الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

من صور الأمانة المهنية في الإسلام

من صور الأمانة المهنية في الإسلام
17 مارس 2011 20:05
أراد الإسلام أن يؤسس مجتمعا له التفرد والتميز في كيانه وذاته، فكانت دعوته الحافزة إلى تخير الكفاءات النابهة التي ترى خالقها وباريها عند جليل الأعمال وحقيرها فينبت ذلك في نفسها لأمانة شجرة وارفة الظلال غضة الثمار تؤتى أكلها كل حين بإذن ربها. والإسلام عندما أراد ذلك نظر إلى الأمانة ككيان تؤسس المهن من خلاله في كافة الفروع وشتى المجالات ومن ثم كانت الأمانة في: - المناصب الإدارية: وهنا نؤكد على أن مما يؤذن بزوال المؤسسات وتصدع أركانها توسيد الأمر إلى غير أهله فيها، وتفشي الرشوة والمحسوبية في تعاملاتها، فتغيب على إثر ذلك الكفاءات المتميزة عن ساحتها، ويطفو الغثاء على سطحها، لذا أكد الإسلام على الأمانة في تولي المناصب والوظائف والمهن. ففي الحديث الذي رواه الإمام مسلم عن أبي ذر قال: قلت يا رسول الله ألا تستعملني؟قال:فضرب بيده على منكبي ثم قال:يا أبا ذر إنك ضعيف،وإنها لأمانة. وإنها يوم القيامة خزي وندامة،إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها». ولذلك قيل «إن الكفاية العلمية ليست لازمة لصلاح النفس، فقد يكون الرجل رضى السيرة، حسن الإيمان، ولكنه لايحمل من المؤهلات المنشودة ما يجعله منتجاً في وظيفة معينة «ألم يأتك نبأ عن الصديق يوسف عليه السلام وكيف أنه لم يرشح نفسه للمنصب الإداري لنبوته وتقواه فحسب، وإنما دل على نفسه من خلال مؤهلات تجعله كفؤا لحيازة منصبه،وذلك من خلال أمانته وعلمه فقال: «قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ «يوسف (55). وهذا يدل على أن من مقتضيات الأمانة أن نصطفي للأعمال أحسن الناس قياماً بها يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الحاكم وغيره» من استعمل رجلاً على عصابة وفيهم من هو أرضى لله منه، فقد خان الله ورسوله والمؤمنين». ومن الأمانة في المناصب أن لا يطلب الوظيفة من ليس كفؤا لها فمن سمات المجتمع الإسلامي الصالح أن يتخير الأصلح من أهل الخبرة والدراية والكفاية للمهنة والوظيفة،وأن يترك الحرية التامة للمدير أو من ينوب عنه في اختيار عماله الأكفاء دون مؤثرات أو مطالب ملحة تخل بأمانة الاختيار . - أداء الواجبات المهنية: إذا كان توسيد الأمر إلى أهله أمانة بمقتضاها يعين الرجل المناسب في المكان المناسب ،فإن حسن قيام العامل بواجبات عمله واستنفاذ جهده في إتقانه والإتيان به على أتم وجه أمانة يعد التفريط فيها خيانة ،ولأجلها يشتد غضب الله تعالى ويعظُم عقابه على من فرط أو تهاون فيما عهد إليه. يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الإمامان البخارا ومسلم «إذا جمع الله بين الأولين والآخرين يوم القيامة، يرفع لكل غادر لواء يعرف به !فيقال هذه غدرة فلان...».. وعد النبي صلى الله عليه وسلم استغلال الإنسان لمنصبه والتربح من ورائه بغير حق مما حرمه الله سبحانه، قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الحاكم وغيره «من استعملناه على عمل ورزقناه رزقاً فما أخذ بعد ذلك فهو غلول «وعن أبي حميد الساعدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل عاملاً،فجاءه العامل حين فرغ من عمله فقال: يا رسول الله ،هذا لكم، وهذا أهدى لي. فقال له: أفلا قعدت في بيت أبيك وأمك فنظرت أيهدى إليك أم لا؟ ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية بعد الصلاة ،فتشهد، وأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال أما بعد، فما بال العامل نستعمله، فيأتينا فيقول:هذا من عملكم، وهذا أهدى لي، أفلا قعد في بيت أبيه وأمه، فنظر هل يهدى له أم لا؟ فوالذي نفس محمد بيده،لا يغل أحدكم منها شيئاً إلا جاء به يوم القيامة،يحمله على عنقه: إن كان بعيراً جاء به له رغاء، وإن كانت بقرة جاء بها لها خوار، وإن كانت شاه جاء بها تبعر- تصيح-، فقد بلغت «وهكذا حذر النبي صلى الله عليه وسلم من تربح الممتهن بغير حق من جراء مهنته، وتوعده بهذا المصير الذي تقشعر منه أبدان ونفوس المخبتين، ونرى النبي صلى الله عليه وسلم في الوقت ذاته يبشر كل من أخلص في مهنته فأداها على أكمل وجه بأنه من المجاهدين المتصدقين عند الله تعالى، يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الإمام أحمد «الخازن الأمين الذي يؤدي ما أمر به، طيبة نفسه، أحد المتصدقين». ويقول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه الطبراني وغيره «العامل إذا استعمل فأخذ الحق وأعطى الحق لم يزل كالمجاهد في سبيل الله حتى يرجع إلى بيته». - الأسرار المهنية: وهى من أجل الأمانات التي أكد الإسلام على حفظها بصفة عامة وفى مجال العمل والمهنة بصفة خاصة. فالطبيب أيا كان تخصصه مطالب بحفظ سر مريضه إلا في حالات معينة، وكذلك كل ممتهن مطالب بحفظ أسرار مهنته وكل ما أسند إليه ،فكم من مصالح عطلت بسبب استهانة البعض بالسر المهنى الذى يهمس به في المجالس والاجتماعات، يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الإمام أحمد «من سمع من رجل حديثاً، لا يشتهي أن يذكر عنه، فهو أمانة وإن لم يستكتمه «ويقول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه أبو داود وغيره «إذا حدث الرجل بالحديث ثم التفت فهو أمانة». وحرمات المجالس والاجتماعات تصان ما دام الذي يدور بين أروقتها مضبوطاً بالأدب لا ضرر فيه ولا ضرار. أما إذا شهد الإنسان مجلساً يمكر فيه المجرمون بغيرهم ليوقعوا الأذى بهم، فهذا نوع من الفساد الذي يجب عليهم مقاومته والحيلولة دون وقوعه، يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أبوداود «المجلس بالأمانة إلا ثلاثة مجالس: مجلس سفك دم حرام، أو فرج حرام، أو اقتطاع مال بغير حق «ويقاس على هذه المجالس مثلها مما شابه. ومن خلال النصوص السابقة وغيرها استلهم علماء الأخلاق الإسلاميون آراءهم حول هذا الموضوع ومن ثم وجدنا الإمام الإمام الماوردي يقول « اعلم أن كتمان الأسرار من أقوى أسباب النجاح، وأدوم لأحوال الصلاح.... وإظهار الرجل سر غيره أقبح من إظهاره سر نفسه، لأنه يبوء بإحدى وصمتين:الخيانة إن كان مؤتمناً، أو النميمة إن كان مستودعاً. فأما الضرر فربما استويا فيه أو تفاضلاً، وكلاهما مذموم، وهو فيها ملوم». -الأمانة في المهن الاستشارية: لقد اهتم الإسلام بتأكيد الأمانة في التشاور بين الناس، ويزداد هذا التأكيد في المهن ذات الطابع الاستشاري، كمكاتب الاستشارات القانونية والمحاسبية، وغير ذلك، وتعميق صفة الأمانة من خلال هذه المهن يكون من جانبين: حفظ سر العمل أو صاحب الاستشارة - إخلاص النصح له فيما استشار فيه حتى وإن غضب طالب المشورة . فإن قصر المستشار في أي مما تقدم فهذا نوع من الخيانة المخلة بأخلاق المهنة والتي نهى الإسلام عنها. يقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري «المستشار مؤتمن». ويقول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه ابن ماجه «إذا استشار أحدكم أخاه فليشر عليه». ويقول صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري «من تقول على ما لم أقل، فليتبوأ مقعده من النار. ومن استشاره أخوه المسلم، فأشار عليه بغير رشد، فقد خانه، ومن أفتى فتيا بغير ثبت، فإثمه على من أفتاه». -الأمانة على المواهب والملكات: فالمواهب والملكات طاقات إذا ما فعلت في إطارها الصحيح من شأنها أن ترتقي بالمجتمعات وتنهض بالأمم. من أجل هذا اهتم الإسلام بها وعدها أمانات يجب الحفاظ عليها وتنميتها وتفعيلها. ومن ثم كثيرا ما نسمع في مجال المهن عن الكوادر المدربة، ونسمع فيما اصطلح عليه حديثاً عن إدارة العقل. وإدارة الذات. من هذا المنطلق اهتم الإسلام بالمواهب والملكات لما لها من دور في الحياة عامة، وفى مجال المهنة خاصة، فكان من الضرورات التي أمر بحفظها«النفس» احتراماً وتقديراً لها، وحرصاً على المواهب والكفاءات في الأمة، وكان من الضرورات التي أمر بحفظها كذلك «العقل» الذي هو أداة الإدراك والتميز والتفاضل في الإنسان، وحفظه من خلال وجهة النظر الإسلامية يكون من جهتين: 1- حرمة الاعتداء عليه، إذ جعل الاعتداء عليه وإذ هابه وكأنه قتل لصاحبه لذا أوجب فيه دية كاملة، وحرم تغييبه بسكر أو ما شابه. 2- كذلك أمر الإسلام بتنميته كموهبة أمد الله بها الإنسان، وإعمالها فيما تستطيع من مجالات. ومن ثم عد من عطلها ولم ينميها في مرتبة أدنى من مرتبة الحيوان بل هو أضل سبيلا .. يقول تعالى: «وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ « الأعراف (179) . وفى آية شاملة تفيد مسؤولية الإنسان عما أمده الله تعالى به من مواهب وملكات، يقول سبحانه « إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولا» الإسراء (36) .. -الوفاء بالعقود في التعاملات المهنية: ومن الأمانات التي أمر الإسلام بأدائها والوفاء بها، الالتزام بالعقود والوفاء بها. سواء في مجال الشركات والمعاملات المالية، أو المادية أو المعنوية في مجال المهنة خاصة وفى كافة أمور الحياة عامة. كل ذلك مأمور الإنسان فيه بالوفاء بما أبرم من عقد أو أخذ على عاتقه من عهد. فالالتزام بالعقد وما تضمنه من شروط يعد من الواجبات المؤكدة سواء بين المهني وعميله، أو بين العامل ورب العمل، أو بين الموظف والمؤسسة التي يعمل بها،أو بين البائع والمشتري. يقول تعالى «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ» المائدة (1). وإذا كان الأمر كذلك فإنه يجري على ألسنة بعض الممتهنين عبارة «نحن نعمل على قدر ما يدفع من مال إلينا» وهذه مقولة خاطئة، والعمل بمقتضاها نوع من الخيانة وعدم الوفاء بالعهد، وذلك لأن الممتهن أو العامل قد التزم مع من يدفع إليه أجره أو راتبه سواء كان جهة عامة، أو مؤسسة خاصة بعقد مقتضاه أن يلتزم بعمل معين نظير راتب معين، فيجب أن يبذل جهده ويخلص في عمله ويأتي به على أكمل وجه، ولا يقول إن الجهد المبذول أكثر من المال المدفوع. فهذا لايجوز لأنه رضي ببذل هذا الجهد وأداء هذا العمل نظير هذا المال، فيجب الوفاء بما ارتضى به. والإخلال بذلك نوع من الخيانة التي يربأ الإسلام بأتباعه الوقوع فيها. من هذا وغيره يتضح أن الأمانة في مجال المهنة بعد أخلاقي ألزم الإسلام به جمهور الممتهنين على مختلف تخصصاتهم، ولولاه لتحولت الكفاءات إلى مردة وشياطين يستطير شرها دون حد أو منتهى لذا أكد الإسلام عليها في شتى صورها ومختلف مجالاتها. د. محمد عبد الرحيم البيومي كلية الشريعة والقانون - جامعة الإمارات
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©