الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

في «موت المؤلف»

في «موت المؤلف»
4 مايو 2017 14:24
بفعل عوامل يذهب م. فوكو بأصولها حتى القرن السابع عشر الأوروبي، صار «مبدأ المؤلف يحدّ من عشوائية الخطاب بفعل هوية اتخذت شكل الفردية والأنا... وغدا هذا الأنا مبدأ تجمّع الخطاب ووحدة معانيه وأصلها». المؤلف هو من وما يسمح بتفسير وجود أحداث معينة في نتاج ما، وما يفسّر تحولاتها وانحرافاتها وتغيراتها المختلفة، وذلك عبر سيرة حياته ورصد وجهة نظره الفردية وتحليل انتمائه الاجتماعي وموقعه الطبقي وتبيُّن«مشروعه» الأساس. إنه المبدأ الذي يسمح بقهر التناقضات التي يمكن أن تظهر في سلسلة من النصوص: يُفترض دائما أن يكون هناك على مستوى معين من فكره أو رغبته، من وعيه أو لاوعيه، نقطة تنحل التناقضات انطلاقا منها، وتترابط العناصر المتنافرة بعضها ببعض أو تنتظم حول تناقض أساس وأصل. المؤلف بؤرة تعبيرية معينة تتجلى بالتساوي في النتاجات والمسوّدات والرسائل. *** بينما يُقبل الخطاب العلمي، بفضل انتمائه إلى منظومة منهجية تعطيه ضمانته، لا بإسناده إلى المؤلف الذي أنتجه، فإن الخطاب الأدبي لم يكن ليقبل إلا منوطا بوظيفة المؤلف: كل نص مطالب بمصدره، بمعرفة مؤلفه والمناسبة التي ألف فيها والمعنى الذي أعطِي له، وإذا ما وصل إلينا غُفلا، على إثر حادث طارئ، يكون علينا أن نقهر الصعوبة ونرقى به إلى مؤلفه، إذ أن الغُفلية الأدبية لا تقبل إلا كلغز. *** الشكل الرسمي الذي ترسّخ عند الثقافة الفرنسية عن «تأريخ الأدب»، كتابةً وتدريساً، هو ذلك الذي أرسى دعائمه غوستاف لانسون Gustave Lanson في نهاية القرن التاسع عشر، والذي ظل يهيمن على الجامعة الفرنسية خلال عقود، مكرّساً تفسيراً للأعمال الأدبية باعتبارها تعبيراً عن مؤلفيها. لذا كان يكفي الوقوف عند مقاصد المؤلفين، ومعرفة ما يجول بخاطرهم، وما يدور بخلدهم كي تتضح معاني تلك الأعمال. بلوغ مقصد المؤلف وإدراك نواياه، كان كفيلاً بأن يجعلنا نقف على معنى العمل. الأمر الذي جعل من النقد الأدبي مجرد دراسة لـ«الرجل وأعماله L&rsquoHomme et son &oeliguvre»، وهي العبارة التي كانت تجد مقابلها عندنا في ما يدعى:«تراجم الأدباء». *** ما ينيف عن العقد والنصف من الزمن، وقبل أن يعلن كل من رولان بارط (1968) وميشيل فوكو (1969) «موت المؤلف»، كان موريس بلانشو قد تحدَّث عن «غيابه» مُدشّناً تلك «الثورة الفكرية» التي بلورها كتاباه المؤسِّسان: الفضاء الأدبي (1955)، وكتاب المستقبل (1959). *** كانت نتيجة ذلك خلخلة الدعائم التي كانت الدراسات الأدبية تقوم عليها، وتغيير النظرة السائدة عن العمل الأدبي، تلك النظرة التي كانت تعلي من «ذات» المؤلف، وتؤكد سلطته على النص، مع ما يصاحب ذلك من إلحاح على الطابع التعبيري للكتابة. *** كان من نتيجة «اختفاء المؤلف» أن النقد الأدبي لم يعد يولي عنايته لما يخطر في ذهن صاحب العمل، ما دام العمل سينحل إلى لغة، أي إلى منظومات من العلامات لا تكثرت بالذّات المتكلمة. كتب بلانشو في حصة النار: «نستخلص من الملاحظات السابقة حول اللغة نقطاً أساسية لعل أهمها هي الخاصية اللاشخصية للغة، ووجودها المستقل المطلق الذي تحدّث عنه مالارمي. فهذه اللغة، لا تفترض أيّ شخص يتكلمها ولا أيّ شخص يسمعها: إنها تُكلّم ذاتها وتكتب نفسَها. وذلك هو شرط سيادتها. والكتاب هو رمز هذا الوجود المستقل. إنه يتجاوزنا، ولا حول لنا ولا قوة أمامه. وإذا كانت اللغة تنعزل عن الإنسان وتعزله عن الأشياء، إذا لم تعد فعل شخص يتكلم اتجاه من يسمعه، فهِمنا لماذا غدت، بالنسبة لمن يتمثلها على هذا النحو، قوة سحرية. إنها نوع من الوعي من غير ذات Sujet، انفصل عن الكائن، وغدا هو نفسه انفصالاً ونفيا وقدرةً لا متناهية على خلق الفراغ». *** لا يكتفي بلانشو إذاً بالتأكيد على هذا الطابع اللاشخصي للكتابة، وإضفاء طابع «الحياد» عليها، وإنما يذهب أبعد من ذلك ليضع محلّ المؤلف، كمبدأ إبداع العمل الأدبي وتفسيره، يضع اللغة بما تتسم به من طابع لاشخصي، ملبّيا دعوة مالارمي إلى «انسحاب صوت الشاعر، لإفساح المجال لِكلِمات». *** يقوم هذا الموقف، الذي سيُدعى بالموقف «البنيوي» من اللغة على دعائم ثلاث: أولا: اللغة منظومة من الاختلافات، بدون حدود مطلقة. والمسافة بين الوحدات الصوتية هي واقع اللسان الذي يغدو بفعل ذلك من غير مادة جوهرية، لا طبيعية ولا ذهنية. ثانيا: لا تتوقف الشفرة المتحكمة في المنظومات على الذات المتكلمة وإنما هي بالأحرى اللاشعور المقولي الذي يسمح بممارسة الكلام من طرف أولئك الذين يستعملون اللسان. ثالثا: الدال نفسه يتكون من اختلافات، ولا يستدعي الدال أية علاقة خارجية، لذا فإن اللغة، والحالة هذه، منظومة بلا «حدود» ولا «ذات» ولا «أشياء». والذات مفعول للغة، وليست فاعلا متحكما فيها. *** ستغدو الكتابة، كما سيقول بارت فيما بعد، «هي ذلك المحايد neutre le ، وتلك اللامباشرة التي تنفلت عبرها ذاتيتنا. إنها البياض والسواد اللذان تضيع فيهما هوياتنا، ابتداء من هوية الجسد الذي يكتب». *** سيُخلي المؤلف المكان للكتابة و«النصّ »، وسيترك المجالَ للناسخ الذي لن تتعدى «ذاتيته» «الفاعل» بالمعنى النحوي واللغوي للكلمة، وليس مطلقا بالمعنى الأنطولوجي من حيث هو الحامل المؤسس. بل إن هناك من سيقول فيما بعد إن المؤلف ليس إلا كائنا من ورق، وهو ليس مطلقا ذلك الشخص الذي يتحكم في لعبة الكتابة ويهيمن على معانيها ويتحكم في دلالاتها. *** وهكذا سيتضح إلى أيّ مدى قد شكل الوقوف عند «تراجم الأدباء» عائقا معرفيا في الدراسات الأدبية. لذا فبدلا من أن تنكبّ تلك الدراسات على الأدباء والشعراء وما يقصدون إليه، سيتحول الاهتمام إلى دراسة الشعر والأدب، أو الأدبية Littérarité على الأصح. *** سينتقل النقد من المرمى التفسيري الذي يسعى إلى بلوغ مقاصد المؤلف ونواياه إلى المرمى التأويلي الذي يروم قراءة النص لتقصّي معانيه. *** لن تتوخى القراءة بعدُ بلوغ النوايا الشعورية للمؤلف، وإنما ستنغمس بين ثنايا النص بحثاً عن القوى المطموسة في غياهب النسيان، وسعياً وراء تلك اللغة التي تسبق الذات وتفعل خارج كل رقابة شعورية. *** نقرأ في كتاب الفضاء الأدبي: «كل قراءة هي نوع من الخصام الذي يقضي على المؤلف كي يضع العمل الأدبي أمام حضوره النكرة، أمام ما هو عليه من إثبات للذات عنيف ولاشخصي».
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©