الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

زبون الزنّوبة

زبون الزنّوبة
9 أغسطس 2009 00:45
كنت أذهب إلى دكان أبي ورجلي فوق رأسي، فالذهاب قرار من أمي لقضاء فترة الصيف في الدكان، وتعلّم شيء مفيد من السوق بدل التسكّع مع أصدقاء السوء.. لكن لم أخرج من السوق إلا بفائدة واحدة. كان الزبون يدخل ويشم البضائع كأنه كلب جمركي، ويسأل العامل عن سعر هذا الحذاء الرياضي، ومكان صنع هذا الحذاء النسائي. ومع كثرة الأسئلة يفرك العامل يديه، فالزبون يتكلم مثل تجار البازار، ولابد أن صفقة كبيرة في الطريق، بينما أبي يجلس على كرسيه هادئاً ينظر إلى الخارج. أثناء ذلك يلمح الزبون نعال «زنوبة» أخضر اللون، فيحمله ويتحسسه ويطويه أكثر من مرة، ثم يلقيه أرضاً ويلبسه، وحين يطمئن له قلبه، يرفعه في وجه العامل ويقول: آخر كم؟ فيقول: أربعة دراهم، وبعد مفاصلة ومص دماء تصبح ثلاثة دراهم، فيقول بامتعاض: أريد زنوبة حمراء واحدة بمقاس كذا. توضع الزنوبة الحمراء أمامه فيقول: كم سنة ضمان؟ ثم يلبسها ويطلب كيساً لزنوبته القديمة، ثم يقف أمام أبي ويبحث في جيوبه عن المبلغ الإجمالي، فيستخرج درهمين ونصف يضعها على الطاولة ويهم بالمغادرة، فيقول له العامل: أين الباقي؟ وبعد قيل، يستخرج نصف درهم وهو يقول: أنتم معاشر التجار تحبون المال حباً جماً. هكذا كان الكثير من زبائن دكان أبي، يمتصون دماء العمال ويحرقون أعصابهم، ورغم أن أبي لم يكن يتدخل إلا أنه بالطبع كان يحوقل في صدره، وأنا أراقب ما يجري كأنّ تحتي جمر ومخي يغلي في رأسي. وفي طريق العودة كنت أحاول أن أشعل الفتنة بين أبي وزبائنه، لكنه كان يهوّن الأمر ويعده من أخلاق السوق. وأحاول اليوم قدر الإمكان ألا أكون زبوناً زنوبياً، فالحلاق ينتهي من لحيتي ولا يزال زميله واقفاً على شارب زبون زنوبي وهو يقول له: انتبه لهذه الشعرة، وإياك أن تلمس هذه، لأنها ذكرى من شخص عزيز. وتصل سيارتي إلى قسم التنشيف في محطة الغسيل، وبعد قليل انطلق بها بينما سيارة الزبون الزنوبي لا تزال في مكانها، وهو يصيح في العمال، طالباً منهم المسح عليها بعطف شديد كأنها هيكل ديناصور أثري. وفي المقهى، أطلب من جديد حتى لو امتلأ بطني، فليس من المعقول أن أحجز طاولة طويلة عريضة لعدة ساعات من أجل كوب شاي واحد، فكل شبر في المقهى يكلّف صاحبه مبلغاً من المال كرسوم حكومية وإيجار وكهرباء وأجور. أفعل ذلك لأنني أتخيلهم أبي، وأعرف أنني لم أستفد من السوق إلا أن لا أكون متسوقاً زنوبياً، وهذا من أهم ما تعلمته في حياتي. أحمد أميري
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©