الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

...فلتذهب أيها الشاب

...فلتذهب أيها الشاب
16 مارس 2011 19:18
صدمات متوالية يتلقاها الإنسان العربي على رأسه، وفي دماغه. صدمات متوالية لا يكاد يقف من الأولى، حتى تصيبه الثانية. صدمات ولطمات تتناظر بين المازوخية كتعذيب الذات وجلدها، والسادية من نفي الآخر وحتى تعذيبه. أفكار تتصارع في داخله وكان يظنها من الأموات، فما كان يعتقد بأنه من باب المستحيلات مستحيلات ها هو قد حدث، وما كان يصدقه ها هو يراه يصرخ بالكذب، و”القائد” تبين بأنه “قائد” عصابة من اللصوص، والجريمة الكبرى: الدم وسفك الأرواح، تحدثها الأجهزة الأمنية، أجهزة النظام راعي القانون، يومياً وعلناً وبلا استحياء. لا يسقط رئيس، وإنما يسقط كل ما سبق. كل ما توهمه ذلك الإنسان، وظنّ أنه “واقع” لا محالة. ولعلَّ العربي لم يسبق أن اهتم وتابع، كما هو مهتم الآن ومتابع لمسلسل ما صار يسمى “بالثورات العربية”: مسلسل بوليسي، أجل بوليسي، فغير أجهزة المخابرات وفضائحها، هناك المافيات بأنواعها، والجرائم الخفية والظاهرة، والمرتزقة، واللصوص الكبار واللصوص الصغار، وغيرها من أشكال الانتهاكات الأخرى من الحبس والحجز وأخذ الرهائن، إلى إعدام الجرحى ونبش القبور. وهو كذلك مسلسل درامي جداً فالمعيار الأخلاقي في مواجهة لغة المصالح والانتهازية، وابنة الخضار تتحول إلى ملكة قرطاج، ومهِّرب الخمور يتحول إلى تمثال فاشل يرتدي بدلة. وذاك الذي كان يعزف على “القانون” ثم عزف عن القانون، والذي تبين بأن والده من كوستاريكا، وذاك الذي كانت أمه تغير الدولارات... ثيمات لا أول لها ولا آخر يحتشد بها هذا المسلسل وتُفعلُّه درامياً، كما تُفعلّه عاطفيا. المسلسل مشحون بالمفاجآت، وبالغموض، وبالتوتر، الجثث مرمية على الطرقات، والقاعات الأنيقة تهتف بالقتل. لا أحد بامكانه إنقاذ هذا الرئيس، لكن الشعب سينتصر بمزيد من الدّم. وعاطفياً المسلسل ملتهب من العلاقة المريبة بين “القائد” والممرضات، وحتى رومانسية لقاء الحلاَّقة برجل المخابرات، مروراً بعلاقة زوجة الرئيس بهذا الوزير أو ذاك. إلاَّ أن أكثر عاطفيته ذروته تكمن في تلك الصدمات التي يتلقاها مشاهده، خاصة العربي.... فلقد اكتشف أخينا أخيراً بأن “قائده” يحتقره جداً. يحتقره كفرد، ويحتقره كأمة... “طز في العرب” يقول القذافي الابن، ويسأل الأب الشعب الليبي: “من أنتم”؟، وبالطبع لا ينتظر الجواب، فالجواب جاهز عنده: أنتم جرذان ومقملين يا إخوان، وأنا، أنا جل وعلا، القادر الوحيد على انقاذكم من أرواحكم الشريرة. أرواح شريرة هو الشعب، هكذا ينظر القائد العربي إلى شعبه، فهم إما عملاء وخونه ومأجورين. وإما جهلة لا يعرفون ماذا يريدون، وهم دوماً بحاجة إلى مرشد، ومن سيكون مرشداً أفضل من “القائد” سدّد الله خطاه. لكن هذا الاحتقار العلني من القائد لشعبه يوازيه احتقار داخلي هو عدم ثقة ذلك القائد بشعبه، وتعبر عن هذه الحالة أجهزة المخابرات وفضائحها التي ستهطل على رأس العربي وتصيبه بالدوران. فهذا الشعب التافه، هو في الحقيقة ليس تافهاً فحسب، وإنما جبان مخاتل، لا يُطمئن إليه، ولا أحد يأتمنه. راقبوه. راقبوا حتى أنفاسهم، وسواء لزم الأمر أم لم يلزم، خذوه واحجزوه وأهينوه واسحلوه، فمن هو حتى يعترض؟ من هو حتى ينطق؟، من هو حتى يسأل؟ إن أكثر ما صدم ولكم الإنسان العربي على هذا الصعيد إن ذلك “القائد” لم يكن وطوال حكمه، يقود شعباً أو بلداً، مدافعاً عن مصالحه، وعاملاً على حراسة قوته، ومعالجاً الأسباب التي أدت إلى ضعفه. لم يكن “القائد” يفعل ذلك. إنه “قائد” حقاً ولكن لعصابة من اللصوص، لمن تترك قطاع من قطاعات البلد لم تدس يدها في جيبه، ولا مصدر إلا واستنزفته، لا بحر ولا بر ولا جو إلا وحلبته. وبالتأكيد فإن مثل هكذا عصابة، عندما تحس بالخطر، يجتمع احتقارها العلني للشعب مع احتقارها الداخلي التليد، ويُصبح من السهل عليها التحول إلى مجموعة من القتلة والسفاحين. وهذه النقطة من الصدمات واللكمات الكبيرة التي تلقاها الإنسان العربي. فالقائد الذي من المفترض أنه من يحرس القانون، هو من ينتهكه، ينتهكه ماذا؟. إنه يدوس عليه بدبابته التي تدوس البشر، وبطائراته التي تقصف المستشفيات والمساجد، وبأجهزته الأمنية التي لا تتورع عن تجاوز كل الخطوط الحمراء. فحتى حين يقوم المحارب لمحاربة عدوه يضع لنفسه حدوداً: هي البيوت، ودور الصحة، ودور العبادة، وأماكن تجمع الأطفال. لكن القائد لا يعتبر شعبه عدواً، فالعدو ند، وإنما هو شعب رخيص، حشرة، سيسحقها ومن ثم سيتفرغ لبناء الوطن. عن أين وطن يحدث؟. وطن القصور التي تصيب المرء بالزهايمر، أم وطن الحسابات البنكية التي تتضخم، أم وطن السعادة التي يحسها القائد حين يسمع الهتاف الخالد: بالروح، بالدم نفديك...، وإلخ ذلك النشاز البشري. وهذه اللكمة جعلت العربي يتساءل عن المعيار الأخلاقي المفقود في مثل هذه الظواهر المرضية. فحارس القانون هو من يخترق القانون. هكذا يسقط النظام، أو ينقطع ذلك العقد المفروض بين الحاكم والمحكوم. لا ينقطع فحسب، وإنما ها هو يبصم انقطاعه بالدماء. بمن يسيل دمه على الرصيف بسهولة، وبقرار ذلك الذي أمر بسهولة كي يحدث هذا السفك. وعندما يقول أحدهم بأن هذا “الزعيم” أو ذاك الرئيس فقد شرعيته، فإنه يعترف ضمناً بأن الشعب، وليس غيره، هو مصدر الشرعية. وهذه النقطة بالذات، هي واحدة من النقاط التي أحرزتها باقتدار “الثورات العربية”، كما أنها بالمقابل إحدى الصدمات الكبيرة التي تلقتها حياة الإنسان العربي. إنه اكتشف أخيراً بأنه مصدر الشرعية. لم لم يعرف ذلك من قبل، لم يقل له ذلك أحد. إن اكتشاف العربي للخديعة التي وقع فيها لا يوازيه سواء ذلك الكذب الذي تمارسه “شفاهية” الزعماء العرب ضد حقيقة موضوعية تعبر عنها الصورة بهذا القدر أو ذاك. الصور تقول شيئاً، و”القائد” شيئاً آخر. ثم سيفهم بعد قليل، ثم لم يكن يفهم من قبل. وضع الناس في صندوق الجهل كالدجاج لم يعد يجدي نفعاً. ولأن كل ما كان سمعه العربي من قبل كان كذباً، فإنه لن يصدق أحداً بعد الآن، لن يصدق إلا بضمانات، لن يصدق إلا بدستور يحرسه هو كشعب، كما تحرس الأم طفلها المريض. أزمة أخلاقية هي إذاً ما كانت تعانيه الثقافة العربية. فالقائد تبين بأنه جاهل مطبق، وعمل طوال الوقت على أن تكون الشعوب أجهل منه. إنها عقدة نقص سائدة، ولقد صدم العربي من مثقفيه وأحزابه. إنهم ببساطة ورغم ما يقولونه ويتشدقون به عن عظمة تفكيرهم، كانوا وطوال الوقت يسعون إلى اعتراف ذلك “القائد” الجاهل بهم. انهيار أخلاقي لا حدود له ولا معايير. فالعلو والسمو الذي من المفروض أن يتسم به التفكير، ها هو يتحول إلى معجم من الوضوح. لهذا على المثقف والحزبي العربي أن يتنحى إذاً، ويترك الأمر لملايين الشباب الذين يبدؤون بالاجتماع، ولأسباب طبيعية خالصة، على “الفيسبوك” وغيره. يبدؤون بالاجتماع كموجة، ومن ثم تتحول تلك الموجة إلى “تسونامي”، كتسونامي اليابان المؤسف، وذلك رافق أحد أكثر فصول “الثورات العربية” دموية. فليتنح الجميع، ولتذهب أيها الشاب إلى الميدان، أي ميدان، وتهتف باسم الحياة. وأخيراً، فإن الصدمات والكدمات التي يتلقاها الإنسان العربي هذه الأيام لا تعد ولا تحصى. ولعلّ من أخطرها هو السؤال الذي بدأ يطرحه على نفسه: من أنا؟، وكيف أعيش؟، وكيف يعيش شعبي؟، وما الذي عليَّ أن أفعله الآن؟ a.thani@live.com
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©