الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

عودة الفريد

عودة الفريد
12 يونيو 2008 01:59
المثقفون الأرمن على معرفة كبيرة بالمعرّي وتغريبته في الوجود، لأن تجربة المعرّي قد أسهمت في تشكيل وجدان أغلب مثقفي أرمينيا· ويعود الفضل في كلّ هذا إلى الشاعر الأرمني الأمهر أوييدك إسحاقيان (1875 ـ 1957)· كان إسحاقيان مفتونا بشخصية المعري؛ فكتب سنة 1909 ملحمة اختار لها عنوان ''أبو العلاء المعري''· كان قبل إنجازه لهذا العمل الفذّ شاعرا يُشهَد له بالفضل، فصار بعد كتابة هذه الملحمة أشهر شاعر في أرمينيا· أدرجت الملحمة في برامج التعليم الثانوي وفي جامعات أرمينيا وتعاقبت الأجيال التي درستها واطلعت على تغريبة المعري وعبقريته منظورا إليها من قبل أهم شاعر أرمني· والراجح أن مثقفي أرمينيا ومبدعيها في مطلع القرن العشرين كانوا يدركون أنهم ينتمون إلى الروح الشرقية، وإلى حضارة الشرق العظيم الذي حرص الغرب على تدجينه وسلبه أمجاده الماضية ومصادرة مستقبله وحريته· لذلك لم يتردّد الرسام الأرمني الأشهر مارديروس ساريان في قراءة الملحمة واستلهامها في وضع الرسوم التي رأى أنها تلخّص حياة المعرّي وتغريبته تحت الشمس كما تخيّلها شاعر أرمينيا الأشهر أوييديك إسحاقيان· لكأن سوء الطالع الذي ملأ بالمرارة حياة المعري سيلاحقه مرّة أخرى حين يزمع أوييديك إسحاقيان على نشر الملحمة باللغة الروسية· فحالما أعدّت الترجمة الروسية وأرسل الرسام مارديروس ساريان أكثر من عشرين لوحة إلى دار النشر الروسية في تيفليس، اندلعت الحرب العالمية الثانية 1940 فأغلقت دار النشر وفُقدت رسوم الفنان مارديروس ساريان· ولم يتمّ العثور على تلك الرسوم كلّها، بل عُثر على خمسة منها فحسب في مناطق مختلفة من الاتحاد السوفييتي· ترجمت الملحمة إلى خمس وعشرين لغة منها الإيطالية والفرنسية والألمانية والإنجليزية والجيورجية والروسية والفارسية وغيرها· أما الترجمة العربية فقد صدرت سنة 1940 وقد نقلها إلى العربية بارسيخ تشاتويان وخير الدين الأسدي ثم صدرت في ترجمة جديدة اضطلع بإنجازها ناظار ناظاريان ونزار خليلي وصدرت في حلب سنة ·2003 تسطّر هذه الملحمة حياة المعرّي باعتبارها رحلة مقاومة وصراع· ويتفنّن الشاعر الأرمني في الإيحاء بأن صراع أبي العلاء في الوجود لم يكن صراعا فرديا، بل هو لحظة تنكشف فيها هشاشة الكائن وعظمته أيضا· لذلك كثيرا ما يجعل المعرّي يلهج بأحكام تدين بني البشر وتدين مدائنهم وفعالهم· الراجح أن ما شهدته أرمينيا وما عرفه شعبها من محن ومذابح وهجرات هي التي جعلت أوييديك إسحاقيان يجد في حياة المعرّي وشعره ترجمانا لليأس من بني البشر وميلهم إلى الغلبة والقهر وشهوة الدم مراقا· لذلك لم يكتف بمحاكاة ما حفّ بحياة المعري من نكد وسواد بل عمد إلى تمجيد المعري وأعلاه وصوّر حياته، لا باعتبارها رحلة عذابات ومحن، بل جسّدها من جهة كونها رحلة عروج نحو المطلق واللانهائي، نحو منبع النور الأبدي، نحو الفريد الذي ما يفتأ يعود ويجتذب إليه خيال بني البشر·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©