الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

المحرّر الأدبي حفّار ينبشُ مشكلات الكتابة

المحرّر الأدبي حفّار ينبشُ مشكلات الكتابة
4 مايو 2017 14:21
«كيف يبقى النصُّ نَصِّي.. بعد أن تكوني قد عملتِ عليه؟». كثيرًا ما سمعت هذا السؤال من مؤلِّفين أبدوا فضولًا متخوفًا إزاء طبيعة عملي التحريري. وقد تعلَّمت أن مهنة المحرر لا تقتصر على العناية بالنصوص بل تشمل أيضًا، وبالأهمية نفسها، العناية بمخاوف المؤلِّفين، وارتيابهم، وتحفظاتهم. وقد تكون الثانية أصعب من الأولى، وتتسبب بعدد أكبر من الإخفاقات قبل أن يكتسب المحرر مهارة - تظل نسبية - فيها. والإخفاقات جزء حتمي من سيرة المحرر، إذ إن تحرير الكتب ليس مادة تُدرَّس في الجامعات، بل حرفة تُكتسب بالممارسة تحت إشراف محررين أكثر خبرة، وبالدروس المستخلصة من النجاحات والإخفاقات على حد سواء. أعمل مُحررةً منذ عشر سنوات، وأعتبر نفسي محظوظة جدًّا لسببين: أولًا، لأنني تدرَّبت على يد محررين استثنائيين، وثانيًا، لأنني لم أبدأ مباشرة بالتحرير الأدبي. بدأت عملي في النشر كمحررة لسلسلة كتب مدرسية لمادة اللغة العربية. فكان دوري من جهة التأكد من مطابقة المحتوى مع المناهج الرسمية، ومن جهة أخرى التنسيق بين الأطراف المعنية بإنتاج الكتاب: المؤلفين، والمراجعين، والرسامين، والمنفذين الفنيين. لكن لم يكن لي دور في تعديل المادة المكتوبة بحد ذاتها، إذ كان الأساتذة المؤلفون يوزعون كتابة الفصول فيما بينهم ثم يقيِّمونها في جلسات عامة يحررون فيها جماعيًّا ما كتبه كل منهم. المشروع الثاني الذي شغلني لمدة غير قصيرة كان كتاب قانون العقوبات اللبناني، مع اجتهادات المحاكم اللبنانية المتعلقة بكل مادة، باللغتين العربية والفرنسية في مجلد واحد. مجموعة المؤلفين هنا كانت مكونة من محامين، وكان عمل التحرير يتعلق بترتيب الكم الهائل من الاجتهادات، ومراجعة ترجمتها، والتأكد من وحدة الأسلوب والمصطلحات والقواعد التحريرية في كلٍّ من اللغتين. مشروعان كبيران آخران أتما تدريبي الأساسي في مجال التحرير: الأول كتاب ضخم لتعلُّم اللغة الإنجليزية، تُرجم من الفرنسية، والثاني قاموس فرنسي-عربي أنجزته الدار اللبنانية التي كنت أعمل بها بالاشتراك مع دار فرنسية متخصصة بالقواميس. دوري التحريري في الكتاب الأول كان في مراجعة الترجمة، والتأكد من ملاءمة المحتوى لقراء اللغة العربية. أما في المشروع الثاني، فقد تلقيت تدريبًا لدى الناشر الفرنسي، مكنني من اختيار مجموعة مترجمين وتدريبهم على العمل في إطار هذا المشروع، ومتابعة عملهم، ومراجعة الكتاب، ومراحل تنفيذه. في كل هذه المشاريع، كما في مشاريع ترجمة كتب الأطفال أو كتب الطبخ التي توليتها بعد ذلك، وحتى في ترجمة كتب التاريخ أو الاقتصاد التي تلتها، كانت الصعوبة متركزة في طبيعة العمل التحريري فائقة الدقة، وليس في العلاقة مع المؤلفين. لم أواجه، في تلك الفترة، صعوبة التعامل مع الكاتب الأدبي أو مع المترجم الأدبي. والمترجم الأدبي كان أول من صادفت منهما. توليت نشر عدد من الروايات المترجمة، وفي أغلب الحالات، كانت مراجعتي واقتراحاتي تلقى صدى إيجابيًّا لدى المترجم، فإن لم يأخذ بكل ملاحظاتي، كان يناقشها معي لنتوصل إلى الصيغة التي تقنع الاثنين. وهذا العمل ممتع للمحرر والمترجم، إن تقبله المترجم. لكن بعضهم -وهو قليل- لا يتقبله. لذلك أطلب عادة نموذجًا مترجمًا قبل البدء في أي مشروع، حتى مع مترجمين مرموقين ومعروفين، وفي هذه الحالات ليس الهدف التأكد من مستوى الترجمة، بقدر ما هو اختبار ردة فعل المترجم على مراجعة عمله، ومدى استعداده لمناقشته والتعديل فيه. أما التعامل المباشر مع الكاتب الأدبي، فقد وصلت إليه في وقت لاحق، وكنت قد اكتسبت مهارات تقنية في العمل على النصوص بحد ذاتها، فكان من الممكن التركيز على تعلم المهارات الإنسانية، مثل مناقشة مواضيع حساسة، وسبل الإقناع، وتفادي التسبب في ردة فعل سلبية من المؤلف. قد يستاء المؤلف من تلقي ملاحظات على نصه، وهذا الشعور غالبًا ما يُظهر عدم إدراكه لوظيفة التحرير الأساسية، فالتحرير عملية تهدف فقط إلى تحسين النص، وهي دائمًا لصالح النص ومؤلفه. لكنَّ عادة تحرير النصوص الأدبية ليست منتشرة بشكل واسع في أوساط النشر العربي، وكثيرًا ما يتوقع المؤلف أن يأخذ الناشر نصه ويطبعه كما هو، وإن تدخل في النص، أن يقتصر هذا التدخل على المراجعة اللغوية، أي تصويب أخطاء النحو والإملاء فيه. هذا المفهوم المنتقص للنشر، في أكثر الأحيان، لا يكون سببه رفض المؤلف للتدخل في نصه، بقدر ما يكون جهله التام بوجود هذه الإمكانية وبفوائدها. وقد قابلت أكثر من مؤلف سألني عن طبيعة عملي، وقال إنه لم يعهد خضوع كتبه لهذا النوع من العمل. وأخبرني ناشر أن أحد المؤلفين الكبار والمعروفين طلب منه مؤخرًا أن يرشح له محررًا أدبيًّا لنصوصه، وقد أدرك أهمية التحرير بعد أن تُرجمت رواياته إلى لغات أجنبية وخضعت، في تلك اللغات، إلى تعديلات تحريرية قبل النشر. المراجعة اللغوية التي عهدها المؤلفون هي بالفعل جزء من عملية النشر، لكنها المرحلة الأخيرة من التدخل في النص، بعد أن يكون المحتوى قد أصبح نهائيًّا. وهدف التحرير هو جعل النص نهائيًّا، أي، إعطاؤه أفضل شكل ومحتوى ممكنَين قبل تقديمه إلى القراء. بعد عمل طويل وشاق على النص، يصبح المؤلف قريبًا جدًّا منه، إلى حد أنه لا يستطيع رؤية ما قد يشوبه من مشكلات. المحرر هو القارئ الأول للنص، وهو قارئ خارجي، ليست له علاقة ملكية بالنص ولا علاقة عاطفية معه. يقرأه من المسافة التي تفصل المرء عن كل ما لم ينتجه بنفسه، فينظر إليه بشكل أكثر موضوعية من كاتبه، ويستطيع أن يجيب عن الأسئلة التي تضمن جودته. في حال الرواية مثلًا، سيتأكد المحرر في قراءته من أن الحبكة متينة، والسرد فعال، والحوارات مستثمَرة جيدًا في توالي الأحداث، والبناء الزمني منطقي، والشخصيات مشغولة بدقة، تتطور في خلال الرواية، وتتصرف بما يلائم طباعها وظروفها. وفي المقالة سيهتم بتسلسل الأفكار، ويرصد التناقضات، وتكرار الأحداث أو حتى التأملات. أما في المذكرات، فسيكون التركيز خصوصًا على تتالي الأحداث، وواقعية السرد، وصدقه، وحيويته. وفي جميع الحالات سيحاول المحرر إبراز المقاطع التي لا تخدم النص ويفضَّل إزالتها، أو التي تحتاج إلى تطوير؛ لأنها لا تؤدي وظيفتها بشكل مكتمل. المحرر ليس كاتبًا بل مجرد قارئ. يعيد المحرر النص إلى مؤلفه مع ملاحظاته، فهو لا يتدخل مباشرة فيه، بل يبدي رأيًا ويقترح تعديلات، ويعبر عن شكوك أو تساؤلات ولدها النص فيه عند قراءته. أما التدخل في النص فهو من اختصاص المؤلف، فهو منتِج النص ومالكه، وهو من يقتنع بالملاحظات عليه، وبوجوب إجراء التعديلات فيه أم لا. والمؤلف هو المبدع، وكثيرًا ما يجد حلولًا لم يكن المحرر قد فكر بها، ولكنه كان فقط من أشار إلى المشكلات التي ينبغي حلها. بعد العمل الفعلي مع محرر، تختفي مخاوف المؤلف تمامًا، لأنه تحقق من أن النص بقي ملكه، ويسعد للنتيجة التي توصل إليها وللشكل المُرضي الذي اتخذه نصه. كثيرًا ما رأيت هذا الارتياح يبدو على المؤلف في نهاية العمل، وهذه أجمل مكافأة لي، لأنها تبشر بعلاقة متينة وطويلة الأمد بين المؤلف والناشر، علاقة مبنية على ثقة المؤلف بعد أن اختبر ناشره. ولكنني أعجب دائمًا للمفارقة: يطمئن المؤلف عندما يدرك أن محررته ليست كاتبة بل قارئة، وعندما يفرح بعملها، ويريد الثناء عليه يسألها: «لماذا لا تكتبين؟». القارئ الأول للنص المحرر هو القارئ الأول للنص وهو قارئ خارجي، ليست له علاقة ملكية بالنص ولا علاقة عاطفية معه. يقرؤه من المسافة التي تفصل المرء عن كل ما لم ينتجه بنفسه، فينظر إليه بشكل أكثر موضوعية من كاتبه، ويستطيع أن يجيب عن الأسئلة التي تضمن جودته. في حال الرواية مثلاً، سيتأكد المحرر في قراءته من أن الحبكة متينة، والسرد فعال، والحوارات مستثمَرة جيداً في توالي الأحداث، والبناء الزمني منطقي، والشخصيات مشغولة بدقة، تتطور في خلال الرواية، وتتصرف بما يلائم طباعها وظروفها. وفي المقالة سيهتم بتسلسل الأفكار، ويرصد التناقضات، وتكرار الأحداث أو حتى التأملات. أما في المذكرات، فسيكون التركيز خصوصاً على تتالي الأحداث، وواقعية السرد، وصدقه، وحيويته. وفي جميع الحالات سيحاول المحرر إبراز المقاطع التي لا تخدم النص ويفضَّل إزالتها، أو التي تحتاج إلى تطوير، لأنها لا تؤدي وظيفتها بشكل مكتمل. مديرة النشر، الكرمة للنشر والتوزيع
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©