الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

العراق: مخاطر البناء على رمال متحركة!

العراق: مخاطر البناء على رمال متحركة!
18 مارس 2011 22:22
من أهم مفاهيم البناء هي أن تكون أرضية الأساس صلدة بما فيه الكفاية لتحمل الثقل الكبير للبناء، ومع زيادة البناء ارتفاعاً تزداد الحاجة إلى صلادة وعمق كبيرين. البناء ليس تشييداً فقط بل متابعة واهتماماً نحو الحفاظ عليه وديمومته وتطويره. في طفولتي كان فلاح حديقتنا إنساناً بسيطاً كنا ندعوه العم أبو رمضان و رغم بساطته كان إنساناً طموحاً، وطلب من والدي وقت ذاك أن يساعده في الحصول على عمل كساع في إحدى المدارس. وتمر الأعوام وبعد أن انقطعت أخباره عنا، إذ به يزورنا (العم أبو رمضان) ذات يوم و لكن بسيارة مرسيدس بعد أن تغير كل شيء فيه من ملابسه و طريقة كلامه. لقد دفعه طموحه نحو علاقات حزبية وفرت له مكانة اجتماعية سريعة و من ثم ازدياد مصادر الدخل من خلال تواجده في الأسواق التجارية. لقد تغير العم أبو رمضان كلياً. استطاع وبذكائه الفطري أن يستغل الظرف السياسي لإعادة بناء حياته وحياة أسرته. وكان دخله الجديد أكبر من مستوى تفكيره. وكان من نتائج هذه النعم أن يغير كل شيء في حياته. ولكن لم تستمر الحال كما شاء فمن نتائج النعمة المفاجئة أن ترك أولاده مدارسهم، لأن النعمة كما حسبوا دائمة، أما بناته فقد تزوجن في عز أبيهن من منتفعين لا يقلون طموحاً عن أباهن، ولما كان الوضع غير مستقر فقد ذهب كل ما بناه أبو رمضان. لم يكن ليدرك أنه قد بنى على أرض متحركة. وليس أبو رمضان الفرد البسيط في هذه المجتمعات الوحيد الذي بنى على أرض متحركة. المجتمعات العربية و الإسلامية عموماً وبعد الحرب العالمية الأولى بدأت البناء على أرض متحركة. وكما كان أبو رمضان قائد البناء في أسرته ومخطط التحول الكبير، فإن هذه المجتمعات عموما بنت وتبني ليس كمجتمعات بل بقيادات فردية أو مؤدلجة. وكما كان العم أبو رمضان فخوراً ببنائه لأنه العقل المفكر والقائد الملهم في أسرته، فإن قادة البناء في هذه المجتمعات يتعاملون مع ما يتم بنائه بنفس الفخر والاعتزاز. وكما انهار بناء أبو رمضان انهار العراق ودول أخرى في طريقها إلى ذلك. لقد بدأ البناء العراقي بعيداً عن المجتمع بعد الحرب العالمية الأولى. بدأ العراق عهد الديمقراطية ومجتمعه لا يعرف سوى الفكر الديني، الذي سيطر على المجتمع لقرون عدة وتركته في حالة فظيعة من البؤس والفاقة والمرض. مثل هذا المجتمع لا يمكنه أن يدرك ما هو القرن العشرين و ما هي ضرورات المعيشة فيه، وكيف عليه أن يتفاعل مع القوى الفاعلة. لقد كانت الأمية بكافة أنواعها هي السائد الأعظم، ولما كانت السلطة المستعمِرة العثمانية ذات غطاء ديني، فإن الصراع الطائفي كان كبيراً رغم أنه كان يبدو كامناً. لقد كان المجتمع المُضطَهد متقبلاً للهيمنة الإسلامية التركية، ولم يتقبل الاستعمار الغربي الذي قاد البلد إلى البناء. لقد كان العراق يعيش وقت تأسيس الدولة العراقية مشاكل اجتماعية هائلة ومن الأقرب للصواب القول إنه كانت هناك كوارث اجتماعية هائلة. إلا أن بناة الدولة تركوا الفرد والمجتمع ( أساس البناء) ليهتموا بالبناء المادي ورغم أهميته الكبيرة، إلا أن البناء المادي لا بد له من أرض اجتماعية صلبة وليست هشة. لقد تُركَ التعليم ليهتم أساساً بإعداد كفاءات قادرة على إدارة الدولة الوليدة أساساً مع بعض التوجهات الإيديولوجية للسلطة الحاكمة واستمرَ هذا الأسلوب حتى يومنا هذا. لقد كان وما يزال المعلم الأساس في الدولة العراقية هي الأسرة والشارع ودور العبادة وليست الدولة. لذا تخرجت كفاءات علمية وعلى عهود مختلفة تلهج بالدعاء للساسة وليس الوطن الذي لا تعرف شيئا عن مكوناته الاجتماعية وكيف يتم تقبل الآخر. ورغم الغلاف البراق للشهادة العلمية فان تأثير الشارع ودور العبادة الذي نشئت فيه تلك الكفاءات يبدو واضحا وجليا في محدودية الثقافة الاجتماعية. وهكذا انتقلت أمراض القرون الماضية متوارثة جيل عن جيل ورغم ظهور بعض التحسن ومحو الأمية الأبجدية والتي تصدت المدارس لها فإن الأمية الثقافية التي يعززها الشارع و الأسرة بقيت على حالها و عززتها الصراعات السياسية. ولم تستطع كافة الحكومات المتعاقبة على إدارة العراق مجابهة مشاكل العراق الحقيقية والمزمنة. وببساطة كانت معظمها إنْ لم تكن جميعها سلطات مؤدلجة تهتم بإيديولوجيتها أكثر من اهتمامها بالمجتمع ومشاكله واحتياجاته ومنظوماته. وكانت النظرة الإيديولوجية وأحيانا النفعية تشكل حاجزاً كبيراً بين المجتمع والسلطة. بعد الفترة العثمانية وبعد اكتشاف العرب والمسلمين وجود مخلوقات بشرية وحضارات خارج مدنهم وقراهم ومدى تطور تلك المجتمعات لذا غيروا ملابسهم ونزعوا طرابيشهم، وفتحت دور اللهو والسينما واشتروا السيارات… لم يسبق للعراقيين أن عرفوا الفكر السياسي الذي تطور خلال الفترة المظلمة من تاريخهم. لذا كان الانتقال مفاجئا من الفكر الديني نحو الفكر المعاصر ومن دون تمهيد و إعداد اجتماعي. وعلى ذات الحال تم لدى البعض استبدال الفكر الديني بآخر معاصر فدخل الفكر الماركسي وتم استبدال الكتب المقدسة بأدبيات الماركسية والشخصيات الدينية بالمفكرين الماركسيين وأصبحت موسكو مدينة مقدسة، وهكذا هو تعامل البسطاء مع الفكر الحديث، وهناك آخرون تبنوا الأيديولوجية القومية، وأصبح هتلر والرئيس الراحل عبد الناصر عندهم بدرجة القداسة والأدبيات القومية بديلاً وأخذ الساسة يقبلون على القاهرة، وقبلها ذهبوا إلى برلين. وأخذوا يتصارعون أيدولوجيا بعد أن كانت الصراعات طائفية فقط. لقد كان بناء العراق عشوائياً مؤدلجاً بعيداً عن واقع ومتطلبات المجتمع كمجتمع معاصر. كان الاهتمام بالكهرباء والماء والخدمات الصحية وتأسيس الجيش والشرطة. كل هذه الأمور لم يفكر في توفيرها الاستعمار العثماني (على ما يبدو أن المجتمع كان سعيداً بحرمانه منها لأنه لم يثر كما ثار في ثورة العشرين)، وساهم في توفيرها الاستعمار البريطاني في الدولة العراقية الوليدة. لقد عرف الغرب هذه الأشياء خلال فترة طويلة من الزمن. تطور مجتمعهم خلالها تدريجياً، ولكن ما حصل عندنا هو محاولة استيعاب هذه الأمور، وكثيرة غيرها في فترة زمنية غير منطقية. والأدهى هو عدم وجود خطة مدروسة (ليست مؤدلجة) لإعادة بناء الفرد والمجتمع ليكون مهيئاً لتقبل المنظومات الحديثة. إن الفكر الاجتماعي كان مغيبا تحت تأثير الفكر الديني ولمدة قرون. ولكن الفكر الديني بقى كامناً خلال فترة تبديل القشور، ولم يكن بمقدوره البروز من جديد أمام إعصار الحضارة الحديثة الجارف بعد الحرب العالمية الأولى. لقد كسرت الحرب العالمية الأولى بوابات سجن الزمن، لينطلق السجناء من دون أن يعرفوا طريق حريتهم. لقد كان القتل المُبرر هو القتل باسم وغطاء الجهاد الإسلامي، وكان ضد الكفار والمارقين وكما هو متعارف عليه في الفكر الإسلامي السائد. في مرحلة تبديل القشور تم استيراد الإيديولوجيات الحديثة، وتحول مفهوم الجهاد إلى محاربة أبناء البلد ذاته من الرأسماليين (البرجوازية الوطنية البسيطة) أو الشيوعيين الكفرة أو القطريين (من لا يؤمن بالوحدة العربية) أو الشعوبيين أو… وهكذا أخذ البعض يقتل البعض وتحت أغطية المبادئ الحديثة السامية لكل إيديولوجيا تستلم السلطة أو الشارع. لقد قُتل المسيحيين في "تلكيف" في شمال العراق بيد الدولة وقتل وشرد اليهود بيد غوغاء مجهولين، وقتلت العائلة المالكة بتحريض قاس و مبالغ به من قبل الأحزاب السياسية، وقتل قادة تموز بنفس الأسلوب وقتل التركمان في مجازر كركوك، وقتل العرب في مجازر الموصل و قتل الأكراد في مجزرة حلبجة الأنفال وقتل الشيعة في ما يعرف بالمقابر الجماعية ومحاربة الأحزاب الدينية، وأخيراً عاد الفكر الديني بعد 2003 من جديد، و لكن بصورة أكثر دموية ليلتهم بصورة انتقائية من يحددهم أهدافاً لجرائمه المقدسة. بالإضافة لهذه المجازر كانت هناك الحروب الدموية، التي لا تمييز بين القوميات و الأديان، والتي حصدت مئات الآلاف من الشباب، وتحت غطاء المبادئ السامية. كل من يستلم السلطة فرداً كان أو حزباً سياسياً يحاول أن يخضع الآخرين ويحاول أن يصبغ المجتمع برغباته. معتبرا نفسه المرجع الوحيد والقائد أو المعلم وحامل الفضيلة… وهكذا دمر حكام العراق وأحزابه السياسية ما حاول بنائه حكام العراق وأحزابه السياسية أنفسهم. والمشكلة الأكبر هي أن العراق دولة نفطية تتحكم السلطة الحاكمة وتسيطر على المورد الأساسي، لذا فإن السلطة المؤدلجة تتمكن بمنتهى البساطة من صبغ المجتمع بطلائها. لذا تلون العراقيون بمختلف الإيديولوجيات، ليس قناعة أو رغبة قدر كونه ضرورة حياتيه لمجاراة الحاكم. أما الشعب العراقي فإنه لم يبن شيئاً لأنه لم يعرف الديمقراطية يوماً. العراقيون لم يعرفوا المؤسسات المدنية والاجتماعية، ولم يكن عندهم في تاريخهم المعاصر فرصة لمواجهة مشاكلهم بصراحة ومن دون تعال لأحدهم على الآخر. لقد دمرت التربة الاجتماعية القلقة البنائين الفوقي والتحتي البسيطين اللذين تم بنائهما بعد تشكيل الدولة العراقية. وهم الآن يلهثون لإعادة بناء الكهرباء والماء والجيش، وربما ستتكرر عملية الهدم وإعادة البناء! النظام الديمقراطي الجديد بعد 2003 فتح الباب أمام كافة المشاكل والأحقاد الدفينة بالخروج إلى السطح، ولأول مرة في تاريخ هذه الدولة. وهذه واحدة من أهم ضرورات تكوين مجتمع مستقر. المكاشفة والوضوح يجب أن يسود الجميع. العراقيون اليوم يواجهون تحدي بناء العقد الاجتماعي، وليس السياسي لتكوين الأرضية الضرورية للبناء. ولكن هل الأحزاب السياسية الفاعلة في العراق الآن على مقدرة وتصور كافيين للعب هذا الدور التاريخي الفريد؟ العراق الآن بحاجة لبناء المجتمع، وليس بناء القادة والأحزاب السياسية المؤدلجة. القادة والأحزاب يتبدلون ولكن البناء يجب أن يكون تراكمياً. تجربة بناء العراق ما بعد الحرب العالمية الأولى وحتى 2003 بحاجة إلى دراسة معمقة، تجربة البناء والهدم المستمر القاسية هذه بينت مشاكل من قبيل: عدم الاهتمام بعصرنة الثقافة الاجتماعية لمكونات الشعب العراقي على مستوى الدولة والمجتمع. بعد عام 2003 اكتشف الكثير من العراقيين حقائق كثيرة عن مجتمعات العراق، كانت مغيبة عنهم. عدم الاهتمام ببناء الفرد الاجتماعي (وليس المهني) وبعيداً عن الإيديولوجيا. لقد بان أن المواطن ليس عراقياً بقدر كونه ابن عشيرته أو طائفته أو قوميته أو دينه. التركيز المفرط على بناء وتطوير المدن وعدم الاهتمام بالريف ومحاولة رفع مستواه الحضاري. مما قاد إلى هجوم الريف باتجاه المدينة حتى أصبحت المدن قرى كبيرة. لا أهمية للتراكم في البناء والخبرة وكل من يستلم السلطة يريد البناء من جديد. لذا كان هناك الهدم و الإعمار لمحو أثار من بنى سابقا. البناء يتم بإرادة الساسة والأحزاب المؤدلجة، وليس هناك أي دور اجتماعي حر. لقد كان البناة ملوكاً وقادة سياسيين متصارعين. وكذلك كان الهادمون هم القادة والساسة المتصارعون. عشق الساسة العراقيون (على الأغلب) للأدلجة وعلى غرار الأدلجة الدينية، التي سيطرت على المجتمع قرون عدة، دون أن تتمكن من بناء طابوقة واحدة أو تواجه الاستعمار التركي الذي دمر العراق وتركه جثة هامدة. في مجتمع بهذه المواصفات، لا قيمة للثقافة ولا للتاريخ ولا للإنسان عموماً. لذا تربى ضمن ثقافة الأسرة والشارع ودور العبادة المجرمون ومحدودو الأفق الذين يرفضون الإجرام السياسي المغلف بالمبادئ السامية. الكثير من المجرمين الذين يتم إلقاء القبض عليهم الآن هم أطباء ومهندسون وصيادلة خريجو المؤسسة التعليمية العراقية. ذات المؤسسة أفرزت مبدعين إلا أن عملية ظهور مبدع ذات طابع فردي، لأن الإبداع عملية في الأساس فردية الطابع، ولكن هذا المبدع يعاني اجتماعيا من انعزال قد لا يمكن الهروب منه دون الارتماء في أحضان السلطة المؤدلجة. الجريمة السياسية والتهديم المستمر، لا يمكن إيقافه من دون دراسة مصدره ومعرفة أسبابه. مشكلة التهديم هذه ليست ظاهرة عراقية بل تجد مماثلاً لها في الدول العربية والإسلامية بصور متفاوتة. إن منظومات البناء على تربة قلقة قد تخلق كوادر مهنية وفنية لإدارة مؤسسات خدمية ولكنها لا تخلق مجتمعاً متماسكاً. لقد ظهر في تاريخ العراق المعاصر الكثير من المبدعين والمثقفين ومنهم من بقى حراً منعزلاً ومنهم من سار مع تيار السلطة في ازدهارها ويخبوا معها. و لكن كل هؤلاء لا يشكلون سوى طبقة اجتماعية معزولة إلا من تأدلج ورحل برحيل سلطته. لقد بدأ العراق عهد الديمقراطية الثانية بعد 2003 والتي يفترض أن تكون أكثر نضجاً من التجربة الأولى في بداية تأسيس الدولة العراقية، والعراق الآن على عتبة إعادة بناء، فهل سيعاد بناء المدرسة العراقية على أسس وطنية؟ وهل ستتم معالجة مفردات المناهج التربوية المدمرة للمجتمع ؟ وهل ستفتح المدارس و المؤسسات الحديثة في الأرياف قبل المدن؟ وهل ستكون هناك تربية اجتماعية عصرية مركزة على الوطن والمواطنة وغير مؤدلجة؟ وهل ستتوقف الأحزاب المؤدلجة عن لعب دور الأب أو المعلم أو الوصي؟ وهل ستكون هناك خطة لإعادة تأهل مجتمع عاش قروناً سجيناً في أقبية الزمن وبيد المتخصصين وليس الساسة المؤدلجين؟ و هل …لا يمكن بناء مجتمع حديث متماسك على أنقاض مجتمع أكله الدهر قروناً من دون أسس علمية واقعية للبناء الاجتماعي وستبقى كل عمليات البناء المستقبلية معرضة للانهيار من جديد. الغرب لم يألف ظاهرة البناء هذه لأن البناء كان في الأساس تدريجيا ومتراكما على كافة المستويات و المدرسة الغربية تطورت تدريجيا لتكون معملا متطورا باستمرار لإنتاج أفراد اجتماعيين قبل أن يكونوا متخصصين. محمد عز الدين الصندوق كاتب عراقي ينشر بترتيب مع مشروع "منبر الحرية"
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©