الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

قوة التخيل (3)

قوة التخيل (3)
13 أغسطس 2009 02:32
يعرف القراء أن بشار – زعيم المحدثين في الشعر العباسي – كان ينتمي إلى أصول فارسية ورومية مختلطة، وكان قريب العهد بالرق، إذ أعتق وهو طفل لما وجدته سيدته قد ولد أعمى لم ير النور، فاجتمعت فيه أعراق ثقافية متعددة، وواجهته تحديات اجتماعية وإنسانية باهظة، فتصدى لها بطاقة شعرية فائقة، عرف كيف ينتقم بها من عجزه، ويسمو بها على التمييز العنصري الذي مارسه الجميع ضده. كان الهجاء هو سلاح هذه الحروب الأهلية، الفردية والجماعية، على المستوى السياسي واليومي، فتمرس فيه بشار وأتقنه وذاق حلاوته ومرارة سهامه. يحكي أبو الفرج، مثلاً، أن أبا هشام الباهلي هجا بشار هجاءً لاذعاً فعرَّض بأمه وشرفها، مقسماً أنه سيمشي إلى البيت حافياً لو أن أم بشار كانت عفيفة. ولا يروعنك هذه الغلظة في السباب، ولا هذا الفحش في التعبير، مما تنبو عنه أذواق اليوم، فقد كان هذا هو السائد في العصور القديمة بالرغم من إطارها الديني وطابعها الحضاري، لكني أصدق صاحب الأغاني إذ يقول: «ولم يزل بشار منكسرا منذ قيل فيه ذلك!»، يقصد بيتين من الشعر يصعب إيرادهما هنا لقبحهما وفحشهما. غير أن ذلك يفيدنا في فهم غلظة بشار أيضاً وعنفوانه الشعري، ولا نريد أن نمضي في رواية مثل هذه النماذج القبيحة. لأنها ينبغي أن تندثر، وإنما نبعث من الأخبار ما يشير إلى أسباب هذه القوة التي وهبها بشار في مخيلته الجبارة، فقد حكي أنه أنشد قصيدته التي يقول فيها: «كأن مثار النقع فوق رؤوسنا وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه» فقيل له: ما قال أحد أحسن من هذا التشبيه، فمن أين لك هذا ولم تر الدنيا قط؟ فقال: إن عدم النظر يقوي ذكاء القلب، ويقطع عنه الشغل بما ينظر إليه من الأشياء، فيتوفر حسه وتزكو قريحته، ثم أنشدهم قوله: عميت جنينا، والذكاء من العمى فجئت عجيب الظن، للعالم موئلا وغاص ضياء العين للعلم رافدا لقلب إذا ما ضيع الناس حصّلا ولا زلت أذكر فصلا مدهشا كتبه طه حسين عن مصادر الصور الفنية عند الشعراء المكفوفين في رسالته الأولى عن أبي العلاء المعري وقد كتبها وهو في مقتبل عمره وفيها خلاصة فلسفة هذا الإبداع الذي يفجر طاقات التخيل ليثري الثقافة الإنسانية. وكانت قوة حدس بشار وقدرته على تصور ما لم يره مثار كثير من الحكايات والنوادر التي تشارف الأساطير، ويجتهد النقاد في تحليلها وتعليلها، من ذلك مثلاً ما يرويه ابن المعتز في طبقاته – وهو المهيأ بحكم نشأته في قصور الخلفاء وسماعه لتراثهم المتناقل أن المهدي قد اطلع يوما على بعض جواريه وهي عريانة تغتسل، فأحست به، فضمت فخذيها وسترت مقاعها بكفيها فلم يشملاه حتى انثنت فسترته بعُكن (ثنية) بطنها، فخرج المهدي ضاحكاً وبشار في الدار، فقال له: أجز هذا البيت: أبصرَتْ عيني لحيني فقال الشاعر على البديهة: «منظرا وافق شيني سترتـــه إذ رأتنـــــي تحت بطن الراحتين فبـــدت منه فضــــول لــم تُـــوار باليديــن فانثنت حتى توارت بين طي العُكنتــــين». فقال المهدي «والله ما أنت إلا ساحر، ولولا أنك أعمى لضربت عنقك، ولقد حكيت الأمر على وجهه حتى كأنك رأيته، ولكني أعلم أن ذلك من فرط ذكائك، وجودة فطنتك».
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©