الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

بعيدا عن وكلاء الفكر

بعيدا عن وكلاء الفكر
15 مارس 2012
في كتابه الجديد “الأنسنة والتأويل في فكر محمد أركون” الصادر عن منشورات الاختلاف، يتحدث لمؤلف كيحل مصطفى عن تصدر المشاريع الفكرية حقل البحث الفلسفي العربي في العقود الأخيرة من القرن الماضي، حيث بدأت بذلك تزاحم المذاهب الفلسفية بالمعنى الحرفي والملتزم، وتدفعها إلى التراجع إلى الخلف. وفي هذا الصدد يقول المؤلف: لم يعد أقطاب الفكر الفلسفي العربي المعاصر وكلاء على مذاهب فلسفية بعينها، وتيارات تابعة للفكر الغربي، من قبيل الوضعية، والشخصانية، والوجودية، والماركسية... الخ، أي أنهم لم يعد هاجسهم هو إعادة إنتاج فلسفة هذا التيار أو ذلك بشكل تام. وإنما أصبحوا يقدمون أنفسهم على أنهم أصحاب مشاريع فكرية فلسفية وسياسية وحضارية، يحضر فيها تاريخ الفكر الغربي كمفاهيم ومقولات، وهي مشاريع من شأنها أن تخلص الفكر العربي من كبوته، وأن تنقذ المجتمعات العربية من تخلفها الحضاري، وتحقق مشاريع النهضة والحداثة. برنامج شامل ويبين هذا المنحى بقوله: لعل من بين أهم هذه المشاريع الفكرية والفلسفية، مشاريع العقلانية النقدية، أو مشاريع “نقد العقل”، سواء “نقد العقل العربي” أو “نقد العقل الإسلامي” أو “نقد العقل الغربي”...الخ. لأنها تتفق جميعها في كونها تركز على نقد أسس العقل المنتج للفكر والثقافة والحداثة، هدفها هو الكشف عن الشروط والإمكانيات التاريخية والمنطقية واللغوية التي تحكم المعرفة، من منظور نظام المعرفة عند فوكو أي معرفة المنطلقات التي حكمت تكون المعارف والنظريات، والخلفيات التاريخية لهذه المعارف وكيف تمكنت أفكار من الظهور، وعلوم من التكون... أي الاهتمام بتاريخ شروط إمكانية المعرفة والدارس للفكر العربي يلاحظ أنه بعد العقلانية العلمية التي ربطت النهضة بالعلم التجريبي والطبيعي وبعد العقلانية الليبرالية السياسية، جاءت العقلانية النقدية، التي تقرن النهوض الحضاري بضرورة “نقد العقل” أي تفكيك بنيته، وتحليل مسلماته وبداهاته، واستنطاق صياغاته وتعبيراته، بهدف معرفة كيفية اشتغاله، وطريقة إنتاجه للمعنى والحقيقة وتاريخية تكونه، وقطائعه، والتماس حدوده وتناهيه. وعند تناوله لموضوع الكتاب أي المفكر المغربي محمد أركون، يقول المؤلف: في هذا السياق يندرج مشروع محمد أركون، في برنامج نقدي شامل، يدرس شروط صلاحية كل المعارف التي أنتجها العقل الإسلامي، وهو مشروع ينخرط ابستمولوجيا في العمق، كما أنه مشروع ضخم، لا يستطيع فرد أن ينجزه لوحده، بل إن كل خط من خطوط المشروع يحتاج إلى مؤسسات بحث علمية، وفريق كبير من المؤرخين واللسانيين والأنتربولوجيين، وعلماء الاجتماع، وعلماء النفس، والاقتصاد... الخ. ويبدو مطلعاً على الفكر النقدي الغربي ومتحكماً في مفاهيمه ومصطلحاته ومتابعاً لتياراته ومذاهبه خاصة في النصف الثاني من القرن الماضي، حيث نجد نصوصه غنية بالإحالات إلى الكتب والأجهزة المفاهيمية والمصطلحية للعلوم الإنسانية والاجتماعية وتياراتها العلمية المختلفة. ويتابع: وفي الوقت نفسه يعمل على إيجاد المناهج السليمة لتطبيقها في الدراسات الإسلامية، ومقاربة العقل الإسلامي، أي أنه يصل الفكر الإسلامي بالطفرات المعرفية والنقدية الغربية، ويقدم دراسات تطبيقية يجرب فيها ويوظف أكبر قدر من الأدوات المنهجية، ويعمل بكثير من الشغف العلمي على وضع إستراتيجية كبرى لصياغة الأسئلة الجذرية والعميقة، فيطرح الأسئلة الراديكالية على التراث العربي الإسلامي، ويدعو إلى التحرير الفكري، من خلال طرح مشكلة المقدس بشكل تاريخي وانتربولوجي مقارن، بهدف تحديد العلاقة بين الحقيقة والوحي واللغة والتاريخ، كما لا يتوقف عن المقارنة بين الأنظمة الدينية لمعرفة آليات اشتغالها وميكانزماتها في الاستبعاد والإقصاء، وغرضه من كل ذلك هو التحرر من اللاهوت القروسطي، وتوليد لاهوت جديد ليبرالي إنساني، يستبعد المسلمات الدوغماتية ويؤسس للقيم الفلسفية النقدية المناهضة للوثوقية والكلية، ورد الاعتبار للعقل في صياغة الأسئلة بعيدا عن كل سبق تيولوجي. أما الإشكالية المركزية التي تشغل البحث عبر مداره فهي برأي المؤلف: إشكالية الأنسنة والتأويل، فإحلال الرؤية الإنسانية للعالم والإنسان، شرطها الأول هو تحرير عقل الإنسان وفتحه على التأويل الحر والمختلف، ففي الأنسنة يكون محور الاهتمام هو الإنسان، والإنسان الفرد الحر المتميز حيث تعتمد علاقة جديدة بين الإنسان والنص، والإنسان والعالم، تكون الأسبقية فيها للإنسان، أي أن الإنسان هو مرجعية ذاته، وهو الذي يؤول النص بعيدا عن كل محدداته القبلية، ويعيد تشكيل العالم بما يتناسب وإرادته الحرة. أبواب وفصول ينقسم الكتاب إلى ثلاثة أبواب، كل منها موزع على عدة فصول، أما الباب الأول فهو بعنوان: في مفهومي الأنسنة والتأويل، وأبرز فيه أهمية هذان المفهومان في مشروع أركون، وتضمن أربعة فصول. الفصل الأول: حول مفهوم الأنسنة، حيث تتبع نشأة المفهوم في اللغات الأجنبية واللغة العربية، سواء في الفكر الغربي أو الفكر العربي، وعمل على إظهار الدلالات التي انطوى عليها عبر التاريخ، وكيف ارتبط بحركات فكرية وفلسفية بعينها، ومن أهم خصائص الأنسنة روح الانفتاح، والعقلنة للظواهر الدينية، وتنمية الفضول العلمي والحسي النقدي، وظهور القيم الجمالية الجديدة، والإشكالات الفلسفية، كما حرص على إبراز أشكال الأنسنة كما حددها أركون. والفصل الثاني: حول مفهوم التأويل حيث توقف عند الدلالات المختلفة للتأويل اللغوية والفلسفية، وعلاقة التأويل بالفهم والتفسير والشرح والتفكيك..الخ، وذلك من خلال تتبع التأويل أو الهرمينوطيقا في الفكر الغربي والتعرض لأقطاب الفلسفة التأويلية أمثال غادامير، وماخر، وديلتي، وهيدغر، أمبرتوايكو، وبول ريكور.. الخ، وفي التراث العربي الإسلامي عند المعتزلة والفلاسفة والفقهاء وأخيرا في الفكر العربي المعاصر، وكيف يميز أركون بين الدائرة الهرمينوطيقية والحالة الهرمينوطيقية، ومحاولة معرفة نمط التأويل عند أركون وحدوده. أما الفصل الثالث: فدار حول عوائق الأنسنة كما يحددها أركون في الفكر العربي المعاصر وهي عوائق تكبح كل أنسنة جديدة، وأهم هذه العوائق هي الأرثوذكسية سواء الأرثوذكسية الدينية أو غيرها من الأرثوذكسيات الأخرى، لأن الأرثوذكسية هي الادعاء بامتلاك الحقيقة، والسياج الدوغماني أو الوثوقي، وسيطرة المفكر فيه على حساب اللامفكر فيه والمستحيل التفكير فيه، وأخيرا تضامن الدولة والكتابة والثقافة العالمة. آليات التأويل أما الفصل الرابع: فيتعلق بآليات التأويل كما يتصورها أركون، وكما استخلصها من نصوصه، ولعل أهم هذه الآليات الأسطورة، حيث يدعو إلى إعادة الاعتبار للفكر الأسطوري وبيان الوظائف النفسية والاجتماعية والثقافية للأسطورة، ويقدم أمثلة على ذلك من مثل أسطورة العصر التدشيني، وعليه فإن كل تأويل للتراث يجب أن يكون واعيا بدور العامل الأسطوري في تشكيل بنية العقل الإسلامي. إلى جانب الأسطورة يستدعي أركون مفهوم المتخيل، ذلك أن المتخيل يحظى في العلوم الإنسانية والاجتماعية بأهمية قصوى، وعليه فإن الدارس للفكر الإسلامي عليه أن يبين عمل الخيال ووظيفته ودوره في إنتاج المعنى، من خلال دراسة جدلية العامل العقلاني والعامل الخيالي ومن بين آليات التأويل أيضا يذكر أركون المجاز، لأن التأويل هو الوجه الآخر للمجاز، ويقرر أن القرآن خطاب مجازي، والمجاز في نظره ليس مجرد زينة لغوية، ويبين البعد الابستمولوجي للمجاز، وهو البعد الذي يفتح آفاق المعنى، ويكشف عن الاستخدامات المختلفة للمجاز وعلاقاتها بالمواقع الاجتماعية وإرادة الفاعلين الاجتماعيين. ومن بين الآليات أيضا تمييز أركون بين المعنى وأثار المعنى، أو المعنى وظلال المعنى، وهذا التمييز هو المدخل إلى أشكلة المعنى عن طريق التساؤل عن الآليات اللغوية التي تتحكم به. ويعالج الباب الثاني أنسنة النص، وذلك لأهمية النص في التراث العربي الإسلامي وذلك من خلال عدة مستويات يضعها أركون وهي كلام الله المطلق، وكلام الله الموجه للبشر، ومجتمعات الكتاب المقدس ومجتمعات الكتاب العادي، والتمييز بين الخطاب الشفهي والنص المكتوب، والتمييز أيضا بين الحدث القرآني والحدث الإسلامي. والفصل الثاني فهو بعنوان أنسنة العقل، وتناول في هذا الفصل عدة أفكار تتفق كلها في القول بالبعد الإنساني والنسبي والتاريخي للعقل في عملية إنتاج المعرفة مقابل البعد اللاهوتي للعقل، وذلك من خلال عدة عناصر منها: الأصل الإلهي للعقل، والعقل الإسلامي الكلاسيكي، ومفهوم العقل في القرآن، ثم مراحل وتاريخ العقل الإسلامي، والعقل المنبثق. والفصل الثالث فهو بعنوان أنسنة السياسي، وفيه نبحث في تمييز أركون بين السلطة والسيادة العليا، وطبيعة السلطة وخصائصها وطبيعة السيادة العليا وكيف يتابع أركون العلاقة في التاريخ بين السيادة العليا والسلطة السياسية التي تستند عليها، لتخفي الآليات الحقيقية التي تتحكم بالسلطة وهي آليات القوة والعصبية. ويعرض في هذا الفصل ايضاً مقاربة أركون للعلمنة وعلاقة العلمنة بالسلطة السياسية، والمسافة النقدية التي يحتفظ بها أركون في موقفه من الموقف الديني والموقف العلماني. ويدور الفصل الرابع حول أنسنة التاريخ ويتعرض فيه إلى التمييز بين التاريخية والتاريخانية، وذلك التمييز هو المدخل إلى دراسة الإسلام من منظور التاريخية وليس من المنظور المتعالي والجوهراني. أدوات النقد أما الباب الثالث فيعالج القراءات التأويلية عند أركون، من خلال تطبيقه مفاهيم ونظريات علوم الإنسان والمجتمع على الإسلام. ويتضمن هذا الباب بدوره عدة فصول، الفصل الأول حول نمط أو حدود التأويل عند أركون وفيه توقف على أن التأويل غدا هو جوهر الفلسفة المعاصرة، إذ تجتمع فيه اللسانيات وعلومها والمناهج المختلفة السوسيولوجية والأنتربولوجية والتاريخية، وكل ذلك لا يتوقف أركون على توظيفه، لينتهي إلى تكريس التأويل اللامتناهي واللامحدود، لأن النص لا يتضمن معنى واحد. وفي الفصل الثاني تناول القراءة التاريخية والأنتروبولوجية وفيها يعمل أركون أدوات النقد التاريخي على النصوص المقدسة وعلى سيرة رسول الله محمد (ص)، وعلى الحديث النبوي الشريف، وأصول الفقه... على طريقة سبينوزا في دراسته للاهوت اليهودي. وبخصوص الفصل الثالث تعرض للقراءة السيميائية والألسنية وذلك من خلال دراسات تطبيقية من مثل دراسته لسورة الفاتحة، وسورة التوبة، حيث يعمد أركون إلى الاستفادة من المناهج السيميائية ومفاهيمها، وأدوات الألسنية ليحلل النص المقدس من زاوية أنه نص لغوي، ونلاحظ كيف أن أركون يوظف الكثير من المفاهيم المجتزأة من حقول مختلفة لأنه لا يلتزم بمدرسة سيميائية أو ألسنية واحدة. وفي الفصل الرابع يعرض للقراءة الظواهرية والاستشراقية، لأن غرض أركون بالأساس هو تقديم قراءة أو تأويل مختلف عن القراءة الكلاسيكية الأصولية التي يصفها بأنها ظواهرية وعن القراءة الاستشراقية وفي القراءة الظواهرية يحدد الأسس التي تحكم التفسير الكلاسيكي، وهي جملة المسلمات التي تكون العقل الكلاسيكي الديني. أما في القراءة الاستشراقية فإنه يقف عند عيوب المنهجية الفيلولوجية التاريخانية ويبين حدودها، وكيف أنها لم تستفد من ما أنجزته علوم الانسان والمجتمع، كما أنه يفحص التراث الاستشراقي من خلال تصنيفه إلى عدة تيارات ويوظف بعض نتائج الأبحاث الاستشراقية في قراءته للقرآن. وفي الفصل الخامس يشيد بالقراءة الفلسفية، ويعتبرها شرطا ضروريا لكل القراءات السابقة، لأن القراءة الفلسفية هي قراءة نقدية في جوهرها، من حيث أنها تكشف عن حدود القراءات الأخرى، وتعارضها في إدعائها القبض على الحقيقة والتوصل إلى المعنى الصحيح. وفي خاتمة البحث تضمن أهم النتائج التي أمكنه استخلاصها.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©