الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

البيوت أسرار

البيوت أسرار
6 مايو 2010 21:08
البخيل والجاحدة نورا محمد (القاهرة) - ارتديت الملابس السوداء التي اعتدتها في السنوات الأخيرة بعدما فقدت زوجي وتوجهت إلى منزل صديقتي لتقديم واجب العزاء في وفاة زوجها وهي صديقة عمري ومخزن أسراري، هناك كل النسوة متشحات بالسواد، الدموع على الخدود والجميع في حالة حزن فالموقف الجنائزي مهيب أسفاً على الراحل. ودعنا الراحل، وجلست بجوار صديقتي أشد من أزرها وأساندها في فقد قرينها وأنا أعلم كم كانت تحبه، وبكيت كثيراً، وإن كانت كل باكية أو نائحة لا تبكي على هذا الميت وإنما على عزيز لها فقدته، وأنا كذلك لكنني لم أكن أبكي زوجي الراحل ولم أكن حزينة لفقدانه وموته، ولم يكن ذلك من قبيل جحود عشرته، ولا من باب عدم الوفاء، وإنما لما عانيته معه في حياته وحتى بعد مماته، وأي زوج نكدي أو سيئ الخلق من المؤكد أن زوجته سوف تستريح منه إذا غاب عنها مؤقتاً أو بلا رجعة لأنه خرج عن إطار المودة والرحمة، وتعدى حدود حسن العشرة، ولم يلتزم بدينه. انتحيت جانباً في مقعد وثير وغطيت وجهي ورأسي وعدت بذاكرتي إلى الخلف عندما جاء «سيد» الموظف البسيط ليطلب يدي من أبي، لا أعرفه ولم اسمع عنه ولم أره من قبل، ولم تكن لي وقتها شروط فيمن يتقدم لخطبتي، أود الهروب والنجاة من بيت أبي، أريد أن أتخلص من الفقر الذي نغرق فيه أنا وإخوتي التسعة من البنين والبنات الذين لا يستطيع الأب أن يلبي احتياجاتهم رغم انه يفعل كل ما في وسعه واعترف بأنه كان يبذل أكثر من طاقته من أجل مطالبنا الكثيرة التي كانت تفوق امكاناته، وحساباتي وقتها بسيطة، إذ أن أي شخص لن تكون حاله أسوأ مما نحن فيه، والدليل أن أختي الكبرى تزوجت وتحسنت أحوالها رغم أن زوجها أجير، لذلك لم يكن في تفكيري أي مطالب، ومن يتقدم لي فإنني سأوافق عليه على الفور مهما كانت ظروفه، وايضا فإن ابي لن يأخذ رأيي في هذا وسيعتبرني موافقة، لأنه يريد أن يتخلص من بعض الأعباء التي تثقل كاهله، وعندما شاهدت العريس، لم أجد فيه عيوبا وشكله مقبول وأوضاعه المالية ليست متردية، أما المميزات الأخرى التي لا حصر لها فأولها أنه مقطوع من شجرة، ليس له إخوة ولا أخوات، وفقد أبويه منذ سنوات، أي أنني سأتفرد بصفة يندر أن تتمتع بها فتاة غيري حيث لا أم زوج تنغص حياتي وتؤلب عليَّ زوجي وتكدر صفوي، وأيضا سأقيم أنا وهو في منزل مستقل وحدنا، صحيح هو مجرد غرفة ومطبخ وحمام، لكن يكفي انه بيت لي وحدي ولن يشاركني فيه أحد. عش الزوجية ليس في حاجة إلى كثير من الأثاث فقط كل ما تم شراؤه سرير وخزانة صغيرة للملابس، اما الأدوات الكهربائية من غسالة وثلاجة وبوتاجاز وخلافه، فلم يكن على أيامنا لها أي وجود، ولا يقتنيها إلا الأثرياء، ولم تكن لنا بها حاجة ولا نفكر فيها، وتم شراء بعض الملابس الجديدة وقطعتي مجوهرات بثمن بخس وبعد جلسة عائلية مسائية انتقلت إلى بيتي لأتعرف على زوجي عن قرب وأعيش معه. كان يبدو طيباً، لكن مشاعره مصابة بالجفاف، ويده مغلولة إلى عنقه، بخيل حتى النخاع، ويتحجج بضيق ذات اليد، فبعد ثلاثة أيام فقط من زواجنا خرج إلى عمله في الصباح الباكر، ويجب أن يعود بعد الثانية ظهرا، لكنه تأخر، وازداد قلقي كلما مرت دقيقة تلو الأخرى، ثم ساعة وراء ساعة، خشيت أن يكون حدث له مكروه، إلى أن انتصف الليل، وجاء يجرجر قدميه منهكا، لا يستطيع أن يفتح عينيه، رد على سؤالي ولهفتي عن سبب تأخره بأنه كان في العمل، وطلب مني أن اتركه لينام، فهو غير قادر على الحركة وارتمى فوق الفراش وفي لحظة كان يغط في نوم عميق، يسمع شخيره من على بعد أمتار طويلة، كاد الغيظ يقتلني لأنه أخذ الأمر ببرود ولم يحسب حساباً لمشاعري ولا لقلقي عليه، وفي الصباح استيقظ وهو متعجل يفرك عينيه مجاهداً لاستعادة بعض نشاطه وحيويته، وأسرع في ارتداء ملابسه كي يلحق بموعد العمل، وكل ما ودعني به كلمات مقتضبة، خلاصتها أن أتعود على ذلك التأخير، وربما عدم العودة من الأصل والأهم ألا اسأله ماذا يعمل ولا اين كان، فهو يعرف ماذا يفعل، ولا يريد أن يوضع في محل الاستجواب، وكي لا اتعب نفسي في التفكير في هذا الموضوع وفي البداية لم أفكر فعلا في ذلك واعتبرت أن هذه حياته وعمله ولا يجب أن أتدخل فيه. واعتاد زوجي أن يدس في يدي بعض النقود التي لا تكاد تكفي الخبز، واستطعت مع قلتها أن ادبر حياتنا، فمهمتي تنتهي عند الطعام والشراب، وهو لا يتناول شيئا في البيت لأنه اعتاد الاستيقاظ مبكرا ويخرج متعجلا ويعود متأخرا وينام من فوره على السرير وقد تمر أيام دون أن نتبادل بعض الكلمات، انقطعت لغة الكلام بيننا، ونسينا التواصل والحوار واصبح ذلك هو المعتاد، حتى يوم إجازته الأسبوعية الذي كان يصادف الجمعة، يعوضه في النوم حتى اقتراب الصلاة ثم يخرج إلى المسجد وبعدها يختفي ولا يعود إلا في موعده المسائي، وانقطعت علاقاتي بالعالم الخارجي، فلا تعاملات لي مع الجارات وليس له أقارب أزورهم أو يزورونني، وقليلا ما يزورني أبي وأمي أو أحد إخوتي، فأصابني الملل والضيق وامتلأ صدري غيظا وأنا أعيش في هذا السجن كأن عقد قراني عليه كان حكما واجب التنفيذ، حبس مدى الحياة بلا نقض أو إبرام، لكن الأهم من هذا كله أنني أعيش مع زوج غامض، مثل البحر الكبير لا أرى له شواطئ ولا حدودا ولا أعماقا، تحولت إلى قنبلة وانفجرت فيه، أعلنت الثورة عليه طالبت بالحرية ومعرفة الحقائق فإذا بكل برود يجيبني بأنه عاش طوال حياته في طفولته وصباه محروماً من كل شيء، خرج إلى العمل منذ نعومة أظفاره، تحمل مسؤولية نفسه ونفقاته في الحياة والتعليم إلى أن حصل على شهادة متوسطة ألحقته بوظيفة حكومية ومع هذا لم يترك العمل الحر ويواصل الليل والنهار من أجل لقمة العيش وقد عانيت أنا من الفقر أيضا، فاقتنعت بكلامه إلا انني لم أشعر يوما بأي تحسن في حياتنا ومازلنا نعيش عند النقطة التي التقينا عندها بلا تقدم. هل تصدقون أنني لا اعرف وظيفة زوجي الحكومية، ولا العمل الحر الذي يمارسه ولا أعرف راتبه ولا أي شيء عن دخله والأغرب أنني لم أر معه أموالا، وعندما تجدد بركان ثورتي اصطحبني إلى منطقة مجاورة وأشار لي إلى قطعة ارض صغيرة وقال: هذه لنا سنبني عليها بيتاً ينقلنا من الضيق إلى السعة والاستقلال، وبقدر ما كنت غاضبة لأنه يتصرف دون اعتبار لرأيي بقدر ما كنت سعيدة بهذه الخطوة، واستمر في حياته هذه الرتيبة حتى بعد ما رزقنا بأربعة أبناء بينهم فتاة وفي معظم الأحيان لا يرونه ولا يراهم بسبب نظامه اليومي، وانتقلنا إلى منزلنا بعد ما تمكن من بنائه من طابق واحد وشعرت لأول مرة بالفارق بين حياتي الأولى، وحياتي الآن لكن زوجي كما هو أو ربما يزداد غموضا وحتى عندما بدأ الأبناء يكبرون والتحقوا بمراحل التعليم ومنهم من وصل إلى الجامعة ظلوا لا يعرفون عن أبيهم شيئاً، لم استسلم يوما لهذه الألغاز، لكني اعترف بأن كل أسلحتي ووسائلي فشلت في اختراقه، رغم ذلك لم أتوقف وان كانت كل جهودي ضاعت سدى، وكل ما زاد على حياتنا انه قام ببناء طابق آخر بالمنزل أما ما عدا ذلك فظل على ما هو عليه، وتعجب كل من يعرفونني من قدرتي على الاحتمال، ولم يخل الأمر من تأليبي عليه ودفعي لإعلان التمرد والعصيان، لكني لم استطع والحقيقة المرة أنه يمكنه أن يستغني عني وعن الأولاد في سبيل ألا يقترب أحد من أسراره وهو ينكر أن في حياته أسرارا وعشنا فيما يشبه الضنك إلا قليلا. مرض زوجي وساءت حالته الصحية، لم نجد من المال ما تذهب به إلى الطبيب ولا شراء الدواء، حتى جاء من لا نعرفه يقدم لنا بعض الأموال ولا نعرف من هو ولا لماذا؟ وتم انفاقها بسرعة، وبعد عدة أسابيع انتقل زوجي إلى الرفيق الأعلى وهو في الخمسين من عمره، بعد عشرة دامت ثلاثين عاماً وكأنني خلالها لا أعرفه، وبالطبع يمكنني أن أقول إنني لم أعرفه فقد تم استخراج إعلام الوراثة، وحصلنا على مبالغ زهيدة من وظيفته الحكومية، لكن بدأت بعض الحقائق تتكشف عن زوجي عندما جاء المتعاملون معه من ذوي الضمير الحي يقدمون لنا أموالا طائلة كانوا مدينين له بها، فهم تجار صغار وهو تاجر كبير، كان يمارس التجارة في كل شيء، واكتشفنا انه يملك محال وشركات صغيرة، لم نكن ندري عنها أي شيء وتقدمنا بطلب لمعرفة ما إذا كانت له أموال في البنوك، وكانت المفاجأة الكبرى أن عثروا له على رصيد كبير، وجرت الأموال في ايدينا لأول مرة في حياتي وحياة أولادي بعد طول حرمان، لكنها كانت لنا مثل الماء الغزير أو السيل الذي جاء لشخص كاد يموت من شدة العطش وسط الصحراء في قيظ الصيف لم نجد فيها متعة لأننا جميعا غاضبون من تصرفاته ومن حرمانه لنا منها بغير مبرر. ما يؤرقني أكثر أنني لم استطع أن أسامحه على ما فعل بي وبأبنائه اعتبر انه تعمد أن نعيش في هذا الحرمان، وهذه الأموال تجري بين يديه وطاوعته نفسه على ذلك، فشقيت معه، وشقيت بعده لذلك لا ابكي عليه وإنما ابكي تصرفاته ولا أعرف إن كنت أنا الجاحدة أم أن زوجي كان قاسيا وبخيلا لدرجة تحجرت معها دموعي على فراقه.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©