السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

علاقة هاتفية

علاقة هاتفية
17 مارس 2011 20:03
دق جرس الهاتف في مكتبي، وجاءني على الطرف الآخر صوت نسائي رقيق، يبدو منه أن المتحدثة فتاة رشيدة تجاوزت العشرين، لكن الملاحظ من الكلمات الأولى أنها تتحدث بصوت خفيض ينم عن شيء ما بداخلها، وفي الغالب يؤرقها وهذا الشيء المجهول يطفو على حياتها ويؤثر فيها بقوة، تريد أن تشكو وتفضفض وتسعى لنصيحة من إنسان ذي حكمة ليساعدها في حل مشكلتها. محدثتي وخلال ما يزيد على نصف الساعة لم تمنحني الفرصة لأقول لها إنني لست الشخص المقصود الذي تنشده، ولست متخصصا في حل المشاكل العاطفية، وواصلت حديثها، وأنا في شدة الخجل والحيرة لأنني ببساطة أريد أن أقول لها أن الرقم المطلوب خطأ، ولا يصح أبدا أن أخدعها واستمع لمشكلتها، وأضيع وقتي ووقتها لكن في النهاية هذا الذي حدث. قالت ـ وأنا اسمع رغم انفي ـ إن مشكلتي تكمن في أسرتي منذ نعومة أظفاري، وأعاني من أبي وأمي واختي الأصغر مني، وكأنهم جميعا اتحدوا ضدي، ربما تقولون إنني أبالغ في الوصف، ولكن هذه هي الحقيقة المرة التي مازلت أعيش فيها وجعلتني مختلفة عن كل الفتيات، نحن نقيم في منطقة راقية، مستوى معيشتنا عال وإن لم نكن من الأثرياء، غير أن أبي وأمي يعملان في وظيفتين تحققان دخلا كبيرا يجعلنا نشعر بنوع من الرفاهية، وفي نفس الوقت ليس لدينا إلا بعض المال يحتفظ به ابي في رصيده بالبنك، لا يرقى لان يطلق عليه ثروة، لانه فقط لا يحقق أي حلم في الحياة، إذ لا يكفي مثلا لشراء شقة فاخرة، لذا فإنه مدخر للأيام كما يقول أبي وأمي، ويشعران بالاطمئنان لوجود هذا المبلغ في البنك ولا ادري فيم يفكران، ولا ماذا يريدان من الاحتفاظ به وادخاره، بل أؤكد انني لا اهتم بهذا الأمر مطلقا. وبدأت مشكلتي بعد مجيء أختي إلى الدنيا، وكان عمري وقتها اربع سنوات وهذا هو الفارق في العمر بيننا، منذ ذلك الحين تغيرت معاملة أبي وأمي لي، أهملاني بكل ما تعني الكلمة، اتجه كل اهتمامهما الى اختي الصغيرة، ويا ويلي لو ارتفعت درجة حرارتها، تعلن حالة الطوارئ القصوى والاستنفار في البيت، وحينها لا يسمح لي حتى بالكلام، ولا أجد أي تفسير ولا مبرر لذلك، وبدأت شقيقتي تشب عن الطوق وهي تستحوذ على مشاعرهما، ولم يبق لي منها اي نصيب، وهذا لم يكن مجرد إحساس، وانما كان حقا، فقد اصدرا الأوامر بأن أترك لها كل ألعابي، رغم انهما احضرا لها أضعاف ما عندي، والمبرر الوحيد لديهما أنها صغيرة وأنا الكبيرة، وظل هذا المبرر الواهي يلازمني ويتكرر فيما بعد، وكأنها ضريبة يجب ان ادفعها لانني ولدت قبلها، وكأن هذا ذنب ارتكبته وأعاقب عليه، وليس ذلك فقط وإنما أختي نفسها كانت تستغل الموقف لتشكو أو تبكي لتحصل على شيء وتحرمني من كل شيء، وتصدر الأحكام الجائرة بأنها في كل مرة على حق. لم يهتم أبي وأمي بعزلتي وبكائي، ولم يتأثرا بي، ولم يستجيبا لدموعي، ولم يتوقف الأمر عند ذلك بل استمرت التفرقة «العنصرية» وطالت الملابس والاكسسوارات وأدوات تجميل الصغيرات هي تحصل على نصيب الأسد ويلبيان لها رغباتها فلها حق الاختيار والرفض بينما لا اجرؤ إلا على الموافقة والقبول بما يمنان به عليّ وحتى عند الحديث عنا مع أقاربنا، يكيلان لي الاتهامات والنقائص، بينما تحظى هي بكل مدح وثناء حتى كرهت اللقاءات العائلية، لأنني قرأت في عيون الكبار والصغار رفضا لي وقد اتخذوا موقفا عدائيا مني من خلال تصرفات أبي وأمي. استمرت المعاملة بنفس الشكل وكبرنا وكبرت معي الأزمة حتى اصبح الحزن صديقي ووجد في قلبي مسكنا مريحا فلم يغادره إلا انه لا يخفى على أي ناظر إلى عيني، لم أطق صبرا وفاض الكيل، فكل ما يحدث فوق إمكاناتي واحتمالي، ابحث عن ملجأ أو مفر فلا أجد شاطئا لمركبي وأنا أبحر في أمواج عاتية، وأخيرا فإن أبي خصص لأختي ثلثي رصيده في البنك ومنحني الثلث للاستفادة به عندما نتزوج، ورغم أنني لم افكر يوما في هذا الأمر فان ابي وبموافقة أمي فجرا البركان الكامن داخلي، وها أنا أشكو وابكي وقررت الاتصال بك لتدلني على حل ناجح. اعتذرت لمحدثتي التي فتحت قلبها بأن الاتصال تم بالخطأ من جانبها، واعتذرت لانني سمعتها واعتذرت لانني عرفت مشكلتها واعتذرت لانني لا استطيع أن اساعدها على الحل، ووعدتها بان يكون ذلك سرا لن يطلع عليه احد، خاصة انني لا اعرفها ولا تعرفني، والمؤكد اننا لن نتحدث ولن نلتقي بعد ذلك، ومرت لحظة صمت من كلينا، من دون أن تكون هناك نية لإنهاء الاتصال، بل كانت الرغبة مشتركة في المواصلة من دون أن نعلن ذلك صراحة، فقد يكون الصمت في احيان كثيرة ابلغ من الكلام. ومن دون أن ندري، ورغم غياب المنطق، اتصل الحديث وحتى نتجنب الحرج، نحينا المشكلة الأساسية جانبا، وتناولنا بعد ذلك موضوعات عامة انتهت إلى الاتفاق على انه رُب صدفة خير من ألف ميعاد، ولا مانع من تبادل أرقام الهواتف والاستفادة من الآراء المتبادلة. وكأنني اكتشفت أنني غير مرتبط بأي مشاعر لأي فتاة مثل معظم أصدقائي ولم افكر في هذا الأمر منذ سنوات، بعد ان مضت مرحلة المراهقة، ومضت معها الأحاسيس غير المعقولة والتفكير غير الناضج، وبفضل الله لم تكن لي أي علاقات مع الجنس الاخر من أي نوع، حتى أنني كنت لا اهتم بما يفعله زملائي واقراني، بل كنت أراه نوعا من العبث وتضييع الوقت وامامي مهمة دراسية هي الأولى بالاهتمام. انا في السابعة والعشرين من عمري، ولم تكن فكرة الزواج مُلحة الآن، إذ أنني مشغول أولا بالحصول على مسكن مناسب، ثم توفير الأموال اللازمة لكل مستلزمات الزواج من مهر وشبكة وحفل واثاث، ولدي فلسفة خاصة في هذا الأمر ولا ادري إن كان كثيرون يتفقون أو يختلفون معي حولها، رؤيتي انني لابد ان اكون جاهزا ومستعدا اولا قبل الاقدام على الاختيار واتخاذ الخطوات العملية، وهذا ما جعلني غير مهتم بالبحث عن العروس لانني اعتقد ايضا ان المناسبات كثيرات لكن هذا الاتصال الخاطىء جعلني اجري تعديلات على قناعاتي. تكررت الاتصالات بيننا ووجدنا اشياء كثيرة مشتركة دفعتنا لان نلتقي، لا ابالغ اذا قلت انني وجدتها تماما كما رسمتها في خيالي، ولأول مرة في حياتي أجد للحزن بريقا، وسحرا وجاذبية جعلني أسيرا لعينيها، لم نصدق أن صدفة تجمع بيننا، ولأنني أرى أن مشكلتها لا تعيبها قررت الارتباط بها، بعد أن وجدت فيها نصفي الاخر، إلا أننا وجدنا انفسنا أمام مشكلة حقيقية، كيف سنصارح أسرتينا، بطريقة تعارفنا، وإن كنا تغلبنا على المشكلة وتم إيجاد حل لها قد يكون اضطررنا معه للكذب وادعى كل منا أن شخصا اخر رشحنا لبعضنا. أربعة اشهر فقط مرت بعد هذا الحدث السعيد، استطاعت ان تقلب كل الموازين، او بالأحرى جعلتها تعتدل وتستقيم ووجدتني أمام فتاة تكاد تكون مريضة نفسيا تعيش بشخصيتين منفصلتين متناقضتين، ولست بالساذج الذي يمكن أن يخدع بسهولة، ولا اعتقد بداية أنني تسرعت في اتخاذ قراري لان كل ما ذكرته عنها وما قالته عن نفسها تأكدت من صدقه وصحته، ولم اكن مندفعا وراء شهامة، ولا منساقا وراء عواطف غير محسوبة، وانما لم اطلع على الوجه الاخر لها والذي كان مخفيا، وربما بفعل ظروفها ونشأتها وطريقة تربيتها وتعامل والديها معها. أولى المفاجآت التي تكشفت انني علمت وبمحض الصدفة انها بعد حصولها على الشهادة الجامعية حصلت على عقد عمل خارج البلاد لعدة سنوات، وأنها بعد عودتها تمتلك شقة خاصة بها وساعدها أبوها في بعض ثمنها، وأنها تمت خطبتها ولم يتم التوافق لان خطيبها كان اقل منها في المستوى الاجتماعي والتعليمي، وايضا اكتشف عدم الاستقرار في اسرتها علاوة على عدم صراحة الفتاة نفسها معه. وفي زيارة مسائية مفاجئة لها في بيت أبيها لم اجدها، وكانت الطامة الكبرى أنها في العمل، علما بأن العمل الذي اخبرتني أنها تزاوله لا يستدعي أن تكون فيه بالمساء، ونزل الخبر على رأسي مثل الصاعقة، لا ادري كيف استطعت ان أتماسك وادعي معرفتي بالحقيقة، وما فعلت ذلك إلا لأصل إلى سبب هذا التخفي وكأن تفاصيل حياتها من الأسرار العسكرية الشديدة الأهمية التي لا يجب ان يطلع عليها احد، ولا يجوز الاقتراب منها مع انه كان لذلك مردوده السلبي، وعندما سألتها عن السبب الذي دفعها الى «الكذب» او عدم اظهار الحقائق رغم انه ليس فيها ما يشين، وكل هذه الوقائع عادية ولا يخجل اي إنسان من ذكرها، وقد يتعرض لها اي شخص وجدت في اجاباتها تبسيطا للأمور، يصل إلى حد التهوين والتهميش وترى أنني لم اصبح زوجها بعد، وما بيننا مجرد خطبة اي وعد بالزواج واتفاق مبدئي، وان ما فعلته لا يضيرني وانما مجرد إجراء احترازي من قبيل الاحتياط، حتى إذا تعرضت الخطبة للفسخ ومضى كل إلى غايته فإنني أكون جاهلا حقيقة حياتها واحداثها. إلى هنا كان لابد من وقفة جادة مع النفس، ومراجعة القرار جيدا، خاصة بعدما ظهر لي ان اسرتها لا تتدخل في امر خطبتنا وعلاقتنا، وتترك لنا اتخاذ ما نراه مناسبا، من دون توجيه لها أو مشاركة في الرأي، بما يعني ان مشكلتها مع ابيها وامها مازالت قائمة ومستمرة وعلى حد تعبيرها ذات مرة انها تكاد تشك انها ليست ابنتهما، ورغم ان هذا غير صحيح إلا انه يبدو كذلك. انتقلت هذه الشكوك اليّ وأصبحت ارتاب في كل تصرفاتها واقوالها وافعالها، لا أتلقى أي شيء منها على انه صدق ووجدتني في حالة صعبة، فليس من الطبيعي ان ابحث وراء كل كلمة وهمسة وحركة لا اعرف إن كانت صادقة أم كاذبة، بل عدت بذاكرتي إلى الخلف، وتطرق الشك إلى الماضي برمته وانتهى بي المطاف الى انني تحولت إلى باحث عن الحقيقة، وغير قادر على استكمال المسيرة، واعيش في معاناة كبيرة، رأيت أن مهمتي في المستقبل سوف تتركز حول البحث عن الحقائق، وقد لا اصل اليها، وربما تصبح حياتي جحيما بلا حدود. الحسابات واضحة ودقيقة، لا أجد معها إلا أن اتخذ قراري الفوري بفسخ الخطبة، أو الهروب والنجاة بجلدي خوفا مما هو آت، ولكن ليس قبل أن احمل اباها وامها المسؤولية عما صنعاه في ابنتيهما، وحولاها إلى «كذابة» وتخليا عنها، المشكلة الان أنها تطاردني بقوة وعنف كي أعود إليها وهذا ليس هو المهم، لأنني لن أعود، ولكن المهم أنها وصفتني بأنني ظلمتها، وأنا لا أطيق هذا الوصف ولا أرضاه لنفسي ولا لغيري، حتى وضعتني في حيرة، وأتساءل هل حقا ظلمتها؟
المصدر: القاهرة
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©