الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

رجال في حياتي

رجال في حياتي
14 مارس 2013 21:41
نورا محمد (القاهرة) - كنت في الثامنة من عمري عندما عادت بي أمي إلى بيت جدي أي أبيها، بعد أن تم طلاقها من أبي، أتذكر بقوة كثيراً مما كان يحدث بينهما، الحياة كلها مشاجرات ليل نهار، أنكر الأصوات هو الذي يسيطر على طريقة التفاهم التي لم تكن أبداً هادئة ولا بالحوار الذي كان مفقوداً تماماً، الخوف يملأني من الداخل والرعب يحيط بي من الخارج ولكنني أتماسك وأنا أرتعد وأتحاشى أن تلتقي عيناي بعيني أبي، لأن يده إذا وصلت إليَّ، فإنه لا يتورع أن يلقي بي جانباً غير مبال بما يمكن أن أتعرض له من أذى. أتذكر أيضاً أن الرجل الذي لا يستحق أن أقول إنه أبي كان ينام النهار ويسهر الليل خارج البيت، ويطالب أمي بأن تنفق عليه كأنها هي الرجل وهو المرأة، وهي تعمل هنا وهناك فيما تعرف وما لا تعرف من أجل توفير لقمة العيش، بينما هو يريد المال لينفق على ملذاته وسهراته مع أصدقاء السوء الذين هم على شاكلته، وضاقت أمي به واشتكت كثيراً لجدي الذي كان في كل مرة يطلب منها أن تصبر لعلَّ وعسى أن يصلح الله حاله، ويشتد عليها الأمر فتعود مرات ومرات ولا تجد إلا نفس الرد والجواب، وصلت إلى النهاية، ومرحلة عدم القدرة على تحمل المزيد، خاصة وأن جدي جاء به وواجهه كثيراً وفي كل مرة يُعلن أسفه، ويعد بأن يكون على قدر المسؤولية ويعود إلى عمله الحرفي الذي تركه. وصلت الأمور إلى طريق مسدود، لم تعد أمي قادرة حتى على سماع كلمات التذرع بالصبر، ولم يعد لها معنى أو قيمة، ولم يكن أمامها بديل غير الطلاق ولم تحصل على أي شيء من حقوقها فأبي صفر اليدين لا يملك درهماً ولا ديناراً ولا عقاراً، وفوق ذلك اشترط عليها أن تتولى تربيتي أي بمعنى آخر تنازل عني، بينما أمي من جانبها كانت تصر في كل الأحوال على أن أكون معها وبجانبها ولن تتركني مهما كانت الظروف، وأنا أيضاً لا أريد أبداً أن أكون مع أبي، وبقدر حزن أمي على ما تعرضت له ولقيته في حياتها بقدر سعادتي أنني سأبتعد عن هذا البيت وهذا الرجل. في بيت جدي كانت الأمور أحسن حالاً ولو قليلاً، الجميع يعطفون عليَّ كل بقدر ما يستطيع، فرغم أن أبي على قيد الحياة، لكنني كنت أسمع همسهم وهم يعتبرونني يتيمة بلا أب، وإن كانت الحياة هنا ليست رغدة ولا أجد بعض ما يريده الأطفال ويتمنونه، لكن تخلصت من الشجار والنكد اليومي وهذا وحده يكفي، أذهب إلى المدرسة بلا ساندويتش أو مصروف، فقد كنت في الصف الثاني وأتعلم لأحصل على شهادة، ثم وظيفة حتى أتجنب ما تعرضت له أمي ودائماً تذكرني بظروفها وما يحدث لها وتجعله دافعاً لي. حتى هذا الاستقرار مع صعوبة الحياة لم يدم فبعد عامين، توفي جدي - رحمه الله - وتغيرت الدنيا وانقلبت على وجهها القبيح الآخر بشكل جديد، فقد نشبت خلافات بين أمي وخالي، لا على ميراث ولا مال، فجدي هو الآخر لم يكن ثرياً ولا صاحب أملاك، ولم تكن وراءه تركة يمكن النزاع عليها أو الطمع فيها، هي فقط هذا البيت القديم الذي يقيم فيه الجميع، وخالي يريده لنفسه وأولاده ويراه قد ضاق بنا وعليها أن تحملني وترحل إلى حال سبيلها ولا يهم إلى أين، لكنها لم تجد مفراً ولا مأوى بأي شكل، مع أنها تعمل خادمة في البيوت من أجل أن تنفق عليَّ وعلى نفسها ولا تمد يدها لأحد ولا تطلب من أخيها شيئاً. لم يعدم خالي حيلة كي يطرد أمي بشكل مقبول، وفاجأ الجميع بأنه وافق على زواجها من رجل يعرفه، وأنهى الاتفاقات التي لم تزد على أن العريس يكبرها بخمس عشرة سنة ومتزوج من امرأتين وله خمسة أبناء في أعمار مختلفة أكبرهم يقارب أمي في السن، بالطبع رفضت هذه الزيجة التي هي أقرب إلى التهلكة، ولا ميزة فيها على الإطلاق، ومع ذلك وجدت لوماً كثيراً على هذا الرفض، وهناك من يدفعها دفعاً للقبول والموافقة باعتبار أنه تاجر ويستطيع أن ينفق على بيوته الثلاثة وأنها ستتخلص من العمل في البيوت وتعيش تحت ظل رجل يحميها، ولابد ألا تضيع عمرها والسنون تجري، وها هي في السابعة والعشرين من عمرها، وقد لا تأتيها الفرصة مرة أخرى، خاصة وهي مطلقة ومعها طفلة، وبالتالي لن يكون مرغوباً فيها، وتحت الضغوط الكبيرة وافقت على مضض، وانتقلت إلى بيت زوجها وبعد أسبوعين لحقت بها حسب الاتفاق الذي كان معه فقد اشترطت عليه أن أكون معها. تأفف الرجل من وجودي رافضاً أن يتحمل مسؤوليتي، بعد مرور شهرين من الزواج، وأعلنها صراحة أن على أمي أن تبحث عن حل، فهو ليس مستعداً لتحمل أبناء الآخرين ولا تربيتهم، خاصة وأن أبي حي يرزق، وتوجهت أمي إلى أبي تطالبه بالإنفاق عليَّ وتحمل مصروفاتي الدراسية، فأدار لها ظهره وتجاهلها ولم يسمح لها بأن تكمل الحوار رافضاً حتى أن يسمعها، وهمهم بكلمات غير مفهومة يمكن أن يستنبط منها أنه لا يريد أن يرانا مرة أخرى ولا يسمح بالنقاش في هذا الموضوع وأن على أمي أن تتحمل وحدها كل شؤوني. لم تجد المسكينة غير العودة إلى العمل مرة أخرى، وقد تحجرت الدموع في عينيها أو هكذا أراها، تحاول ألا تجعلني أشعر بالمأساة التي تعيشها، لكنني كبرت واقتربت من الخامسة عشرة وأدرك كل شيء يدور حولي، فلم يكن لي أي مطالب وأحاول قدر استطاعتي ألا أجعلها تتحمل غير الطعام والملابس الضرورية لستر الجسد، وحتى هذا لم يرض زوج أمي الذي أعلن تمرده عليها متسائلاً وماذا يستفيد من عملها إذا كان عائده يذهب إلى ابنتها؟ بل وقالها صراحة إنها يجب أن تتحمل مسؤولية نفسها أيضاً طالما أنها تعمل، وارتضى على نفسه أن يمارس عليها ضغوطاً ليحصل على بعض ما تكسب بعرقها وهو في غير حاجة إليه، ليس إلا لأنه يشعر بضعفها وقلة حيلتها، وأنها ستضطر للقبول بشروطه وأوامره. لم تكن أمي ضعيفة إلى هذا القدر الذي تخيله، وليس مثلها التي تقبل الضغوط، فرفضت كل شروطه ووضعته أمام مسؤولياته، وأنها عليها فقط أن تنفق على ابنتها، وكانت صلبة قوية، واجهته وليس عندها ما تخشى ضياعه أو خسارته، وفي النهاية لم يقبل وطلقها في لحظة بلا مقدمات، وقد وجدت عندها ارتياحاً من ذلك وعبرت عنه بحالة مشوبة من الحزن والسعادة، مختلطة بالألم والخلاص من هذا الجبل الثقيل الذي كان يجثم عليها، لكن ما كان ينتظرنا أكثر سوءا، وقد جربناه من قبل وليس غريباً علينا، إننا سنعود إلى بيت خالي، أجد أنني السبب في عذاب أمي كله لأنها تتحمل هذا العبء من أجلي ولولا وجودي في هذه الدنيا ما كانت تلك حالها، وأنا عاجزة عن فعل أي شيء وليس بيدي ما يمكن أن أفعله غير أن اجتهد في دراستي وانتقل من عام إلى عام واقترب من الحصول على شهادة متوسطة. تكررت المآسي في بيت خالي سريعاً ولم يعد أحد يحتمل مجرد وجودنا ولا رؤية وجهينا رغم أننا نقبع في غرفة جانبية ولا نختلط بهم ولا يتحملون من أمرنا أي شيء ولا يعرفون كيف نعيش، حتى جاء خالي بعريس لأمي، لكنه مختلف هذه المرة، لم يسبق له الزواج ويوافق على أن نعيش ثلاثتنا معا وأننا سنكون أسرة صغيرة متحابة، ولم تكن أمي راغبة في تكرار تجارب الزيجات الفاشلة ولا راغبة في الزواج ولا الرجال أصلاً، ولكن كما أقنعوها في المرة السابقة بالضغوط والترهيب والترغيب، حدث ذلك مرة أخرى لتدخل تجربتها الثالثة. هذا الأخير يرى نفسه شهريار يأمر فيطاع، يريد أن يجعل منا خادمتين تحت قدميه، لكن أمي رفضت أن أنشغل عن دراستي بأي شكل، وهي بصفتها زوجته ستقوم بخدمته وتلبية كل مطالبه، بينما هو كان يلمح إلى شيء آخر يريد أن يجعلني أترك البيت، يراني عبئاً عليه رغم أن أمي ما زالت تعمل وتتكفل بكل نفقاتي، ويرى من ناحية ثانية أنه الأحق بعائد عملها لأن الوقت المستقطع للعمل من حقه هو، ودارت الأيام دورتها وأعادت الأحداث نفسها، وتكررت المأساة وعدنا إلى نقطة الصفر، المشاكل هي نفسها الخلاف واحد، المشهد يضم فتاة غير مرغوب في وجودها من زوج أمها وامرأة مغلوبة على أمرها بلا حيلة، وزوج طماع كسول يعتمد على النساء، والنتيجة أيضاً هي ذاتها الطلاق. انتهيت من دراستي والتحقت بعمل في مصنع للملابس الجاهزة، واستأجرت أنا وأمي شقة صغيرة مستقلة، غرفة وصالة، لكننا كنا نراها كأنها قصر، يكفي أننا لسنا في حاجة لأحد ولا يعكر صفونا رجل غريب ولا قريب، وبالطبع تحسنت حالنا قليلاً، أمي ما زالت مصرة على العمل بحجة أنها تريد أن تدخر لي مبلغاً من المال يساعد في مصروفات زواجي فيما بعد والذي ربما يكون قريباً وقد يحدث في أي وقت ويجب أن نكون مستعدين له، ومن جانبي أرفض وأريدها أن تستريح بعد كل هذا العناء، وأحاول أن أقنعها بذلك، لكنها متمسكة بموقفها وترى أن متاعب الحياة لا تتوقف ولابد من استمرار العمل. كان ذلك كله في إطار الدردشة لا الاختلاف، وحدث ما كانت تقوله أمي وجاء شاب في مثل ظروفي ليطلب يدي، وبدلاً من الفرحة كانت صدمة لي وأنا أسترجع ما حدث لأمي من وراء الزواج، وكل رجل في فترة الخطوبة يبدو كأنه حمل وديع، ثم يظهر على حقيقته بأنه ذئب ماكر مخادع، لا أريد أن أكرر التجارب، لا أرى فروقاً بين الرجال فكلهم لا يستحقون وأولهم أبي، لن أقدم على التجربة وأنا كارهة لهم جميعاً، خاصة وأنني لا أريد أن أترك أمي ولن أستطيع أن أصطحبها معي في بيت زوجي، لكن ما يعذبني أنها تدفعني دفعاً للزواج وتبكي وترجوني أن أغير رأيي، بل وتكرر ما كان يقال لها بأن الرجال ليسوا متشابهين وأنها فرصة يجب ألا أضيعها.!!
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©