الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ذات الوشاح

ذات الوشاح
12 يونيو 2008 02:01
عندما يتصل الأمر بالتصوير الشعري لدينا العواطف الوجدانية، فإنها منظومة القيم التي تتراءى في الشعر تلتئم في أفق مغاير لما وجدناه في تجربة الجمال الحسيّ وصوره اللافتة؛ إذ نلج عوالم الباطن الواثق من وجوده دون افتتان بالظواهر الباهرة· وهو عالم يخضع لمعايير مختلفة، فالصدق فيه هو أساس التجاوب بالرضا أو الصمت، مثل قول العباس بن الأحنف: ما قلتِ إلا الحقَّ أعرفه أجد الدليل عليه في قلبي إنا لنا قلبان مُذْ خُلِقَا يتجاذبان بصادق الحب يتهاديان هوى سيجعلنا أحدوثة فى الشرق والغربِ الطريف في هذه الأبيات إحساس الشاعر بما سيترتب على ولعه الحقيقي بمحبوبته، فهو لن يظل سرًا مكتومًا ولاشأنًا شخصيًا، سيصبح بفعل البوح بالشعر الذائع أحدوثة تسير بها الركبان وتشغل الناس، وأهم من ذلك فهؤلاء الناس يعمرون أقطار الأرض من الشرق والغرب· ومن النادر أن نجد إحساسا واضحا بالعالم الجغرافي المحيط بالشاعر القديم بمثل هاتين الكلمتين: الشرق والغرب، فقد كنا نظن أن الألسن لم تتداولها إلا في العصور الحديثة ومع أن هذه الأبيات منسوبة لشعراء آخرين كما كان شأن المقطعات كلها في تعدد الروايات ونسبتها بالرغم من وقوعها في عصر التدوين نتيجة لفلتات الذاكرة فإن بوسعنا أن نطمئن إلى نسبتها لعباس بن الأحنف بالذات وهي مثبتة فى ديوانه لأنه كان يمتلك مثل هذا الشعور بالتفرد والبطولة واستحقاق الذكر في قصة حبه الذائعة الانتشار بفضل رقة أشعاره· وإذا كان العباس من حقه أن يزهو بصدقه وتجاوب محبوبته معه فإن شاعرًا آخر هو ابن الدمينة لم يكن متأكدا من مثل هذا التجاوب، بل يكاد يعفي محبوبته من الاعتراف وهو يصور صمتها، سواء كان ذلك من قبيل درء الشبهات عنها أو التسليم بالأمر الواقع، فيقول: بنفسي وأهلي من إذا عرضوا له ببعض الأذى لم يدر كيف يجيبُ ولم يعتذر عذر البريء ولم يزل به سكتة حتى يقال مريبُ لقد ظلموا ذات الوشاح ولم يكن لنا من هوى ذات الوشاح نصيبُ ومع لطف الكناية عن المحبوبة بهذه الصفة الملازمة، والتي تمثل إشارة دالة عليها وسط صويحباتها وهي أنها ''ذات الوشاح'' فإنها تتدثر بشيء آخر يميزها وهو الحياء، فهي تتعرض للاتهام دون أن تسارع بالنفي ولاتعرف كيف تجيب فتغرق في الصمت الذي يزيد من غموض موقفها والشكوك فيها· ويتطوع الشاعر بتلقائية محببة لينفي عنها التهمة وهو أحوج إلى إثباتها مؤكدا أنهم ظلموها وأنه لا نصيب له في هواها، مع أنه قد صرّح في مطلع حديثه بفدائه لها بالنفس والأهل، هذا اللون من الهوى البريء الخجول عندما يتم التعبير عنه بطريقة حركية حوارية شيقة يصبح نموذجا لهذه الحياة العاطفية النبيلة التي احتدمت في أوساط شعراء العربية·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©