الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

في ظهيرة أغسطس

في ظهيرة أغسطس
12 يونيو 2008 01:57
1- دقّ الهاتف في منتصف النهار، فجاء صوتها المنبعث من أحراش الماضي: ـ لقد علمت بخبر وصولكِ من السفر· ـ ····· ـ كيف تحملتِ غياب كل هذه السنين بعيدا عن وطنك؟ كان في صوتها حماس وقوة ولازال قادرا على جذب الأسماع إليه، في حين كان صوتي متثائبا باردا، والقطة تدور في الصالة تراوغني لتتمسح بقدمي، لكني كنت أجيبها، بصوت أنكره، كأني استعرت صوتا لصوتي· كلامها مدّ لعلاقة صداقة قديمة، في حين أن كلامي جزر لمستقبل لم تتضح معالمه· عندما وضعت السماعة رددت ''فنجان قهوة''، لعلّه ورطة انسقت إليها من شدّة الحرج· 2 قضيت بقية اليوم بسبب هذه المكالمة بين تأنيب الضمير لطريقة تفكيري وبين خوف من العودة لهذه العلاقة الشائكة، فرغم صداقتنا إلا أن مشاكل العمل زادت من فرقتنا وتدخل الأهل، فتورطنا في ديون كثيرة، لنعلن إفلاس الشركة قبل سفري بشهرين، ولأخسر ميراثي كله، في حين ساندها أهلها وزوجها للبدء من جديد· يا إلهي من هذا الأحمق الذي أعطاها رقم هاتفي الجديد؟، لكن الجميع معذورون فهيكل صداقتنا كان مبهرا من الخارج، بيد أنه كان طللا لي· وكيف لي أن أقبل بترميم هذه العلاقة؟ وكان هذا الأمر يؤرقني في سفري، فحاولت كثيرا تحجيمه، ونفيه إلى أعماق سحيقة، ثم نسيته، لكنها اتصلت، لتضع الأمر كله حول فنجان قهوة· الترميم·· تردد صدى هذه الكلمة في داخلي، هل أشعر بتأنيب الضمير؟ لكن الأمر أبسط من ذلك، لأن الصداقات لا تستمر دائما ولا تصمد، فلماذا أشغل نفسي؟ وإذا كان هذا هو صوت عقلي فإن قلبي يرفض بشدة، كي لا يعود الماضي في شرنقة اليوم· فنحن سنعود كما كنا، حتى لو تغيرنا· نظرت إلى الحائط، تمنيت أن أصدم رأسي به، حتى أوقف المدّ الجارف لهذه الأفكار، لكني عدت لقراءة الرواية، جاهدة أن أتواصل مع أجوائها التي قطعها الاتصال· 3 طاولة مرتبة بشكل مبالغ فيه، ووردة أقرب إلى الذبول تنام على عنق زجاجة صغيرة متطرفة في مكانها على الطاولة· النادلة تبدو من طرف قصي تجادل نادلا آخر، بيد أنها في آخر الأمر ستستجيب لأوامره، مضطرة هي إلى ذلك· وفي هذه الظهيرة يتثاءب كل شيء في المكان كسلا أو إرهاقا، في حين أن الحياة كانت تدب خارج زجاج هذا المقهى· 4 جاءت متألقة كعادتها، ذكية في هجومها ومناورتها، السنين زداتها إيمانا بنفسها وبقدرتها على الإقناع وكسب مزيد من الأصدقاء، بقدر نجاحها في خسارتهم، وهو ما لم يقله أحد لها أبداً· بدأت أتكلم، وأنا أتأمل القطة الملاصقة لزجاج المقهى من الخارج، تتثاءب ببطء شديد لتكشف عن كامل أسنانها، وكأنها لقطة بطيئة من فيديو، يا لكسلها ومللها· في حين كانت الكلمات تخرج مني مطاطية لزجة، تتقافز في كرات صغيرة حولي، تحدثت عن الغربة وافتقادي لصديقاتي، وأني أفتقدها فهي الصديقة· ثم تكاثرت الكرات المطاطية، دون وعي كنت أحرك جسدي قليلاً والكرات تمر بي، تكاد أن تلامسني، أحس بها لزجة رجراجة حارة، أضع يدي على فمي، كي أقاوم الغثيان· والكرات تتقافز من حولي، وكلّ شيء حولي يصرخ النادلة والزبائن والطاولات: أيتها الكاذبة! والقطة في الخارج تحت مظلة المقهى تختبر الأرض إن كانت حارة، لترخي جسدها كاملا، فتلقي نظرة حولها قبل أن تغفو، رأتني فلم تهمس لي بأي شيء· كان رأسي ثقيلا جدا، وأبدو كمن استيقظ فزعاً يتلفت ليدرك أين هو؟ وفي أي وقت من النهار· ـ هل أنت بخير؟ أجبت وأنا أرفع رأسي الثقيل: نعم· نعم·· لا شيء سوى صداع خفيف· تحدثت عن أشياء كثيرة لا تتعلق بمشاعري، ولا بصداقة أخشى ترميمها ثم خفّت حركة الكرات من حولي، تنفست الصعداء وبدأت أتكلم في الهواء كلمات أبثها في أعواد قصب مجوفة· والقطة تستغرق في نومها بعد أن أمنت من طرد عمال المقهى، الذين انشغلوا بجدالهم في الخلف· صرت أتكلم مبتعدة عن الكذب، كلمات عامة مغسولة من المشاعر، أدرأ بها الحديث بعيدا عن ذكريات الماضي أو وعود المستقبل، كلمات باردة عديمة اللون والرائحة· ثم جعلتها أيضا تتحدث عن أي شيء إلا عنا· وأسألها عن أشياء متفرقة لا تعني لنا شيئا، وعن أناس عابرين· 5 وبعدها استأذنت للذهاب إلى الحمام· عندما عدت لم أجدها، وجدت ورقة صغيرة، من أوراق مقهى ''كان زمان'' وبجوارها ثمن فنجان القهوة ومما كتبته لي: ـ يبدو أن الغربة غيّرتك، فمات الحماس فيك، وأصبحت تتحدثين عن الحياة كأنك تأتين من خارجها، طارئة غريبة، لا أعرف فيك من صديقة الأمس إلا شكلها··· فوداعا· استيقظت القطة بتكاسل ودلال، وهي ترى القط القادم من بعيد، فرفعت ظهرها على شكل قوس وتنشطت، ومسحت أطراف فمها بلسانها، وسارت مع القط مبتعدة عن المقهى حتى غابت عن نظري· تضايقت قليلاً مما فعلت، لكني ارتحت أيضاً فهذه ربما تكون الطريقة المثالية لي للتخلص من الحرج الذي أوقعتني فيه بدعوتها لشرب فنجان قهوة· لكني ابتسمت لما فعلته وطلبت من النادلة عصيراً منعشاً، وأكملت قراءة الرواية التي اعتدت على حملها في حقيبتي·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©