الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

إبراهيم السيد: الوجوه مخطوطات وأنا قارئ

إبراهيم السيد: الوجوه مخطوطات وأنا قارئ
15 مارس 2012
بورق الجرائد، بهوامشها البيضاء الخالية من الكتابة على وجه أكثر دقة، وبقلم الحبر الأسود فقط، بدأت حكاية الفنان التشكيلي السوداني إبراهيم السيد مع الرسم.. بعزلة رافقته منذ الطفولة، ورغبة في كسر الصمت الذي كان سمة صارخة من سماته. هذا بشكل عام لكن بشكل خاص جاءت الشرارة التي أشعلت رغبته الفنية من شقيقته الكبرى شاهيناز التي وجدته يرسم على غلاف كتابها المدرسي بقلم الرصاص، فأهدته قلم حبر يقول إنه ما زال إلى الآن يتذكر شكله... في الحقيقة، كان القلم كفيلاً بإخراج الطفل الذي كان لحظتها في الخامسة من العمر، من عزلته وصمته إلى رحاب شعور جديد لم يألفه: الفرح... وسيلازمه قلم الحبر العادي على مدى رحلته الفنية بعد ذلك رغم امتلاكه أدوات الرسم وتقنياته الأخرى لكنه، كما يقول، نوع من الوفاء والامتنان للصديق الذي لم يتخل عني في الزمن الصعب عندما لم أكن أملك ثمن أدوات الرسم أو حتى اللوحات القماشية. يستعيد الفنان إبراهيم السيد هذه الحادثة ثم يضيف: “فرحت جداً بالقلم وأخذت أرسم به في كل ورقة تقابلني، وحتى أوراق القمامة لم تسلم من خربشاتي. كنت قليل الحديث بلساني ولكنني عبر هذا القلم كنت ثرثاراً!”. بعد ثلاثة أعوام سيواجه حادثة أخرى مختلفة في رد الفعل، فبدلاً من التشجيع تلقى غضب المدرسة التي ظنَّت أن هناك شخصاً (كبيراً) يرسم له، ثم سرعان ما تحول السخط إلى دهشة “بعد أن راقبتني أرسم لدقائق وتأكدت أنني أنا الرسام واحتفت بي كمشروع لفنان في المستقبل”. شعرت وقتها بأني أحلق في السماء، وبأنني أمتلك شيئاً ما يستحق أن أتمسك به حتى أظل مستمراً في التحليق، ولا أسقط في الحياة العادية التي كنت أهرب منها دائماً إلى الخيال لأدوزن لي حياة مشتهاة”. ظلت الهوامش لسنوات طويلة هي المكان التي يستضيف ويحتفي برسومات الفنان الذي كان يمارس هوايته في الخفاء، حيث أصرت الأسرة على أن يترك الفن بدعوى أنه لا يطعم خبزاً ولا يصنع مستقبلاً. لكن العام 1999 حمل له الاعتراف الفني، حيث أقام معرضاً مع فنانين محترفين وحصد إعجاب الجمهور والإعلاميين والمسؤولين، ودارت العجلة لتعلنه فناناً يحرص على عرض مجموعات كاملة (مشروعات فنية) في معارضه خارج السودان وداخله. الجذريّون في الأرض يعيش إبراهيم السيد مع وجوهه المتنوعة، تحيط به أينما ذهب، لكنها مختلفة عن تلك الوجوه التي في الواقع. ويعتبر أن التعبير عن المهمشين وإحضارهم من بئر النسيان إلى ضوء الحياة هو رسالته الفنية التي يريد إيصالها عبر رسوماته ووجوهه التي يتقن صياغة ملامحها بقلم الحبر، يقول: “أنا أنتمي إلى المهمشين... ولا أقصد المهمشين هنا الفقراء فقط بل الناس العاديين ممن يعيشون في الهامش سواء طوعاً أو كرهاً بقهر الظروف المحيطة بهم.. فهؤلاء هم ملح الحياة وهم من يصنعون التاريخ والعالم”. يعتمد الفنان على ذاكرته لأن “الأحياء والموتى يعيشون في داخلي”، ويضيف: “تزاحمني هذه الوجوه في الشوارع حيث المدن مكاناً مثالياً لها. أتفرس في الناس، ألتقط نظراتهم وأقوم بإعادتها إلى وطنها المخفي بين طيات أحزانها. فوجه الإنسان عنوانه والباب المفتوح على دواخله وما يُسرّه، إنه يحمل تضاريس حياته وتفاصيلها وجذورها وكأنه مخطوط يحرضني على فك رموزه. لكل وجه تاريخه وحيثياته ومدلولاته الفنية والفكرية والاجتماعية وحتى الطبقية؛ فالمرفهين تكتظ وجوههم بالخطوط الناعمة الدائرية والنظرات اللامبالية المرحة بعكس الفقراء والمعدمين الذين يحملون عيوناً شاردة وابتسامات تمتزج بالمرارة والغضب. وجوهم متغضنة وملامحهم حادة الزوايا وتجاعيدهم غائرة”. لكن دلالات الوجوه في تجربة إبراهيم السيد لا تقف عند هذا الحد، بل تحمل مشروع بحث فكري ثقافي في الثقافة الأفريقية، وذلك هو السرّ الذي يفسّر أسماء لوحاته التي تحمل الملامح المميزة للمنطقة التي جاء الوجه منها مثل النوبة أو حلفا أو كسلا وغيرها. يقول موضحاً: “أنا نوبي أنتمي إلى عشيرة الكشاف بالجزء السوداني من النوبة. والكشاف النوبيون هم فرع مهم من النوبيين ممن يحملون جذوراً بلقانية ممتزجة بجذورهم النوبية، وقصة البلقانيين في النوبة مثيرة للاهتمام، فعندما غزا الأتراك شرق أوروبا ووصلوا حتى النمسا قاموا باستعباد عدد كبير من أطفال الأسر المسيحية، فيما كان يعرف بالبوسنة وكرواتيا وصربيا، ومن ثم أسلمتهم وعلموهم اللغة التركية والعربية والفنون العسكرية وأرسلوهم إلى منطقتنا بمناصب قيادية تركية، وتعامل هؤلاء العبيد الأوربيون مع النوبيين بنوع من التكبر والعنجهية، وفي المقابل تعامل النوبيون مع هؤلاء المستعمرين بنوع من الأخوة والحلم، بل وقبلوا أن يزوجوهم بناتهم، وظهرت من خلالهم سلالة الكشاف أو النوبيين الولياب.. هذه القصة العجيبة جعلتني أكثر اهتماماً على المستوى المعرفي بأفريقيا وجذورها من جهة، وأكثر احتراماً وتبجيلاً للمجتمعات الأفريقية التي تعيش التنوع بشكل فطري فتتقبل الأغراب وتتعايش معهم بترحاب. ولقد وجدت قصصاً مشابهة لتلك القصة في العديد من البلدان الأفريقية، خصوصاً في شرق أفريقيا، مما أثار فضولي للتعرف على الجانب الأفريقي من هويتي. كان لا بد لي، لكي أرسم هذه الوجوه التي ترينها، من دراسة علم الأنثروبولوجيا وهو الخاص بتكوينات البشر والاختلافات وسرها التاريخي والجغرافي. لقد قمت عبر هذا العلم بدراسة معظم شعوب العالم والأجناس الرئيسية، ودراسة تاريخ السودان وكل الإثنيات وعمليات الهجرة الداخلية والخارجية في السودان والدول المجاورة لها”. الكاريكاتير حكاية أخرى المكان الآخر الذي يبدع فيه الفنان إبراهيم السيد هو الكاريكاتير، هذا الفن الصعب الشائك له معه حكاية طريفة يسردها على النحو التالي: “للكاريكاتير معي موقفان بينهما عشرة أعوام، الأول حصلت من خلاله على أول رسم كاريكاتيري لي، والثاني وضعني بين رسامي الكاريكاتير، والمشترك بينهما هو التحدي. في الأول تحديت الظلم وفي الثاني تحديت قدراتي كفنان. أما الأول فكنت طفلاً في الابتدائية أحب حصة الرسم وأكره الرياضيات. ذات يوم قام مدرس الرياضيات بإلغاء حصة الرسم ليعوض تأخره في شرح المنهج. غضبت جداً وقمت برسم المدرس بشكل كاريكاتيري ضاحك يبدو فيه ديكتاتوراً أحمق وعلقت الرسمة على السبورة، وما أن دخل الفصل حتى انفجر التلاميذ بالضحك. وكانت النتيجة صفعة قوية لا تغادرني ذكراها إلى الآن؛ لأنني أعتبرها أول جائزة فنية أحصل عليها. والجميل أن زملائي التلاميذ تعاطفوا معي بشدة، وصرت أتحدث باسمهم في أي مشكلة أو رأي يريدون عرضه على المدرسين والإدارة”. أما الموقف الثاني فهو لقائي مصادفة بفنان الكاريكاتير الراحل حسن حاكم، وكان لقاء عاصفاً. تحدث معي باستفزاز شديد عن فن الكاريكاتير وأنني لن أستطيع إتقانه مهما حاولت، لكن تلك الكلمات القاسية أعطتني الطاقة لكي أقدم أفضل ما عندي وأنال استحسانه بعدها بعدة أشهر، بل وليزكّيني لكي أجد فرص عمل احترافية في صحف عربية وأوروبية. بعد ذلك توطدت علاقتنا وتعلمت منه الكثير الكثير... يذهب الفنان إبراهيم السيد إلى أن هناك “نظرة خاطئة في العالم العربي لفن الكاريكاتير حيث يعتقد كثيرون أنه فن مكمل أو أنه مجرد عمل صحفي وربما ترفيهي، لهذا يظن بعضهم أنه في سبيله إلى التآكل. أما الصحيح فهو أن فن الكاريكاتير باق طالما ظل الإنسان قادراً على الدهشة والحيرة. ويعتقد أن مقارنة بسيطة بين الكاريكاتير لدينا والكاريكاتير في الغرب تظهر فوارق جوهرية، ففنان الكاريكاتير في الغرب يتبع نقابة الفنانين التشكيليين بينما لدينا يتبع نقابة الصحفيين!، وهو في الغرب لديه حرية مطلقة في التناول لا تقف عند خطوط حمراء ومعززة بحريته المقدسة كإنسان وفنان بل إن تقييمه يتعدى رئيس التحرير بوصفه صاحب أخطر وأسرع المقالات قراءة وتأثيراً”. أما عن المستقبل فلا يبدي الفنان أي خوف على الكاريكاتير من الإنترنت، كما هي الحال مع الصحافة الورقية، لأن الكاريكاتير، حسب قوله، “يتميز بمرونة عالية تسهل استخدامه وانتقاله في الأوعية الثقافية الأخرى، بل أعتقد أن الكاريكاتير يزدهر على الشبكة العنكبوتية، ولدى “فيسبوك” إحصائية تقول إن أكثر المواد التي يتم تبادلها بين الأعضاء هي صور الأعمال الكاريكاتيرية المرسومة والمصورة.. أما عن “الربيع العربي” فحدث ولا حرج.. إنه أشبه بمعرض كاريكاتير هائل ومتنوع لآلاف الأعمال التي رسمها عشرات الرسامين المحترفين والهواة في الوطن العربي وخارجه.. بل إن على الإنترنت صحوة كاريكاتيرية لا تقل اتساعاً عن صحوة الإنسان العربي وخروجه من وهدة الخنوع واليأس. والحال إن الكاريكاتير لا يزال هو الرصاصة التي تقتل الإنسان وهو يضحك ويبكي في آن”. وبخصوص القضايا التي تشغل الفنان إبراهيم السيد سواء على مستوى اللوحة أو الرسم الكاريكاتيري فهي قضايا الإنسانية وما يعانيه البشر في كل مكان. يقول: “ثمة رابط عميق وخفي بين جميع المبدعين في العالم مهما كان نوع الإبداع الذي يمارسونه، إنها الأخوة فالإنسان أخ للإنسان يشعر بهمومه وأحزانه وانسحاقاته وآلامه، ويفرح لأفراحه وإنجازاته الخيرة. أنا نوبي سوداني لكنني أيضاً تونسي حزنت للبوعزيزي، ومصري بكيت خالد سعيد، ويمني سعدت لجائزة توكل كرمان، وسوري مكلوم لاحتراق حمص وحماة، وياباني مصدوم لزلزال فوكوشيما... وأعمالي تتنوع بين كل هذا وغيره مما يرزح تحت قهره الأشقاء على وجه البسيطة”.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©