الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

جنون صاحب العيادة

جنون صاحب العيادة
16 مارس 2011 19:40
كعادته أتى للعيادة ليدردش مع مرضاه.. هكذا يقول الناس، فهو أول طبيب نفسي يرونه. يدخلها هاشا ويخرج منها باشا، يوزع حانياته على الجميع، حتى زوجته التي تناسلت الشائعات عن خيانتها لها نصيب. حين فرغ من استقبال مرضاه، دخلت السكرتيرة وأخبرته أن بالخارج شخصا يلح على مقابلته.. أمرها بإدخاله.. دخل شاب في العقد الرابع، لا يخلو من وسامة، يحضن أوراقا أرهقتها يده.. نظر له الطبيب متفحصاً، لم ير أثراً للأمراض التي يعرفها، أجلسه على المقعد المقابل له وسأله: هل من خدمة؟ لم يرد الشاب الذي تجمعت كرات صغيرة من العرق على جبينه، بل جال ببصره على محتويات الحجرة، مما اضطره لإعادة السؤال، فتح الشاب فمه وبدأ يتكلم: ـ لا تسخر مني يا دكتور.. أرجوك. اسمعني جيدا، فالذي جاء بي قد يحسبه البعض هيناً.. لأنهم لا يدرون معاناتي والمشاكل التي أدخلني فيها، لا أعرف له بداية منذ الطفولة ربما، وربما منذ أن تعلمت القراءة ـ هنا تبسم وترحم في سره على والده الذي أراده أن يصبح طبيبا ـ قد لا تعرف يا دكتور إنني مغرم بالقراءة وهي سبب ما أعانية.. أذكر أول مرة قرأت بيت شعر قبل أن أتبين معانيه كما طلب المعلم. ذهب عقلي يبحث عن شكل فم الشاعر فصرخت إن هذا الشاعر غليظ الشفاه. ضحك أندادي وقال المعلم لي وهو يكتم ضحكته: صدقت. ومن يومها كلما قرأت شعرا أعرف فم قائله. صمت الشاب وامتدت يده ممسكة بالأوراق وقال وهو يشهرها في وجه الطبيب: هذا البيت لشاعر رقيق الشفاه، إذا فهو أناني كما يقول فرويد. والذي يحدث جلبة في الأذن مثل هذا لشاعر متسع الفم وربما كان ملحدا. وهذه لشاعر صاحبت فمه الريالة التي تسيل كلما أنشد شعرا وتتطاير رذاذا يرجم وجوه سامعيه، وهذا يدل على أنه يميني متطرف. وهذه القصيدة لشاعرة يؤكد شكل فمها يساريتها ولها شفاه مرسومه بعناية وكثيرة العشاق لأنها عندما تهمس لأحدهم بهذا الفم: (أحبك) يحس بها دافئة في كبده. وبعدها يا دكتور انتقلت لمعرفة شفاه المشاهير ورسمها، وكل من شاهد رسوماتي أكد إنها تشبه أفواههم الحقيقية، وصرت أعرف دين أي شخص أقابله من نظرة خاطفة لفمه. ثم تطورت حالتي وصارت عيناي تتعلقان بفم من أحادثه، وهذه تضايق كثيرين وبالذات النساء. مثلا هذه الفتاة يبدو لي بأنها طلقت في أول ليلة، هذا إذا كانت متزوجة، تضايقت من نظري لفمها وكادت تطردني لولا إلحاحي. ومما زاد المشكلة، يا دكتور، أصبحت الشفاه تكلمني دون علم أصحابها. نعم تكلمني. أصابتني هذه الحالة عندما جلست بجواري في الحافلة فتاة يفوح منها عطر أنثوي أخاذ، ويبدو لي إنها كانت جميلة، فقد رأيت تطاير العيون نحوها، ومن بينها عيناي ركزتا على فمها بفاقعه الأحمر وطفقتا تنظران، فسمعته نعم سمعته. يلعن صاحبته التي لم تهتم إلا بمظهره الخارجي، وحكى لي عن السوس الذي يعبث بداخله وينخر أسنانه، وشكا من كثرة الشفاه التي عانقها، وبدأ يقص وأخبرني إن أول فم التقاه لقروي باع أغنامه وأتى المدينة ليهاجر، والثاني لشاب أثرى فجأة. قبل أن يواصل سرده نزلت الفتاة، وجلس مكانها فتى، نظرت لفمه الذي غطاه الشارب فهمس لي: إن صاحبي محتال فنزلت، لكن يا دكتور المشكلة الحقيقية إنني بلغت الأربعين ولم أتزوج، وهذا ما جئت من أجله. فكلما جلست مع فتاة أو نشأت بيننا علاقة تسمعني كلاما جميلا ينفيه فمها، فليلة البارحة جلست مع من تمنيتها زوجة وأقسمت لي إنها لم تعرف رجلا قبلي، فصدقتها وصرت أسعد الناس وأفرحهم، لكن فمها انطلق يقهقه: قبل أن تلتقيك بساعة كانت مع صديقك.. لم أتمالك نفسي، انفجرت فيها صفعا وركلا، فتجمع الناس واتهموني بالجنون.. عند هذه الجملة تضخم فم الشاب أمام الدكتور الممعن النظر فيه، فلم ينتبه لخروجه ولا لجملته الأخيرة: إن فمك يا دكتور يقول إن زوجتك تخونك.. بل ظل ساهما مسمرا في مكانه، طال انتظار السكرتيرة فدخلت. أحس بها ووقع بصره على فمها.. كاد يضحك عندما تذكر ما قاله الشاب عنها، كتم ضحكته وخرج نحو البيت ليجد زوجته في انتظاره، نظر لفمها لا إراديا وألصق عينيه به، لاحظت تركيزه على فمها كمن يراه للمرة الأولى، وهمت بالكلام، لكنها لم تفعل بل التفتت لجهة أخرى.. رأى حركة فمها وظنه يريد أن يهمس له بشيء، تحرك ووقف أمامها يحدق فيه. امتعضت وهمهمت بكلام لم يسمعه واتجهت لجهة أخرى. تحرك ووقف يحدق في فيها ويردد في سره: (اليوم سأعرف الحقيقة) وهو يدنو.. دنا حتى كاد فمه يلامس فمها، مد يده وقبض عليه وصرخ فيه: تكلم... * كاتب من السودان
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©