الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

قرن من السحر الماركيزي

قرن من السحر الماركيزي
15 مارس 2012
غابرييل غارسيا ماركيز، أو جابرييل جارسيا ماركيز، أو غابريال غارثيا ماركيث، لا تهم الطريقة التي يكتب بها الاسم؛ فالاسم أضحى أشهر من تلك النار العربية التي ما زالت تتوهج في رأس العلم. الغريب أن صاحب الاسم لم يسعَ أبداً إلى الشهرة بل هي التي خطبت ودّه وطرقت باب بيته حتى كلّت، فلما كلّت كلمها ماركيز بعد “مائة عام من الطرق”، ولم يفتح لها الباب كاملاً بل أبقاه موارباً بحيث يتحكم في الطريقة التي ينفرج بها، وعدد البشر الذين يلجون منه إلى عالمه... لكن السيدة “نوبل” رفضت رفضاً قاطعاً أن تترك الرجل وشأنه مع إبداعه... وبينما كان مشغولاً في البحث عن الضوء المبهر للكلمات اقتحمت عليه بابه، وسلطت عليه شلالاً من الضوء المبهر، من يومها، باتت كل صغيرة وكبيرة في حياته مشاعاً للكتاب وأنصافهم وطالبي الشهرة والمتسكعين وراء واقعيته السحرية الذين ظنوا أن دسّ “كَمْ” حدث غرائبي يمكنه أن يخلق رواية جيدة، متناسين أن (المعلم) ماركيز هو نفسه صاحب العبارة القائلة: “إن الموضوع الجيد لا يصنع بالضرورة رواية جيدة”. الدهشة إلى آخرها لا تنبع أهمية أعمال ماركيز الروائية من تلك الواقعية السحرية التي فتحت الدهشة على آخرها لتدهش بل تذهل القراء عبر العالم، وتستمطر سيلاً من الكتابات النقدية التي أخذت على عاتقها مهمة إضاءتها، خاصة ممن يتقنون الإسبانية التي يقال إن ماركيز تألق في استخدامها وحلق إلى مديات وفضاءات مذهلة، ولا تكمن أهمية أعماله في قدرتها على الاستئثار بعيون القارئ وتثبيتها على الصفحات، بل ومغازلة ذاكرته حتى بعد انتهاء القراءة... كما لا تنبع أهمية الروايات الماركيزية من ذلك الطيف الواسع من الشخصيات والأحداث والرؤى والأفكار والثراء التحليلي وما تنطوي عليه من تأملات فلسفية وانثيالات حلمية وتحليقات جوّانية تجعل من أعماق القارئ غمراً يضيء تحت قمر ليلة شتائية باكية... ليست تلك الأسباب فقط ما يصنع أهمية الرواية التي يكتبها ماركيز، بل أيضاً البهاء الإنساني الذي يميز هذا الرجل في مواقفه تجاه العالم والبشر والحضارة والإنسانية.. وعيه الشديد المرهف تجاه مخاطر مهلكة تتهدد العالم الذي يعاني احتباساً روحياً وثقباً في الضمير، وعيه النقدي تحديداً الذي جعله يقفز غير مرة مثل الملدوغ لكي يدين الظلم، وكأن المعذبين أهله وأقرباؤه وما تبقى من عائلته. إنه، بمعنى آخر، الاقتراب إلى حد التوحد من الناس “الغلابة” وهمومهم لكنه اقتراب لشدة صدقه وحميميته يأتي في صيغة فنية رائعة ولا يخسر جمالياته الإبداعية التي تجعل من كتابة ماركيز شيئاً يبرق، شيئاً يشبه المسح بالضوء على الأرواح المتعبة الأسيانة. في بلاط الأسطورة ذلك الاقتراب الصادق هو الذي جعلنا نحب روايات ماركيز، رغم أسمائها الأجنبية وأسماء أماكنها الصعبة... حفظنا سيرة عائلة بوينديا وقريته الخيالية التي تدعى (ماكوندو)، ومؤسسها خوسيه أركاديو بونديا، وزوجته أورسولا، والعقيد أورليانو، وشممنا معه رائحة الدم والبارود والجثث التي ذهبت في الحروب غير المبررة، ومذبحة مزارع الموز التي حدثت في 1928 (السنة التي ولد فيها ماركيز) والتي أحضرها هو من غياهب التاريخ بعد أن طمست تماماً. لقد أزال عنها العتمة وأخرجها هي الأخرى من عزلتها ووضعها تحت ضوء التوثيق غير الممل المتسلل في العمل أو الذائب في ثنايا الأحداث كما تذوب في الفم قطعة سكر. وبسبب صدقه صدقنا حتى أساطيره، أحببناها، الرجل الأفعى وبساط الريح، طيران ريميديوس الجميلة وارتفاعها في السماء، طيران أوسولا إلى السماء وهي تنشر الغسيل... وربما تمنينا لو أنها حقيقة. ومع كولونيله الوحيد، المنبوذ، العاطل عن الحياة بعد أن أدارت له السياسة ظهرها شعرنا بنوع من الحزن يفري أكبادنا على هذه الأوطان التي قدر لها أن تأكل أبناءها أو ترميهم إلى النسيان والموت البطيء... وهكذا في “وقائع موت معلن” و”خريف البطريرك” و”الحب في زمن الكوليرا” التي تحلق شخصياتها حول أسرّتنا بمجرد أن يذكر اسمها. عرفنا الغجر وحكاياهم ورأيناهم بعين أخرى من خلاله، وكم كانت خيباتنا قابعة هناك... في ثنايا سطوره. يدعونا ماركيز في رواياته إلى حفلة باذخة للاحتفاء بالخيال، للعيش على ضفاف الأساطير بل للدخول إلى بلاطها الملكي حيث يمكن رؤيتها تسير على ظهرها مثل سلحفاة أو ترقص مثل غجرية. ويخيل إليّ أن ماركيز حين يسير تتبعه وعول وحكايات ويسير ألق في إثره، وأن كائناته التي يمكن رؤية جلدها عبر الكلمات تتطاير من حوله. إذ يصعب كثيراً تصديق أن هذا النوع من الكتابة الأسطورية يأتي من الخيال فقط... وأن هذه القدرة على أسطرة الواقع هي بنت الخيال الجامح. ثمة تجارب حياتية عميقة نسجت شبكة وعيه الداخلي... ثمة حكايات وخرافات ومواقف وبشر وجدَّة بقيت هناك في روحه، وظلت تزوده بما يحتاجه من وقود روحي لكتابة مميزة. ولا يمكن لهذا الغنى الكاسح الذي ترفل فيه أعماله أن يأتي من فراغ، بل من أدغال معرفية ذرعها ماركيز طولاً وعرضاً، وقرأ تفاصيلها على قنديل حكمته الداخلية لكي يتغلغل إلى نبعها الإبداعي فيشرب منه يشرب ويشرب بلا ارتواء، ويعطينا أعمالاً حافلة بالإبداع لنقرأ.. ونقرأ.. ونقرأ... بلا ارتواء. لسان صدق أيضاً، من هذه الاقترابات التي لا تغادر عقل ولا قلب أي قارئ عربي موقفه من الاحتلال الصهيوني للأراضي الفلسطينية وممارساته تجاه الفلسطينيين، وهو الموقف الذي لا يجعل من ماركيز حليفاً من طراز استثنائي، بل من طراز خرافي، ذلك الطراز الذي يصعب أن يتكرر خاصة على مستوى الإبداع الذي يخاف أصحابه على ما قد يجره موقف كهذا من متاعب. وحده ماركيز يملك أن يقف مثل “دون كيشوت” ليناطح طواحين الرواية الصهيونية الكاذبة، الرواية التي تمثل خطاً أحمر لا ينبغي التوقف عنده فما بالك بتجاوزه، يفعل ذلك بقلب زاخر باليقين، بإيمان بضرورة العدل، بشعور مهيب بالاكتفاء إلى الحد الذي يدفعه إلى التخلي عن أرفع جائزة في العالم لأنها منحت لقاتل. يقول ماركيز في بيان الإدانة الشهير للمجازر التي يرتكبها الصهاينة: “صادف أن كنت في باريس، عندما ارتكب شارون ـ بغطاء من جائزة نوبل للسلام تلك التي مُنحت لرابين والسادات ـ مجازر صبرا وشاتيلا التي قتل خلالها ما يقرب من 30 ألف فلسطيني لبناني. وصادف أيضا أن كنت في باريس عندما فرض الجنرال ياروزيلسكي سلطة العسكر ضد إرادة الأغلبية من شعب بولندا. أصابت الأزمة البولندية أوروبا بصدمة جعلتها تترنح من الغضب. وقمت شخصيا بالتوقيع على عدد كبير من البيانات التي تندد باغتيال الحرية في بولندا، وشاركت في الاحتفالية التي أقيمت تكريما لبطولة الشعب البولندي بمسرح (بير ادى بار) تحت رعاية وزارة الثقافة الفرنسية. وعلى العكس من ذلك تماما ساد نوع من الصمت الرهيب عندما اجتاحت القوات الشارونية لبنان. علما أن أعداد القتلى أو المشردين هناك لا تسمح بأي مقارنة مع ما حدث في بولندا.. لا أدري، هل يدرك هؤلاء أنهم بهذه الصورة يبيعون أرواحهم في مواجهة ابتزاز رخيص لا يمكن التصدي له بالاحتقار؟ لا أحد عانى في الحقيقة كالشعب الفلسطيني. فإلى متى نظل بلا ألسنة؟ إنني لم أجد من يومها من يدعوني إلى احتفال ببطولة الشعب الفلسطيني في أي مسرح تحت رعاية أي وزارة”! ويضيف: “هذا ما يدفعني الآن إلى التوقيع على “البيان” بشكل منفرد، وأن أعلن عن اشمئزازي من المجازر التي ترتكبها يوميا المدرسة الصهيونية الحديثة. إنني أطالب بترشيح أرييل شارون لجائزة نوبل في القتل. سامحوني إذا قلت أيضا إنني أخجل من ارتباط اسمي بجائزة نوبل. ومن ثم أعلن عن تقديري غير المحدود لبطولة الشعب الفلسطيني الذي يقاوم الإبادة على الرغم من إنكار “القوة العظمى” أو “المثقفين الجبناء” أو “وسائل الإعلام” أو حتى “بعض العرب” لوجوده”. “غابو” كما يحب أصدقاءه أن ينادوه، وكما تتداول اسمه الصحف الأجنبية، لم يرف له قلم وهو يوقع على بيان يناصر الفلسطينيين ويدين الكيان الصهيوني بل ويدين نوبل لأنها كانت غطاء لقتل الفلسطينيين... وقع ماركيز على بيانه الشهير متخلياً عن جائزة نوبل للآداب التي نالها عام 1982، منتصراً لضميره الحي ضارباً عرض الحائط بكل المنافع التي يمكن أن يحققها له الصمت، مستقبلاً بقلب مطمئن ما سيجلبه عليه من أعاصير تمكن إبداعه الحقيقي والصميمي من الصمود في وجهها... وقلًّ من يصمد. كثيرة هي المدائح التي أزجيت لرائعته “مئة عام من العزلة” لكن أهمها جاء من علم أعلام الشعراء الثائرين الشاعر بابلو نيرودا الذي وصفها بأنها “أعظم نص كتب باللغة الإسبانية منذ “دون كيشوت”. وبمناسبة نيرودا، فلم تكن أميركا اللاتينية بالنسبة لنا قبل ماركيز ورفاقه سوى كوبا وتشي جيفارا... وها هي شهادته تضيء مرة أخرى تلك القارة المنسية التي كتب ماركيز شهادة ميلاد روايتها... فلا غرو إذن أن يدهشك إبداعه، يشتّتك، يشظيك، ثم يعيدك إلى ذاتك، مختلفاً في نظرتك لما قرأت ولما ستقرأ من روايات.. وليس في الأمر أي مبالغة إذا ما قلت إنني، شخصياً، ظللت لفترة أقيس أي عمل روائي أقرأه مع روايتيه: “مئة عام من العزلة” و”خريف البطريرك” التي ما إن تنتهي منها حتى تتمنى لو كان هذا الـ ماركيز بقربك لكي تقبل أصابعه الماكرة والماهرة على ما أبدعت وصاغت ورصَّعت.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©