السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

هي.. تعقل وتريد

هي.. تعقل وتريد
15 مارس 2012
“مضت الأجيال عندنا والمرأة خاضعة لحكم القوة مغلوبة لسلطان الاستبداد من الرجل، وهو لم يشأ أن يتخذها إلا لخدمته مسيرا بإرادته. بحيث آل أمرها إلى العجز.. وعذرها أنها ليست حرة. وإنما فقدت الحرية”. قاسم أمين: تحرير المرأة يؤشر مشروع قاسم أمين بصدد وضع المرأة عند عتبة النهضة والإحياء إلى امتزاج الهدف الاجتماعي بالوطني برابط التجديد ونفض التقليد عن الحياة العربية التي بدأت تشهد مخاض التغير، وكتابه “تحرير المرأة” 1899 إسهام مهم سيواصله لاحقا في “المرأة الجديدة” 1901. وتقارب زمن الإصدارين يوضح انصراف قاسم امين لأطروحته رغم أن كثيرا من افكاره في “تحرير المرأة” سيتكرر في “المرأة الجديدة”. وبحساب التوجهات والمقاصد يعد قاسم أمين مصلحا إجتماعيا ونصير امرأة متحمسا، لكنه في القراءة الاستعادية يمثل مظهرا للحظة التنوير العربية التي تستمد حيويتها من التجديد المنهجي في المقام الأول. وهو شبيه بما سيرد في عمل طه حسين والتنويريين العرب الذين أفادوا من الصلة بالغرب عبر الدراسة واجتلاب المنهجيات المعاصرة ليسقطوها على مناحي الحياة الثقافية والاجتماعية والسياسية، كالدعوة لإحياء الأدب وتحديث دراسته، والدعوات للاستقلال والتحرر من الاستعمار، وتحرير المجتمع من التخلف والجهل ومظاهرهما التي تعد المرأة إحدى أبرز حقوله وميادينه. انحطاط وارتقاء إن الوعي المتقدم لقاسم أمين ورصانة تفكيره وتحصيله الثقافي والعلمي في مصر وفرنسا، وعمله في القضاء سيتجسد في عقلانية محاججته في مجال المنافحة عن حق المرأة في الحياة الكريمة. وهو ما يدل عليه عنوان كتابه، فالتحرير مهمة خطيرة يربطها قاسم أمين لا بالأوطان وانطلاقها من المستعمر بل بالمرأة التي يراها سجينة أو مستعبدة وكأنه بذلك يعيد صيحات الداعيات النسويات في أوروبا وأميركا اللاتي وصفن وضع المرأة حينها بالشعوب المحتلة وبالهنود الحمر والسود في التراتب الاجتماعي، وطالبن بتحريرها من العبودية. ولا شك أن دعوته كان منتظرا لها ما قوبلت به من رفض ونقد وهجوم وصل حد دخول السياسيين المحسوبين على الحركة الوطنية في ذلك ـ نشير هنا إلى رد مصطفى كامل مثلا وربطه دعوة قاسم أمين بأهداف المستعمرين الإنجليز ـ رغم صلات قاسم أمين بأعلام النهضة والتنوير كجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وسعد زغلول، لكن الصدمة التي مثلها كتابه لم تكن هينة على العقول التي تجتر ما تحسب أنه قيم موروثة وتقاليد مقدسة يجب مراعاتها، ومن أبرزها اعتبار المرأة كائنا ثانويا فاقدا الأهلية والقدرة على الحياة دون هيمنة الرجل ووصايته. وانطلاق قاسم أمين من محركات وطنية أعطى لدعوته قوة مضافة؛ فهو يؤسس دعوته لتحرير المرأة المصرية ـ والعربية بالضرورة ـ على أهمية ذلك للأمم؛ فيربط نهوضها بارتقاء المرأة وانحطاط الامم بانحطاطها. ويكرر هذه النواة الفكرية ذات الدلالة في أكثر من موضع في كتابه كما في “المرأة الجديدة” لأن ما ذهب إليه أصلٌ “يؤيده الاختبار التاريخي من التلازم بين انحطاط المرأة وانحطاط الأمة وتوحشها، وبين ارتقاء المرأة وتقدم الأمة ومدنيتها”، وهو افتراض يشيع بين المجددين ونصيري المرأة والمطالبين بحريتها. ويؤكد في موضع آخر “ان انحطاط مرتبة المرأة هو أهم مانع يقف في سبيلنا ليصدنا عن التقدم”. ويعد ارتقاء المرأة عاملا مهما في ارتقاء الأمم وانحطاطها عاملا في انحطاط الأمم. ولحسن حال الأمة لا بد من أن تحسن حال المرأة. جدل ومراجعات وثمة مشغّل آخر يتحكم في دعوة قاسم أمين ذي جانب ثقافي أيضا ويؤطر المنهج عامة لا الدعوة وحدها، وهو اعتقاد الكاتب بأن الصدام مع الثوابت ضروري لإثارة (الجدل) الذي يعده ظاهرة صحية لم تخلُ منه سيرورة الفكر في مختلف الأمم التي كان تاريخها مملوءاً “بالمناقشات والجدل والحروب التي قامت في سبيل استعلاء فكر على فكر..”، وهذا العراك والحراك الملخص في الجدل والمناقشات سيؤدي إلى إقلاق الثوابت وتحريكها كضرورة من ضرورات التطور. وهو ما يشجع على مراجعة وضع المرأة وحقوقها في المجتمع الذي عليه أن ينصت للجدل والحِجاج حول هذه المسألة. وهذا أصل ثان في منهجية دعوة قاسم أمين وممهداتها النظرية، بعد ربطه تقدم الأمم بتقدم المرأة. فهو يرفض السكينة التي يرى أنه “لم يركن إلى حبها إلا أقوام على شاكلتنا”، ويقرنها بالكسل الذي يؤدي إلى معاداة كل فكر صالح يعدونه حديثا غير مألوف. ويستطرد قاسم أمين في بيان دوافعه الجدلية؛ فيصارح القارئ بأن ما قدمه من رأي في تحرير المرأة (بدعة) لكن ليس في الإسلام كي لا يعد ضالاً! وإنما في العوائد وطرق المعاملة. ولكن ما العادة التي يبتدع فيها ويرفضها؟ إنها عنده “عبارة عن اصطلاح أمة على سلوك طريق خاصة في معيشتهم ومعاملاتهم حسب ما يناسب الزمان والمكان”، لذا يكون لها سلطان قد يغلب في نفوذه في النفوس ما للدين والقانون من أحكام. وذلك ما انعكس في الموقف من المرأة وتجلى في معاملتها والنظر إليها، ودعا الكاتب لإطلاق ندائه المعزز بالجدل والنقاش. عن الغاضبين الحيثيات التي ساقها قاسم أمين في كتابه ليست صادرة عن تجديف أو كفر كما صورها الغاضبون على دعوته ومتهموه بهدم ثوابت المجتمع أو خدمة الغرب الاستعماري، وهي حيثيات تستند إلى أصل واضح خلاصته كما يرى قاسم امين أن ما يلحق بالمرأة من حيف متجسد في أمور الزواج والطلاق والحجاب والتعليم والعمل إنما هي خارجة عن تعاليم الإسلام الصحيح لا كما يفهمه المتخلفون والمتحجرون. ويأتي دوما بالأسانيد المؤيدة لدعوته من المسلمات الدينية والمدونات كالقرآن والحديث والسنة النبوية أو ما جرى للمسلمين في حياتهم. وهذا الموقف المحيل إلى الإسلام كمرجع ـ رغم انه ينقض ظاهريا بعض ثوابته كحق المسلم في تعدد الزوجات والطلاق ـ يوازيه موقف آخر هو التحفظ الذي يرد في الكتاب بصدد الحجاب والاختلاط وبعض العادات العصرية؛ فقاسم أمين ينفي أنه يريد رفع الحجاب الكامل أو يرضى بالاختلاط المشوب بالابتذال، وذلك يناسب شخصيته كقاض رصين وذي موقع في الهيئة الاجتماعية. فهو يرى أن الحجاب وسواه من مظاهر حجر المرأة وتقييدها تتعارض وتعاليم الإسلام في مصادره الأولى، وكثيرا ما اتهم المتشددين من الرجال بمخالفة الشريعة، لكنه ينطلق من ذلك للمطالبة بإنصاف المرأة لاسيما في التعليم الذي يرى أنه شرط لبناء شخصيتها وممارسة دورها في المجتمع. وكخبير في الطبائع ومفكر اجتماعي وطني يستقصي قاسم امين الصور النمطية عن المرأة، كالقول بأنها ناقصة عقل ضعيفة، فيُرجع ذلك إلى حرمانها من ممارسة دورها في المجتمع وإظهار شخصيتها، فتتعثر وتبدو قراراتها واختياراتها مختلة. وكذلك القول بأن المرأة لا تصلح للعمل والتعلم، فيرد الكاتب بأن هذا ليس سببا لاحتقارها بل هو نتيحة حرمانها من التعليم والثقافة والعلم. وينتقد معاملة الرجل لها أبا أو زوجا أو أخا، فهو يعزلها داخل البيت ويزيد من عزلتها بحرمانها من حقوقها داخله أيضا. وذلك كله يخالف الأصل الديني في رأي قاسم امين. خطة الكتاب يتسلسل جدل قاسم امين من أجل أطروحته حول تحرير المرأة بشكل منهجي، فيبدأ بالمطالبة بتربية المرأة لتقوم بوظيفتها، وذلك يبدأ منذ الصغر، ويتعضد بتعليمها تعليما كافيا أسوة بالرجل، فيما ينتقد قاسم أمين تعامل الأسر مع المرأة وحرمانها من التعليم الكافي لصيانتها وتربيتها بشكل سليم. ويناقش هنا جانبين هما الوظيفة الاجتماعية والعائلية. وخلاصة مبحثه أن “تربية العقل والأخلاق تصون المرأة ولا يصونها الجهل”، ثم ينتقل لمناقشة الحجاب مناقشة جريئة ومستفيضة؛ فيورد حجج مناصريه ويفندها ليثبت أن الحجاب مخالفة للإسلام. وقد ورد مع الشعوب التي دخلت الإسلام من بعد، كما أنه ليس شرطا لإثبات استقامة المرأة لكن مضاره تصل إلى صحة المرأة وشخصيتها كما أنه قد يكون دافعا للفتن عكس ما يتوهم مناصروه. وهو عادة عرفتها شعوب كثيرة لكنها تخلصت منه لأن الدين لا يقره وكذلك الحياة الاجتماعية. ويضرب لضرره أمثلة عملية من عمله في القانون والقضاء، كتعذر حصول المرأة على حقوقها بسبب حجرها وحجابها، وكذلك حرمانها من متابعة عقودها ومعاملاتها. ويلمس نقطة جمالية مهمة هي أن الحجاب والنقاب والبرقع كلها تدعو للفتنة؛ لأنها تسمح برؤية أجزاء دون سواها، فتظهر المحاسن وتخفي العيوب؛ فتدفع الناظر لاكتشاف ما لم يظهر، وهذا يدفع للفتنة أكثر مما يثيرها الوجه المكشوف. ويرد على القائلين بضرورة الحجاب للمرأة اتقاء الخطر القادم من الغرب، وهو يقر بوجوده، لكنه لا يرى ان الحل في العودة للحجاب إنما بما يسميه تهذيب العقل ورقة الشعور. وفي اكثر النقاط حرجا يناقش قاسم امين الزواج وحرمان الرجل والمرأة من رؤية كل منهما للآخر عند طلب الاقتران. وكذلك فرض الأسرة الزوج على المرأة، ومصادرة حقها في اختياره أو القبول به ورؤيته للحكم على مدى مناسبته لها. وكذلك يناقش الطلاق الذي يرى أنه وإن سمح به الدين لكنه يخضع لضوابط وشروط وليس بالكيفية السائدة حيث يتخذ الرجل القرار بكلمة يلفظها ولأتفه الأسباب، ويدعو بدل ذلك ان تُعطى المرأة حق التطليق لما تعانيه من تعسف الرجل بها. ويرفض الكاتب مبدأ تعدد الزوجات كما يفهمه العامة، ويرى أنه مقيد بشروط لا يمكن توفرها، وممارسته تهين كرامة المرأة، ولا تكفي إباحته المشروطه لإتيانه في عصرنا. وفي ختام كتابه يقدم الكاتب وصفة مزدوجة قوامها التقدم بالعلم الضروري للنهضة، والعزيمة المتفرعة عن إرادته والعمل به. ولا يكفي التمسك بالماضي سببا في حرمان المرأة من حريتها. فالارتهان بالماضي لا يعود الا بالخيبة والتأخر وخسران المستقبل ايضا لا الحاضر فحسب!
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©