الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

المدن المسحورة

المدن المسحورة
15 مارس 2012
تناول الشاعر فارس خضر رئيس تحرير مجلة “الشعر” المصرية في أطروحته للدكتوراه والتي حصل عليها أخيراً بعنوان “المدن المسحورة والمعتقدات الشعبية.. دراسة ميدانية في بعض قرى واحة الداخلة” المعتقدات الشعبية باعتبارها الدافع الخفي وراء احتفاظ الجماعة الشعبية بكثير من عاداتها وممارساتها الموروثة، مؤكداً أن ما تملكه هذه المعتقدات من سلطة على العقلية الشعبية ينفي ذلك التصور القائل بأنها قد تنشأ لدى الجماعات نتيجة الكشف أو الرؤية أو الإلهام، أو أنها في الأصل مجرد معتقدات دينية تحولت لأشكال جديدة بفعل التراث القديم الكامن على مدى الأجيال، مشيراً إلى أنها تمثل مجموعة التصورات والأفكار التي تعتنقها الجماعة الشعبية نتيجة لخبراتها العميقة وتجاربها الإنسانية البعيدة، ومكابداتها لأجل حياة إنسانية، فإذا كان من غير الممكن الإمساك بالجذور العميقة النشأة لهذا المعتقد أو ذاك، فلا أقل من الكشف عن الآليات التي تستخدمها العقلية الشعبية لكي تتبنى؛ وتحافظ على استمرارية؛ وتعيد إنتاج وبث هذه المعتقدات الموروثة. ورأى أن “المدن المسحورة أو المطلسمة أو المخفية أو المستورة أو الباطنة هي مترادفات يتواتر ذكرها بالمعنى نفسه في الدراسة، للدلالة على نصوص شعبية وردت في بعض المدونات وذلك للإشارة إلى مدن لا تتبدى إلا لمن يضل الطريق في الصحراء، فإذا ما تراءت للتائه ولجأ إليها فنجا من موته المحقق ورأى ما بها من خيّرات، دلَّه أحد ساكنيها على طريق العودة، غير أنه ما يلبث أن يفكر في الرجوع إليها مصطحبا أهل بيته وذويه، لكنه لا يجد لها أثرا عند عودته”. وقال خضر “لقد بدأت في تتبع المعتقدات والنصوص المدونة التي يرد بها ذكر هذه الواحات المسحورة حتى اكتشفت أن ثمة معتقدات ذائعة في الواحات الداخلة حول مدينة مسحورة يطلق عليها اسم “زرزورة” وتكاد هذه المدينة تتطابق في صفاتها مع تلك المدن التي تتحدث عنها النصوص المدونة من ناحية، ومع معتقدات المدن المختفية الطوافة الذهبية التي تظهر للبسطاء كمكافأة على أعمالهم الصالحة مثل “إرم”، تلك المدن المثقلة بماضيها الأسطوري والديني. ولما كانت سورة الفجر، هي السورة الوحيدة التي تخبرنا شيئاً محدداً عن هذه المدينة العجائبية، فإن هذه الإشارة ـ حسب فاضل الربيعي ـ كانت كافية لبعث نقاش قديم ومستفيض، سيجرى مع الإسلام بين طائفة من المفسرين وعلماء اللغة المسلمين، ثم ليزداد هذا النقاش بعد زعم الإخباريين أن “عبد الله بن قلابة” الأعرابي التائه في الصحراء، عثر عن “إرم” في بعض صحارى عدن من أرض اليمن، حيث قيل إن إبلاً لعبد الله بن قلابة ضلت في بعض صحارى عدن، فخرج في إثرها، ثم قادته المصادفة المحضة إلى المدينة الضائعة، وقد أوردت هذه القصة معظم المصادر الإخبارية واللغوية والجغرافية القديمة، وتكاد تكون منقولة حرفياً عن رواية أولى، أصل، رواها عبيد بن شريه الجرهمي في “أخبار اليمن”. وقد جاءت هذه الدراسة في مقدمةٍ وستة فصولٍ، وملاحق بالتطبيقاتِ الميدانية. تناول الفصلُ الأولُ: الإطارَ النظري والمنهجي. والفصل الثاني: الملامح العامة لمجتمعات الدراسة. والفصل الثالث: المدن المسحورة بين جغرافيا الوهم والتاريخ الميثولوجي، وتناول فيه الباحث انتقال معتقدات المدن المسحورة من الحيز الواقعي إلى الميثولوجي، ودور المأثور الجغرافي والتنوع العرقي في ترسيخ هذه المعتقدات، ودلالات الإشارات التاريخية والجغرافية القديمة. وتناول الفصلُ الرابعُ : معتقدات المدن المسحورة وعناصرها. أما الفصلُ الخامسُ فتناول المدينة المسحورة بالواحات الداخلة ورصد الباحث الرحلات الحديثة للبحث عن الواحة المفقودة. أما الفصلُ السادسُ فتناول معتقدات المدن المسحورة كما تعكسها الحكاية الشعبية. وخلصت الدراسة لعدد من النتائج منها: أولاً، تعد معتقدات المدن المسحورة محاكاة رمزية لصورة الجنة كما تقدمها الديانات السماوية. ثانيا، تحتفظ الذاكرة الجمعية بمعتقدات هذه المدن، لأن العقلية الشعبية تعيد إنتاج الخطاب الأسطوري القديم، المتوافق مع موروثها الحضاري والديني، حول مدن الأولين المنسية والضائعة مثل مدينة إرم، وذلك بعد أن تعيد صياغة هذه الموروث صياغات جديدة. ثالثا، تنتمي معتقدات المدن المسحورة إلى الواقع الحياتي الذي أنتجها، وعلى الرغم من أن النصوص الدالة عليها تضع قدماً في جغرافيا الوهم، والقدم الثانية في التاريخ الميثولوجي، إلا أن هذا لا يعني انتماءها للوهم بشكل مطلق، ذلك لأنها نتاج خبرات وتجارب الإنسان القديمة وأحد محصلات عراكه التاريخي في مجابهة قسوة الطبيعة، ومقاومة الفناء. رابعا، يلعب المأثور الجغرافي في الواحات الداخلة دوراً في تأكيد معتقدات المدن المسحورة، بحيث تبقى هذه المعتقدات ماثلة في الذاكرة الشعبية، من خلال الاستعادة الرمزية للقرى التي اختفت منذ أزمنة بعيدة، بفعل زحف الرمال المتحركة وجرى الرياح وانقطاع الطرق في الواحة. خامساً، تعمل العقلية الشعبية على استمرار هذه المعتقدات بأن ترفع بعض الأحداث التاريخية والأشخاص التاريخيين ـ الداعمين لهذه المعتقدات ـ من مستوى الواقع إلى مستوى الحدث الميثولوجي. ذلك لأن الذاكرة الجمعية للإنسان لا تحفل بالأحداث العادية إلا لفترة وجيزة من الزمن، لكنها تخلد ما تؤسطره العقلية الشعبية من أحداث وأشخاص تاريخيين. سادسا، تبتعد معتقدات المدن المسحورة بوصفها صنيعة المخيلة الشعبية بقدر الإمكان عما يجافي الواقع المعيش، فإن أوغلت في التعبير عن أشواقها للوصول إلى جنة أرضية، حرصت على أن تأتي هذه الجنة مجسدة لأشواقها وطموحاتها وأحلامها القابلة للتحقق، حتى وإن استعارت تيمات هذه المدن وعناصرها الرئيسية من الجنة السماوية كما يصدرها الموروث الديني فإن العقلية الشعبية لا تتجاوز فتنسب إلى جنتها الأرضية من العناصر والمكونات مما لا يقدر عليه البشر العاجزون والمحدودة قدراتهم. ومن هنا فالخطاب الديني رغم الإلحاح المكثف لم ينجح في ترسيخ صورة الجنة السماوية لدى الجماعة الشعبية بحيث تتبنى مفرداتها المفارقة للواقع، وبقيت الجماعة محتفظة بصورة واقعية للجنة الأرضية، تتسق وتقديرها للحسي والملموس ونفورها من التجريدي. سابعا، تعيد العقلية الشعبية الإنتاج الرمزي للموروث الميثولوجي، بحيث تصحح الأخطاء التراجيدية التي حدثت في الماضي البعيد؛ تلك الأخطاء التي لا تقبل المراجعة والتصحيح. ففي معتقدات المدن المسحورة نجد ـ مثلا ـ أن الأفعى التي أخرجت آدم وزوجه من الجنة السماوية، كما في الموروث الديني الشعبي، تقف كحارسة على بوابة “الدخول / العودة” إلى “الجنة/ الأرضية” المتخيلة. ثامنا، تنتقد الحكايات الشعبية السلطتين السياسية والدينية انتقادات حادة، تصل إلى حد تحقير رموزهما، وتعلى في الوقت نفسه من شأن أصحاب المعرفة البديهية التصوفية، في حين نجد نصوص المدن المسحورة المدونة والشفاهية لا تقترب من هاتين السلطتين مطلقاً، ليس خوفاً من بطشهما، ولكن لأنها تتجاهل وجودهما، وتقدم البديل النقدي لهما، ممثلاً في هذه المدينة المسحورة التي يحكم أفرادها أنفسهم بأنفسهم. تاسعا، إن معتقدات المدن المسحورة كما تنعكس في الموروث الحكائي السردي بتجلياته الشفاهية والكتابية، تلبى نزوعاً إنسانياً ورغبة دفينة لدى الجماعة الشعبية، في امتلاك العالم عن طريق الحكي، وإعادة تشكيله كما تحلم به وتصبو إليه. عاشرا، لا تأتي معتقدات المدن المسحورة كعملية خلق إبداعي منبت الصلة بالموروث، كما أنها ليست نتاجا خالصا لعمليات التخيل وحدها. إنما هي مزيج متجانس بين الاثنين “الموروث والمتخيل”، مزيج أكسبته التجربة الحياتية للجماعة الشعبية، والتقادم والرغبات اللاشعورية الدفينة لهذه الجماعة رسوخا واستمرارا عبر الزمن. إحدى عشر، تنتمي نصوص المدن المسحورة من حيث بنيتها المورفولوجية إلى القصة ذات الحبكة المحكمة، فالخط السردي يسير خطياً نحو الذروة لتبدأ من مقدمة “خروج البطل باحثاً أو مطرودا” وتسير في خط سردي لتصل إلى نقطة الإثارة “التوهان في الصحراء ثم الوقوف على أسوار المدينة المسحورة” ومحاولة الدخول، بما يعد وصولاً إلى ذروة الحركة الصاعدة، غير أن بنية النصوص المدونة تقف عند حد هذه الذروة دون أن تكمل الخط النازل، فلا دخول ولا حل ولا انفراجة.. اثنا عشر، إن دراسة المعتقدات والوقوف على آليات عمل العقلية الشعبية، يوفر فهما أعمق لهوية وخصوصية المجتمع المصري.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©