السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

عار القتيل

عار القتيل
17 مارس 2011 20:03
تحول «رضوان» من ناطور لإحدى البنايات تحت الإنشاء إلى سمسار عقارات ذاع صيته وأصبح معروفاً في المنطقة، ربما أشهر واحد فيها، فمنذ سنوات جاء للعمل هو وزوجته ولأنه لا يحمل أي مؤهلات لم يكن هناك عمل يناسبه إلا مجال المقاولات كعامل أجير، وعندما اكتمل البناء بحثت الشركة المنفذة عن حارس إلى أن يتم بيع وحدات النيابة، فتم اختياره ليتولى المهمة وهي بسيطة ولا تحتاج إلى إمكانات أو مجهود أو قدرات خاصة، فالأمر أهون مما يتصور، ووجد في المهمة ما يناسبه، فكل ما يقوم به انه سيفترش المدخل وينام فيه ربما ليل نهار وسيتقاضى راتبا شهرياً ثابتاً، جعله يشعر كأنه موظف وله وضعه الاجتماعي. ومن خلال جلسته المعتادة في مكانه تردد عليه الكثيرون من الباحثين عن شقق سكنية ومقار إدارية للإيجار أو التمليك، وبما أنه يحمل كل المعلومات كان يجيبهم عن تساؤلاتهم واستفساراتهم وسواء اشتروا أو لا فإن كلاً منهم يدس في يده مبلغاً كبيراً لقاء جهوده وخدماته وللمرة الأولى في حياته يمتلك مثل هذه المبالغ التي تفوق أحلامه، وقد يحصل من عميل واحد على أكثر مما يحصل عليه من أجر الشهر كاملاً، لذا كاد يجن ويفقد عقله غير مصدق أن هذه الثروة تنهال عليه بهذه السهولة حتى أنه يقضي ليله وهو يحسب حساباته ويستعيد أمنياته ويقلبها في رأسه وقد لا ينام إلا قليلاً. ولأن «رضوان» نحيف قصير، فإنه كان سريع الحركة، خفيف الظل، ينطلق مع الزبائن هنا وهناك حتى احتاج إلى حقيبة ليحفظ فيها هذه الأموال الكثيرة التي تأتيه مثل المطر، ما عليه إلا أن يجمعها وفي الوقت نفسه فإنه مازال على شحه القديم الذي كان في الماضي مبرره انه لا يملك شيئاً من متاع الدنيا، بينما الآن يخشى الإنفاق حتى لا تنقص أمواله التي تزداد كل يوم وتنمو وتتكاثر وأصبح من أملاك العقارات والوحدات السكنية، ورغم ذلك مازال يقيم في مدخل بناية تحرسها زوجته لأن هذا العمل هو السبب فيما هو فيه. وجاءته صفقة كبيرة غير مسبوقة في حياته، فهذا الرجل الذي يرغب في شراء بناية بكاملها، مما سيحقق له عمولة كبيرة، وفي إطار الاتفاقات وعرض الأسعار والوساطة بين البائع والمشتري تلقى «رضوان» اتصالاً على هاتفه المحمول الذي لا يعرف فيه إلا الضغط على اللون الأخضر ليرد على محدثه، وكان المتحدث هو المشتري وبعد قليل تم الاتفاق بينهما على اللقاء في ملهى ليلي حدده له لأن «رضوان» لا يعرف ماذا تعني كلمة ملهى ليلي، ولا ماذا يدور داخله وحتى عندما توجه إلى هناك في الميعاد كان يقدم رجلاً ويؤخر أخرى، وهو مأخوذ بالأضواء المبهرة التي تتراقص أمام عينيه، تماماً مثل القروي الذي بهرته أضواء المدينة، وأخيراً وصل إلى مضيفه الذي يجلس بين مجموعة من الرجال والنساء وقدم له كأساً لا يعرف ما هو المشروب الذي فيه وكي لا يتهموه بالسذاجة قبله واحتساه وهو يتفحص المكان. المشهد غريب عليه وعلى من يدخله للمرة الأولى أو من لم يعرفه، فالأضواء في الجوانب خافتة، والراقصون والراقصات يتمايلون على المسرح، والرواد يصعدون إليهم ويهبطون ويلقون على رؤوسهم الأوراق المالية الجديدة، ضحكات خليعة تأتي من هنا وهناك قد تكون أعلى من صوت الموسيقى الصاخبة، التي تخترق الآذان، والغريب أن كل مجموعة منعزلة عن الأخرى كأن كل واحدة منها تقيم في واد. شعر «رضوان» بأنه لم يعش عمره الماضي كله والذي يزيد على الأربعين سنة، بل يقترب من الخمسين، أخذته الحسرة فقد كان مدفوناً كل هذه السنين، ولا يعرف أن الحياة حلوة وفيها من المتعة ما لا يتخيله، وطالما أنه يملك المال فإنه يستطيع أن يفعل كل شيء، وها هو يملك أكثر مما يريد، فلا مانع من أن يعيش حياته مثل هؤلاء السهارى السكارى، لأنه يرى أنهم في عالم خيالي من النشوة لا يمكن وصفه، ولم يصدق نفسه عندما تحول إلى «زبون» من زبائن هذه الملاهي، يتردد عليها كل ليلة بعد منتصف الليل لأن هذا الوقت هو الذي تبدأ فيه نشاطها، ومن ناحية أخرى يكون أنهى عمله اليومي وتأتيه فتاة نصف عارية صارخة الجمال المصطنع بالمساحيق والدهانات، تتلقى أوامره وتأتيه بما يريد من مشروبات «محرمة» والجميع ينحنون أمامه طمعاً في أمواله التي سيغدق بها عليهم. وتبدلت حياة «رضوان» فأصبح من الرواد الدائمين للملاهي الليلية، يقضي بها وقته حتى الصباح وينام إلى ما بعد الظهيرة، ويعمل إلى منتصف الليل، ويحمل ما يتكسبه لينفق منه على هذه السهرات التي تحتاج إلى مبالغ باهظة كل يوم، حتى أن سنة واحدة كانت كافية لينفق فيها كل ما كسبه خلال السنوات العشر الماضية، ويبيع العقارات والممتلكات ليفي بمتطلبات الليالي، لأن ما جاء سهلاً سيذهب سهلاً، ووصل به الأمر إلى الإفلاس التام، ولم يكن مضطراً للعمل من أجل أسرته وإنما من أجل ملذاته الوهمية. الليلة واحدة من الليالي المتشابهة عنده، وقد تركت الخمور أثرها بهالات سوداء حول عينيه وشحب وجهه كأنه خارج لتوه من القبر، مزاجه عكر، طلب المزيد من تلك المشروبات المحرمة، وتعاطى منها بنهم إلى أن اقتربت تباشير الصباح، وإذا به يصيح وسط الحضور الكبير معترضاً على هذا المطرب الشعبي بحجة أن صوته لا يعجبه وشبهه بأنه مثل نواح الغربان ويصيبه بالاشمئزاز، فتوقفت الموسيقى واختل مزاج الرواد مما أثار ضجة في المكان، وحاول البعض التدخل وتهدئته حتى لا يفسد على الآخرين ما هم فيه، لكنه عاد لاعتراضه على المطرب «عرفة» بعد لحظات، وهو يؤكد له انه مطرب مغمور ونكرة وصوته يثير الاشمئزاز. شعر «عرفة» بالإهانة، لأن «رضوان» أهدر كرامته بين الحضور الذين يبدو أنهم معجبون ومستمتعون به حتى وإن كان ذلك غير حقيقي، وفشل هو الآخر في السيطرة عليه فترك عمله وتوجه إليه وطلب منه الذهاب معه وطلب من الجارسون أن يحصل منه على ثمن المشروبات حتى لا يدري ما احتساه منها، وهنا نشب بينهما خلاف جديد، فبجانب أنه يرفض الخروج بالقوة، فإنه يرفض دفع الحساب لأنه يرى أنه تجاوز الحد وأن هناك مغالطة كبيرة، فانهال على الاثنين سباً وشتماً بأفظع الألفاظ والأوصاف لأنه لا يدري ما يقول، وكاد الجو يفسد كله وتعكرت الأمزجة وتسبب الموقف في خسارة كبيرة لصاحب الملهى. اضطر المطرب «عرفة» للاستعانة بالحارس الذي يطلقون عليه عندهم «البودي جارد» ويدعى «علاء» وهو شاب ضخم البنية كأنه من سلالة الديناصورات المنقرضة، مفتول العضلات، يرتدي الملابس الصيفية في قلب الشتاء ليكشف عن سواعده ليخيف كل من حوله، حتى لا يجرؤ أحد على الخروج عن النظام، وحاول «علاء» أن يقنع «رضوان» بالخروج معه، لكنه رفض، فقام بحمله بيد واحدة كأنه أرنب ينتفض بيديه ورجليه محاولاً الفكاك منه، إلا أنه لم يستطع، ولم يبق له من قوة غير العودة للشتائم، فقام بإحضار سكين وطعنه إحدى عشرة طعنة كانت واحدة منها فقط كافية لأن تودي بحياته وسالت دماؤه غزيرة، وحدث هرج ومرج وتدافع بقية السكارى في الخروج وهم يصرخون، فقد أفاقوا من غياب عقلهم والجثة ملقاة على الأرض، والجميع يتسابقون للنجاة من الموقف، فلا أحد منهم يتوقع أن تنتهي الليلة بهذا الموقف الدموي. ألقي القبض على «علاء» (البودي جارد)، وكانت المفاجأة أيضاً أنه سبق اتهامه في ست عشرة قضية سابقة معظمها ضرب وتعد على الأشخاص من خلال عمله هذا، لكن تلك الأخيرة كانت جريمة قتل بشعة، قد يقضي فيها عقوبة لا يكفي لها ما تبقى من عمره. زوجة «رضوان» لا تجد بين يديها ما تنفق منه على أبنائها الذين مازالوا صغاراً، فقد قضى زوجها على كل شيء، وكان مثل النار أكل الأخضر واليابس، ويكفيها عاراً وفضيحة أن زوجها مات قتيلاً سكراناً.
المصدر: القاهرة
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©