي. سنة صعبة وكانت سنة 1944، سنة صعبة بالنسبة لسيلين. فقد بدأت مظاهر الهزيمة النازية تبرز للعيان، وشرع الحلفاء يسترجعون شيئا فشيئا ما كانوا قد خسروه في السنوات الأولى للحرب. لذلك كان على صاحب “سفرة إلى آخر الليل” أن يترك باريس صحبة زوجته لوسي المنصور (LUCIE AL MANSOUR) التي كانت راقصة هي أيضا باتجاه الدانمارك. غير أن الزوجين اضطرا لإمضاء بضعة أشهر في مدينة “بادن بادن” الألمانية، في حين كان الحلفاء يزحفون باتجاه برلين من الشرق والغرب. والأيام الصعبة التي أمضاها وهو يحاول اجتياز ألمانيا التي كانت مدنها وقراها قد تحولت إلى أطلال وخرائب، سوف تكون موضوع روايتين شهيرتين هما “شمال” و”من قصر إلى آخر”. ولم يتمكن سيلين وزوجته من الوصول إلى العاصمة الدانماركية كوبنهاغن إلا يوم 22 مارس 1945. وحال خروج النازيين من فرنسا، أصدرت حركة المقاومة الفرنسية برقية إيقاف ضد سيلين بتهمة “الخيانة العظمى”. وقبل أن تنتهي سنة 1945 ببضعة أسابيع، اغتيل ناشر كتبه روبار دونوال (ROBERT DONOEL) في باريس في ظروف غامضة. وفي نفس الفترة اعتقل سيلين من قبل الشرطة الدانماركية، وظل في السجن حتى عام 1947. وهناك كتب “دفاتر السجن” وفي فقرة منها يقول “ربما أكون واحدا من الكائنات التي من الممكن أن تكون حرة. أما الآخرون فهم يكادون يستحقون جميعا السجن بسبب مذلتهم المدّعية، وحيوانيتهم الخسيسة، وتبجحهم الملعون”. وفي فقرة أخرى كتب يقول “أنا على عجلة في أن أجد نفسي في مكان حيث لا أكون سافلا ودنيئا أبدا”. وفي صيف عام 1951، عاد سيلين إلى فرنسا صحبة زوجته بعد صدور العفو عنه ليستقر في ضاحية “ME UDON”. وظل هناك حتى وفاته يوم 30 يونيو 1961. وبعد وفاته، كتب فرانسوا جيبو، وهو واحد من بين الذين أولوا اهتماما كبيرا بسيرته، يقول “لقد كان هناك آخرون كانوا يصرخون عاليا مثل سيلين، وفي نفس الوقت الذي كان هو يفعل فيه ذلك، غير أنه صرخ وحيدا. ودائما خاض معاركه من دون الاستعانة بأحد. ولا أحد طلب منه أن يكتب نصوصه الهجائية والتقريظية ضد اليهود، غير أنه فعل ذلك بطريقته الخاصة ومن دون تأثير أي كان. في حياته، كما في أعماله، لم يقع سيلين تحت أي تأثير. وقد ظل دائما وحيدا ومستقلا!”.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©