الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الجواهري... صنّاجة الشعر العربي وثالث الرافدين

الجواهري... صنّاجة الشعر العربي وثالث الرافدين
13 أغسطس 2009 02:25
قامة سامقة في عنفوان القصيدة العربيّة، وآخر عمالقة الشعر العموديّ... حقيقة لا يمكن أن يتخاصم فيها اثنان، ولعلّه باستمراريته حتى التسعينيات قد أقام دليلاً فنيّاً من الدرجة الأولى على حيويّة عمود الشعر حين تعامل معه شاعر حقيقيّ وكبير بحجم هامة الراحل الشاعر العراقيّ محمّد مهدي الجواهريّ. تمر هذه الأيام الذكرى الثانية عشرة على الغياب، فقد رحل الجواهري بدمشق في27 يوليو 1997م. ثمة رحلة شاعر أفنى سِنِيّ حياته للشعر الرائق الراقيّ، ولكن كيف باستطاعتنا أن نستذكر قامة كالجواهريّ في رحلته بتلك العقود المُنصرمات، وهو يحثّ الخُطى في رياض الشعر العربيّ لتلفحهُ قوافيه المُتقدّة شَرَراً في هَجيرِ الأيام والدروب الصعبة والمنفيّة التي عاشها وعايشته ليروي ظمأه بنثيثِ ودفقات خلجات النفسّ الحائرة الملتهبة ألقاً وسمُواً كبيرين. من السيرة بقراءة سيرة حياة الجواهريّ التي أودعها في مقدمة الطبعة الكاملة لديوانه، نجد أنه مولود في مدينة النجف بالعراق عام 1899م. وتحدّر من أسرة عريقة في النجف، اهتمت بعلوم الفقه والأدب والشعر وعرفت بالجواهريّ نسبة لكتاب جليل اسمه «جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام» للمُحقق الحليّ، وألفه الشيخ محمّد حسن، وطار صيت الكتاب حتى عُرف به مؤلفه «صاحب الجواهر» ومنها جاء اسم عائلة الشاعر» آل الجواهريّ». وأشار في فصل من ذكرياتي: «هُنا ولدتُ» عن طفولته النجفيّة قائلاً: «وُلدتُ فوق أرض مِلْحيّة عطشى بالرغم من أنّها على مقربة ميل أو ميلين من مياه الفرات. على الحدّ الفاصل بين بساتين الكوفة والحيرة، التي كانت ذات يوم رياض العباسيين والساسانيين والمناذرة، وبين الصحراء الممتدة إلى نجد والحجاز حتى الربع الخالي. فانفتحت نظرتي الأولى على أفق الصحراء الممتد إلى الأبديّة، وتعلمتُ أوّل ما تعلمت، التحمل والزهد الذي يميز «صِلّ الفلاَة». ويضيف الجواهريّ سارداً فصولاً من مراحل طفولته: «كان البيت الذي وُلدتُ فيه ونشأتُ بقرب الصحن العلويّ. ولذلك تفتحت عينايّ أوّل ما تفتحتا، على هذه الفسيفساء العجيبة، المُتداخلة، المُتعارضة، ولن أنسى في الجملة من ذلك ما يتعالى على مقربة من سطح الدار من غناء المُغنين بأذان الفجر بخاصّة. ومع مشهد الحياة المتحركة المتقاطعة هذه، عرفتُ مشاهد الصراع بين الموت والحياة، وشواخصه منذ طفولتي...». أما والده الصارم فقد كان يسعى لإعداد ولده «محمّد» لكي يتبوأ مكانة دينيّة مُميزة وهو التقليد الجاري في أسر النجف، لذا فرض والده عليه منهجاً صارماً بعد أن ختم القرآن الكريم في أن يحفظ كلّ يوم خطبة، وقطعة من أمالي القاليّ، وقصيدة من ديوان المتنبي، ومادة من كتاب «سليم صادر» في الجغرافيّة. ويبدأ الصبيّ (محمّد) يحفظ طِوَال نهاره مُنتظراً ساعة الامتحان بفارغ الصبر، فإذا نجح فيه يُسمح له بالخروج ليلعب مع أترابهِ! وهكذا استمر الصبيّ يزيد من الحفظ حتى يحفظ خمسين وأربعمائة بيت شعر في ثماني ساعات ويربح «ليرة رشاديّة» في رِهان على ذاكرته وهو ابن الثالثة عشرة. وهكذا قاده ولعهُ المُبكّر في الشعر إلى الغوص في بحُورِه ودواوينه «سارقاً» مُعظم الجهد والوقت مما كان يُفترض أن يُوجَهُ نحو علوم الفقه والشريعة. إلى أن بدأ نظم الشعر في سِنٍ مُبكرة ولم يَبْقَ شيء يُذكر محفوظاً ومُوثقاً من تلك البواكير، وقد نشرت أول قصائده عام 1921م. احتفاء واحتفال ازدانت حياة الشاعر الراحل الجواهريّ بالكثير من المواقف والصفحات التي جعلته ينال أرقى الحفاوة والتكريم من رؤساء ومؤسسات ثقافيّة عربية ودَوليّة، فقد لبَّى دعوة الدكتور «طه حسين»، وزير المعارف المصري آنذاك لحضور «مؤتمر المثقفين» في الإسكندرية عام 1950م ، حيث أعلن طه حسين» خلال المؤتمر أنّ الجواهريّ ضيف مصر، وانتخب رئيساً لأوّل اتحاد للأدباء العراقيين. ونقيباً لأول نقابة للصحفيين، ثم استغل الدعوة لتكريم «الأخطل الصغير»عام 1961م، ليغادر العراق وليحلَّ ضيفاً على اتحاد الأدباء التشيكوسلوفاكي، وقد مُنِحَ عام 1975م جائزة الكتاب والأدباء الآسيويين - الأفريقيين «اللوتس»، ووفد الجواهريّ عام 1983م للإقامة في سورية بدعوة من الرئيس حافظ الأسد، ثم زار الجماهيرية الليبية عام 1989 بدعوة رسمية استقبله خلالها العقيد معمر القذافي ومنح هناك وساماً ليبياً رفيعاً. كذلك مُنِحَ الشاعر الكبير في نهاية عام 1991م جائزة «سلطان العويس» الإماراتية للإنجاز العلميّ والثقافيّ، وفي خريف عام 1991م، لبّى الجواهريّ دعوة «دار الهلال» لحضور احتفالات الذكرى المئوية لصدور مجلة الهلال في القاهرة حيث حظيّ باهتمام وحفاوة كبيرين واستقبله خلال الزيارة الرئيس حسني مبارك، وفي نهاية العام نفسه لبّى دعوة الحكومة الأردنية للمشاركة في حفل توزيع جوائز الدولة التقديرية لوجوه العلم والثقافة في الأردن، وقد مُنِحَ خلال تلك الزيارة وسام الاستحقاق الأردنيّ من الدرجة الأولى بقرار من الملك الحسين بن طلال، بعدها شارك في مهرجان «الجنادرية» الثقافيّ بالمملكة العربيّة السعوديّة عام 1995م بدعوة من خادم الحرمين الملك عبد الله بن عبد العزيز، ثم أقيم له في يوليو عام 1995م في مكتبة الأسد بدمشق احتفال تكريمي ضخم على الصعيدين الثقافي والرسميّ، وجرى تقليده وسام الاستحقاق السوريّ من الدرجة الممتازة تقديراً لتراث الشاعر الأدبيّ ومواقفه الوطنيّة. ولكن رغم هذه الحياة الحافلة بالإبداع والإنجاز الشعريّ والحفاوة والتكريم في مختلف دول العالم، فإنّ حياة الشاعر الجواهريّ قد توقفت فجر يوم الأحد 27 يوليو1997م ليرحل عن الحياة وتسقط قوافي الشعر الرصين، وليُدفن في مدينة دمشق بسوريا. شهادات للجواهريّة خلال حياة الشاعر محمّد مهدي الجواهريّ الحافلة بالمسرات والأحزان كان محطّ أنظار العديد من شعراء وكتّاب العرب المُعاصرين الذين أثنوا على إبداعه الشعريّ وخطّه الذي انتهجه في كتابة القصيد العربيّ الخليليّ الرصين. وحسبنا من هذه الشهادات الحيّة النابعة من الألفة والمحبة للشاعر أن نستقرئ مكانة ومنزلة الشاعر بين الشعراء العرب، لأنّ خير مَن يٌقيِّم المبدعين هُم المُبدعون الذين عاشوا التجارب وخبروا دهاليز هجير القوافي والإبداع الكبير. مَسْرَد الإبداع شغل إبداع الجواهريّ في مقام الشعر والقصيدة العموديّة، تلك الظاهرة الجواهريّة، عدد كبير من نخب المعنيين بالثقافة والسياسة، فنهلوا منها، وتعايشوا معها، كما نشروا عنها، وفيها، العشرات من المؤلفات والبحوث، إضافة إلى من المقالات والمقابلات، الصحفية والإذاعية المرئيّة والمسموعة، والتي ما فتئت تستمر، بل وتتزايد يومًا بعد آخر. ودونكم هذا المَسْرَد لبعض إصدارات عدد من الأكاديميين والباحثين والمؤلفين: «الجواهريّ شاعر العربية، عبد الكريم الدجيليّ 1969م، مجموعة دراسات نقديّة لهادي العلويّ وجبرا إبراهيم جبرا وداود سلوم وإبراهيم السامرائي وفوزي كريم وسليم طه التكريتي وهاشم الطعان 1969م، الجواهريّ ديوان العصر، حسن العلويّ 1995م، الجواهريّ جدل الشعر والحياة، عبد الحسين شعبان 1997م،الجواهريّ شاعر القرن العشرين، جليل العطية 1997م، الجواهريّ وسيمفونية الرحيل، خَيال الجواهريّ 1999م، الجواهريّ صنّاجة الشعر العربيّ، زاهد محمد زهدي 1999م، أصداء وظلال السبعينات، رَوَاء الجصانيّ 2001م، الجواهريّ دراسة ووثائق، محمّد حسين الأعرجي 2002م، في رِحَاب الجواهريّ، صباح المندلاوي 2002م، مجمع الأضداد، سليمان جبران 2003 م،عراق الجواهريّ : جواهريّ العراق ، محمد جواد رضا 2003م، والمرأة في حياة وشعر الجواهريّ، لديب علي حسن. مُعلقة دجلة الخير ضمّ ديوان الشاعر الراحل محمّد مهدي الجواهريّ قصائد جرت على ألسنة الناس لما فيها من إبداع ونقل هموم الناس ونقد للأوضاع السائدة أيامه، ومن عنوانات قصائده نذكر:» المقصورة، حبيت الناس، أزِح عن صدرك الزّبدا، يا غريب الدار، يا ابن الثمانين، برئتُ من الزحف، اطرطرا، يا ابن الفُراتين، أبو العلاء المعريّ، أخي جعفرا، الجواهريّ في بعض عربياته, ورائعته الشعريّة دجلة الخير التي سنذكرها بهذه المناسبة لأنّها مسك الختام، ولا مجال لذكر أنموذجات أخرى من قصائد الشاعر. فقد حفظنا ونحن طلاباً في مدارس العراق في المرحلة المتوسطة «الصف التاسع» ضمن مادة المطالعة والنصوص قصيدة الجواهريّ «دجلة الخير» التي أشاد بفضائل ومحاسن وصفات نهر دجلة العطاء والنماء، وجاءت كمعلقة شعريّة خالدة لنهر خالد بأبياتها الاثنتين والخمسين. و«دجلة الخير» القصيدة، بُنيان ضخم، أبهاؤهُ تتردد فيها أصواتٌ تذكرنا بهتفات الشعر العربيّ في تجلياته العظيمة، يقول الشاعر المصريّ فاروق شوشة عن هذه القصيدة الضخمة البناء: «ذابت في صوت الشاعر، وحملت سمته وملامحه، وسكب فيها غرامه وعنفوانه وحُميّاه، من فتوته، وعناده الصخريّ وكبريائه. رائعة الجواهريّ الجديدة جاءت كمُعظم روائعه الشعريّة فريدة ممتازة شامخة الذُرى، تلمسُ فيها الطبيعة الإنسانيّة في ثورتها وهدوئها، في آلامها وأفراحها، في تحرقها وحنينها إلى ما تصبُو وإلى ما حرمت منهُ بسبب من الأسباب». ومن أبيات القصيدة نقتطف الآتي: حيّيْتُ سفحكِ من بُعد فحييني يا دجلة الخير يا أم البساتين حيّيْتُ سفحكِ ظمآناً ألوذُ به لوْذَ الحمائم بين الماءِ والطينِ يا دجلةَ الخير يا نبْعاً أفارقُهُ على الكراهةِ بين الحين والحينِ إنّي وردْتُ عيون الماءِ صافيةً نبْعاً فنبْعاً، فما كانت لترويني وأنت يا قارباً تلْوي الرياحُ بهِ ليَّ النسائمِ أطرافَ الأفانينِ وددْتُ ذاك الشراع الرّخصَ لو كفني يُحاكُ منه، غداة البيْنِ، يطويني يا دجلة الخير: قد هانت مطامحُنا حتى لأَدنى طِماحٍ غيرُ مضمونِ أتضمنين مقيلاً لي سواسيةً بين الحشائشْ أو بين الرياحينِ خِلْواً من الهمِّ إلا همَّ خافقةٍ بين الجوانح أعنيها وتعْنيني تهزّني فأجاريها فتدفعُني كالريح تُعْجلُ في دفع الطواحينِ يا دجلة الخير: يا أطياف ساحرةٍ يا خمر خابيةٍ في ظلّ عُرجونِ يا سكْتَةَ الموتِ، يا أطيافَ ساحرةٍ يا خنْجَر الغدر، يا أغصان زيتونِ يا أمّ بغدادَ، من ظَرْفٍ ومن غَنجٍ متى التبغْددُ حتى في الدهاقينِ يا أمّ تلك التي من (ألف ليلتها) للآنَ يعبقُ عطرٌ في التلاحينِ يا مُسْتجمَّ (النواسيّ) الذي لبستْ به الحضارة ثوباً وشْيَ (هارونِ) ابن الثمانين إنّ سنيّه الثمانين وقد بلغها الجواهريّ من الكِبَر عتياً، فقد عاشت به ولم تعش له. عذابه له مذاقٌ عذب في ارتفاع الشاعر عن الحِطّة إلى فوق، وكأنّ (الفوق) يوم يستضيفه وطنّ عربيّ يشبع منه ولن يشبع به. ولعلّ ألم الشعراء ومثله ألم الجواهريّ بمثابة بلسم لجراح أمته التي تعيش الاحتراق حين لا تجد الكلمة دروب الصدق الحقيقيّ، تلك التي ينطفئ بها الحريق في وجدان الذين يشعرون بما هُمْ فيه. ويقول في ثمانينه الراحلات إلى البعيد البعيد: حسبُ « الثمانينَ « مِن فَخْرٍ، ومِن جَدَلِ غَشيانُها بِجَنَانٍ يافعٍ، خَطِلِ وناعمِ البالِ، نَشوان بما نَضِحَت كأسُ الحياةِ، وما أبقَتْ مِن الوَشَلِ وحاضِن لِبَنَاتِ الدهرِ، مضْطَلِعٌ بما تصرُف مِن بُرْءٍ ومِن عِلَلِ «يا للثمانين « ما مَلّت مَطاوحها لكن يُعاودها خوفٌ مِن المَلَلِ نفْسٌ تَجِيشُ بإعصارٍ وخافقةٍ تحِنُّ للكأسِ، والأسمارِ والغَزَلِ وأنتَ يا ابن«الثمانينَ » استَرَحتَ بها كما تظّننتَ مِن لَومٍ، ومِن عَدُلِ جاءت تُحييكَ في أعيادِها قِدُعٌ نكراءُ، لقنّها السّاداتُ للخَوَلِ يا ابن«الثمانين» صبراً أنتَ صاحِبُهُ فيما تضيقُ به الأضلاعُ مُحتَمِلِ عربيات للوطن الكبير خلال رحلة حياة الجواهريّ وعقودها الطويلة، شارك الشاعر في مناسبات عربيّة عدّة في الوطن العربي الكبير، وأنشد في تلك الأقطار الشقيقة قوافٍ وقصائد خالدة، مليئة بالصور والمواقف وحافلة بالرؤى نشير إلى بضعة أبياتٍ على سبيل الذكر لا الحصر. فكتب الخليج عام 1979م قائلاً: أفتيان الخليجِ ورُبّ ذكرَى تُعادُ ولا يملُّ المُستعيدْ بكم والصفوة الواعينَ تَاهت بأجمل واحةٍ قَطراءَ بِيْد فلسطين الحبيبة ومدينتها يافا التي حطّ الركاب بها فأمطرت غيثاً مدراراً، أشاد بها الجواهريّ في قصيدته عام 1940م: بيافــــــا يوم حـــــطّ بهـــا الرِكــــاَب تمطــــــــرُ عـارض ودَجــــا سَحابْ «فلسطيــــن» ونعـــــــم الأم هــــــذي بناتُـــــك كلّهـــــــــا خُــــــــــود كِعَـــــــــابْ أما مِصْر ونيلها الساحر الآسر ومسلتها فهي تستبق عند الشاعر الدهور، حيث يقول في قصيدته عنها والتي كتبها عام 1951م: يا مِصْر تستبق الدّهُور وتعثَرْ والنيلُ يزخرُ والمسلة تُزْهَرْ وبَنُوْكِ والتاريخ في قصبيهُما يتسابقانِ فيُصهرُون، ويُصْهَرْ وتغنى الشاعر الجواهريّ بالمغرب العربيّ عام 1974م، وأشاد بطنجةَ مدينة الرحالة العربيّ ابن بطوطة، وخاطبها قائلاً: للهِ دَرّكِ «طَنْجُ» مِن وطنٍ وقفَ الدلالُ عليهِ والغنجُ مَرَجٌ مِن «البحرينِ» فَوقهما ضوء النجومِ يَرفُّ والسّرِجُ كما أنشد عن بلاد الأرز» لبنان» بأبيات شاهدة على هذا البلد الفاتن الجميل، فقال: لبنانُ يا خَمرِي وطِيبي هلاّ لَمَمْتَ حُطامَ كُوبِي لبنانُ يا وطني إذا خلعت عن وطني الحبيبِ ونختم شواهد الشاعر الجواهريّ في عربياته، عن أرض القهوة اليمن السعيد، أرض سبأ وبلقيس وذي يزن، حيث قال فيها عام 1984م: مِن موطنِ الثلجِ زَحّافًا إلى اليمنِ تَسري بي الرِّيحُ في مُهرٍ بِلا رَسَنِ مِن مَوطنِ الثلجِ مِن خُضْرِ العيونِ بهِ، لمَوطنِ السّحرِ مِن سَمراءِ ذِي يَزَنِ عاش الشاعر محمّد مهدي الجواهريّ غربة قاسيّة عن وطنه العراق وعن بغداده الأثيرة، حاله حال مُجايليه من شعراء وكتّاب العراق الذين طوّحت بهم الفيافي في المنافي والذين ودعوا الحياة، ولم تُوار أجسادهم في ثرى الرافدين إنّما في هاتيك الديار القصيّة الغربية كعبد الوهاب البياتي، وبلند الحيدري، وغائب طعمة فرمان، وسواهم الكثير ممّن نُفُوا أو هاجروا أوهُجِرُوا، فكتب الجواهريّ قصيدته» يا غريب الدار» في مدينة براغ في خريف 1962م، تلك القصيدة التي يحسّ القارئ فيها بذلكم الشجن والألم الذي يعتصر فؤاد الشاعر المُرهف، وبقوافيه الناطقة بحرف الإطلاق لتصعد في الفضاء والآفاق الرحبة، فيقول في مطلعها: مَن لِهَمٍ لا يُجارَى ولآهاتٍ حَيَارَى ولطويٍّ على الجَمْرِ سِرَاراً وجِهَارا وبعد أن يسترجع الجواهريّ في أبيات قصيدته جَمر الفراق ولوعة الأسى في غربته عن ديار وطنه، فإنّهُ ينادي غريب الدار: يا غريبَ الدارِ لَم تَكْفَلْ لهُ الأوطانُ دارا يا» لبغدَادَ « مِن التاريخِ هُزءاً واحتقارا عندما يرفعُ عن ضيم أنالتهُ السِتارا حلاّتْهُ ومَرَت للوغدِ أخلاقاً غِزَارا واصطفت بُوماً وأجْلَتْ عن ضِفَافَيها كَنارا وأقامتْ مِن دم كَلسهُ الحقدُ، جدارا وأجالت أعيُناً حُوْلاً مِن الغيظِ ازورارا وأرتهُ الضحكةَ الصفراءَ عن خُبْثٍ تَوَارَى فهي كالشوهاءِِِِِِِِِِِِِِِِِِِ ألقَتْ، تستُر القُبْحَ، الخِمَارا واستجاشَت زُمر البغيّ نُفاياتٍ خُشَارا
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©