الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
علوم الدار

«البعد الاستراتيجي في فكر الشيخ زايد»

«البعد الاستراتيجي في فكر الشيخ زايد»
9 ابريل 2018 17:39
بقلم الإعلامي : د. محمد سعيد القدسي لم يعد مصطلح الاستراتيجية قاصراً على النواحي العسكرية، بل شمل المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية كافة، بصفة عامة، وقد تفرعت المعاني فأصبح هناك تمييز بين الاستراتيجية العليا أو العظمى والوطنية والعسكرية والسياسية، ولذلك كان على الزعيم أو القائد أن يملك النظرة الاستراتيجية الشاملة التي تمكنه من اختيار الزمان والمكان المناسبين، حتى يأتي قراره بالنتيجة المطلوبة سواء في زمن السلم أو الأزمات، وقد ميزت النظرة الاستراتيجية الشاملة مواقف الشيخ زايد، رحمه الله، كافة، منذ أن تولى المسؤولية حاكماً لأبوظبي في شهر أغسطس عام 1966 ، ورئيساً لدولة الإمارات العربية المتحدة في شهر ديسمبر عام 1971 . ومن خلال متابعة إنجازاته المبكرة نجد أنه كان يتسم بميزتين لم يتمتع بهما كثيرون من القادة، وذلك من ناحية خياله الواعد وحبه للعمل العام من أجل شعبه، ولولا خياله الواعد لما تمكن من حل المشكلات الجوهرية لسكان العين والمنطقة الشرقية، والقبائل من حولها دون إمكانات مادية تذكر، ثم إن حبه للعمل العام جعل من أبوظبي أولاً واحة من الواحات الجميلة والحديثة في العالم، وبلا شك فإن القدرة على التخيل والتصور تمنح المفكر الاستراتيجي رؤية ثاقبة تربط بين الإمكانات المتوفرة وبين تنفيذ المشروعات والسياسات المطلوبة. وهنا تعيدنا الذكرى إلى أن الشيخ زايد، طيب الله ثراه، كانت أحلامه في مدينة العين والمنطقة الشرقية كبيرة، وكان يعتمد على إيمانه الراسخ بتحقيقها في مجال الزراعة والتجارة والتطوير العمراني، ولم يكن يعتمد على احتمال اكتشاف البترول في أبوظبي، ويقول، رحمه الله: ( ما كان أحد يحلم بذلك ولم أعرف عن البترول حتى رأيت الشركات التي تطالب بامتيازات البحث والتنقيب عن البترول، وعرفت أن البترول موجود قبل أن أكون في العين، وإذا أصبح لدينا بترول فالعائد منه يمكن أن ننفقه على المشروعات، فالبترول موجود لكنه لم يكتشف بعد وعندما تم اكتشافه لم يكن قد بدأ تصديره بعد، وحتى قبل هذا اليوم كنت أخطط لإنشاء طرق وغيرها من الخدمات الضرورية ). وبهذا المثال نرى أن الشيخ زايد، رحمه الله، بفكره الاستراتيجي ينظر دائماً إلى المستقبل بحيث لا تصدمه مفاجآت لم تكن في الحسبان، وعنصر التوقيت لا يقل في أهميته عن عنصر الإعداد، وهي حقيقة وضعها دائماً في اعتباره، وفي هذا يقول لأحد الكتاب العرب: (الحقيقة أن الإنسان في حياته تتولد في رأيه وفكره أشياء كثيرة يرغب في تنفيذها على أرض الواقع ولكنه لا يستطيع لعدم توافر القدرة والإمكانيات المادية لديه، ولكن إذا يسر الله، سبحانه وتعالى، الأمور على عباده فسيصبح تنفيذ هذه الأشياء واقعاً، وإذا ما توافرت الرغبة والإصرار على عمل شيء سيكون، أما إذا لم تتوفر الرغبة والإصرار فلن يستطيع أن ينفذ أي عمل أو مشروع حتى ولو توفرت له القدرة والإمكانية المادية لذلك سواء كان هذا العمل في الزراعة أو السياسة أو أي مجال آخر). ومن هنا كان الشيخ زايد، رحمه الله، يرى أن الإرادة والإصرار والرؤية الصحيحة من العوامل التي تحيل النظرة الاستراتيجية إلى واقع، حتى في غياب الإمكانات من خلال إعادة صياغة الواقع الراهن، لأنه لا يوجد وطن بلا إمكانات وطاقات مهما بدا حظه ضئيلاً في الثروات الطبيعية، إذ يرى، رحمه الله، أن الإنسان هو الثروة الحقيقية التي إذا ما استعملت على الوجه الأمثل فإنها كفيلة بتفجير كل الطاقات وابتكار كل الإمكانات. ومما قاله، رحمه الله، في هذا السياق لعدد من الصحفيين العرب والأجانب في شهر أبريل 1973 : ( إننا يجب أن نعيد النظر في إمكاناتنا وقدراتنا ونعمل من أجل وطننا فليس هناك أثمن من العمل المخلص، والإنسان لا يعرف ما يواجه بعد ساعة أو غداً، لقد واجهتنا في الماضي صعاب عديدة لدرجة أن الكثيرين ظنوا أننا سنحتاج إلى القروض لبناء بلدنا، ولكن الحمد لله ها نحن نبني بلدنا دون أن نلجأ إلى أحد، وقد تصرفنا وعملنا بقدر ما في أيدينا وطاقتنا ، وها نحن نكتسب العلم والخبرة لبناء حاضرنا ومستقبلنا ). للعلم موقع في النظرة الاستراتيجية ترى نظرة الشيخ زايد، رحمه الله، الاستراتيجية أن العلم والتعليم هما الهدف الأسمى، أما الوظائف والمناصب حتى العليا منها لا قيمة عملية لها إذا لم تترجم نفسها إلى إنجازات مادية ملموسة، فالعلم ليس مجرد معلومات مخزونة والتكنولوجيا ليست شعارات توحي بتحديث المجتمع ، بل هما أسلوب عمل لتحقيق أهداف الوطن، ولذلك يجب وضع الاستراتيجية التي تحدد مجالات البحث العلمي والإنتاج الوطني على أسس اقتصادية وعلمية، وهذا يحتم أيضاً وضع حد لعملية التوجه نحو التعليم طلباً للوظائف فقط وبين الخبرة والتجربة العملية التي تقوم بتنفيذ سياسة البناء الوطني على أرض الواقع بهدف تطوير الخبرة المكتسبة إلى قدرة ذاتية نابعة من صميم التكوين الوطني لشعب دولة الإمارات، وفي زيارة للشيخ زايد، رحمه الله، إلى جزيرة مبرز، وهي مركز نفطي أشار لوزيرين رافقاه في الزيارة قائلاً : ( يجب ألا يفهم الخريج بعد أن يتسلم منصبه أنه حقق هدفه بعد أن حصل على الشهادات وأنه وصل إلى المنصب وانتهى الأمر .إذا قال المواطن هذه العبارة فهو الذي انتهى ولا أمل فيه لخدمة بلده وأمته. إن من واجبات هذا المواطن أن يعمل ويتعب ليل نهار لرفع مستواه ما دام حياً، أما إذا عمل لفترة ثم توقف بحجة أنه حقق أمله فقد نسي أمته ونسي شعبه وأهله. يجب إعلام شبابنا بذلك، إذ ليس الحصول على الشهادة والحصول على المناصب هو كل شيء، بل يجب عليه أن يواصل عمله من أجل نفسه ومن أجل أمته ويؤدي دوره لبناء مستقبل بلده). الدقة في التفاصيل طالما ارتبطت بالمواطن هذه النظرة الاستراتيجية كانت على الدوام مساحة مهمة في فكر الشيخ زايد، طيب الله ثراه، تناول من خلالها المواضيع التي تهم الوطن والمواطن كافة، مهما كانت بسيطة أو مهمة. وعلى سبيل ذكر دقة ملاحظته، عند قيامه بجولة يتفقد فيها إقامة عدد من القرى حيث جاء تعليقه على الرسوم الهندسية بقوله : ( كل شيء جميل على الورق ولكنه لا يناسب البدوي الذي سيسكن هنا ، أولاً : لا يجب وضع المدارس متجاورة كما في المخطط بل يجب أن توضع مدرسة البنات في طرف القرية، والبنين في الطرف الآخر لأن هذا الفصل يجعل ابن البادية الذي لا تلائمه فكرة الاختلاط أكثر قابلية للاقتناع بإرسال ابنته إلى المدرسة. ثانياً : المسجد يجب أن يوضع في التخطيط على الطريق العام مما يسهل وقوف السيارات والعابرين لينزلوا للوضوء والصلاة . ثالثاً : يجب أن تقسم بيوت القرية المائة على جانبي الطريق العام، خمسون على كل جانب حتى يتوزع العمران. رابعاً: يجب أن تنشأ خلف القرية مزارع لكل بيت مزرعة مستقلة مساحتها 500/&rlm&rlm500 قدم، ويجب ألا تسلم هذه المزارع للسكان إلا بعد أربع سنوات من تسلمهم بيوتهم إذ أن الهدف من هذه القرى هو ربط ابن البادية بالأرض، وهذا لا يكفي لتأمينه البيت الذي سيستلمه، وسوف يجد في مزرعته النخيل الذي يحبه والأشجار المثمرة، وهذا يغريه بالتمسك والاستقرار، ولذلك علينا أن نتولى العناية بها والإنفاق عليها أربع سنوات حتى يكون النخيل مثمراً. خامساً : يجب أن تترك مسافة عشرة كيلو مترات بين كل قرية وأخرى حتى يكون هناك خمسة كيلو مترات لكل قرية لرعاية الإبل والماشية ). إلى هذا الحد من الدقة بلغت الرؤية الاستراتيجية للشيخ زايد، طيب الله ثراه، علما أن تلك النقاط حول القرى الجديدة كانت ما تزال رسوماً على الورق، وهو بهذا يضع العامل البشري والظروف الاجتماعية والبيئية في الاعتبار، وهذا هو السبب في نجاح الإنجازات والمشاريع التي حققها على أرض الواقع. وفي حديثه إلى الصحفي كلود مورس في يوليو 1974 قال رحمه الله: (في الواقع عندما لمست احتياجات شعبنا اضطررت إلى تحمل المسؤولية، ولم أفعل ذلك وأنا جاهل لما تحمله من مشاكل وصعاب، على العكس فقد كان عندي تصور كامل لما سيكون، والحمد لله فقد نجحنا في مواجهة المسؤولية وتغلبنا على الصعاب وقد لمست بنفسي المنجزات التي تحققت في كل مكان في دولتنا ولمست سعادة المواطنين بها، وبالإضافة إلى ما حققناه بالداخل، فقد بدأت دولتنا تلعب دوراً هاماً في الخارج وأقامت علاقات وثيقة مع كثير من الدول ). المواطن المتعلم وبناء الوطن هذا التصور لما سيكون مستقبلاً كان الأساس الذي بنى عليه الشيخ زايد، رحمه الله، نظرته الاستراتيجية لكل جوانب التنمية في الإمارات، ومن هنا ربط بين العلم الحديث وبين احتياجات المجتمع كي يأخذ الدارسون والباحثون مادتهم العلمية منها بما يفيد مجتمعهم. ويقول رحمه الله في حديثه إلى الصحفي موريس في الحديث نفسه: ( لقد بدأنا بالفعل تدريب المواطنين في كل المجالات لكي يقوموا بتولي المسؤوليات الملقاة على عاتقهم، ونحن الآن نستعين بالخبرات من أبناء الدول العربية الشقيقة لسد حاجتنا، وفي كل عام يتخرج عدد من المواطنين المؤهلين والمدربين على أعلى المستويات وسوف يأتي اليوم قريباً حين يقوم أبناؤنا بسد حاجات البلاد من الخبرات). كان ذلك من حديثه، رحمه الله، في يوليو 1974 ، أما حديثه في مارس 1983 إلى وكالة أنباء الإمارات بعد أن شهد تخريج دفعة من أبنائه من جامعة الإمارات ومن الكلية العسكرية فقد أكد: ( أن الرصيد الاستراتيجي لأي أمة متقدمة هو أبناؤها، وأبناؤها المتعلمون بشكل خاص لأن رقي الأمم يقاس بمستوى التعليم وانتشاره فيها، ولذلك توسعت الدولة في تقديم الدعم المادي والمعنوي لزيادة حجم التعليم بفروعه المختلفة واتساع رقعته إيماناً بأنه الرافد الحقيقي لثروة الأمم والضمان الفعال والأقوى للغد الأفضل، بعون الله ) إن هذه النظرة لم تصدر عن حلم في الخيال ولكن بنيت على إمكانات طبيعية وبشرية متاحة وقابلة للاستخدام الأمثل إذا ما توفر المنهج العلمي الذي يستفيد من دروس الماضي سلباً وإيجاباً. تجنب المشاكل مع الدول الأخرى أبرز توجهاته الاستراتيجية كان من أهم ثوابت النظرة الاستراتيجية للشيخ زايد، رحمه الله، العمل الدائم على تجنب المشاكل التي قد تتسبب بعرقلة العمل الوطني في بناء وتطوير قدرات دولة الإمارات، ومن هنا نجد أن نظرته في كثير من الأحيان تبدو وكأنها تعتمد على تجنب الخصومات وعبور الأزمات وتجاوز المشكلات التي لا يعود الدخول فيها بأي نتائج إيجابية، ويؤكد رحمه الله، هذه الصورة للوزراء بعد أدائهم اليمين الدستورية في شهر يوليو عام 1983 بالقول : ( لا شك أنكم في صورة الوضع الداخلي والتطورات الخارجية، والجميع يعلم أن دولة الإمارات منذ أن قامت ليس لها خصومة مع أحد). ولذلك كان فكره يتجه إلى العمل الحثيث من أجل إزالة كل أجواء العداء والخصومة التي قد تحدث على المستوى العربي أو الدولي، والتي كان يرى فيها خسارة لكل الأطراف إلى جانب أنه لو سادت قيم السلام والمحبة والإنسانية لانطلقت أجواء العالم إلى آفاق راقية، ومن هنا كانت نظرته ترى أن السلام عنصر حيوي في تحقيق رؤيته الاستراتيجية بأهدافها المرسومة من أجل خير ومصلحة الإمارات أولًا والإنسان في كل مكان. ويجسد، رحمه الله، هذا المفهوم في رسالته إلى مؤتمر عدم الانحياز الذي عقد في نيو دلهي في يونيو عام 1989 بمناسبة الذكرى المئوية لمولد الزعيم الهندي جواهر لال نهرو قائلاً : (إن إقامة الأمن والسلام الدوليين تتطلب استكمال عملية تصفية الاستعمار والقضاء على السيطرة والاحتلال الأجنبي بكافة أشكاله والتعجيل بعملية تمكين الشعوب التي ما زالت ترزح تحت نير الاستعمار والسيطرة الأجنبية من الحصول على حقها في تقرير المضير والقضاء على سياسة الفصل والتمييز العنصري وتعزيز مبادئ الاستقلال الوطني للدولة وسيادتها وسلامة أراضيها). ومن هذا الفكر للشيخ زايد، رحمه الله، نجد أن النظرة الاستراتيجية التي لا تتخلى عن مبدأ السلام العادل أصعب من تلك التي تضع الحرب والعدوان في اعتبارها دائماً، ذلك أن النظرة السلمية تحتاج إلى تفكير دؤوب وصبر جميل وحكمة عميقة. السلام أساس النظرة الاستراتيجية كان الشيخ زايد، رحمه الله، يرى أن السلام هو القاعدة التي تقوم عليها نظرته لأن المفروض في الحرب أن تكون مجرد استثناء عابر إذا لم يمكن تجنبها من الأصل، خاصة أن الحرب الحديثة أصبحت كابوساً مرعباً بسبب أسلحة الدمار الشامل التي يمكن أن تقضي على الجنس البشري كله إذا ما أطلق لها العنان، والسلام لم يعد قضية تهم شعباً دون آخر، فقد أصبح العالم قرية صغيرة إذا ما اندلعت النيران في طرف منها فإنها سرعان ما تمتد إلى بقية الأطراف، وفي هذا السياق يقول الشيخ زايد، طيب الله ثراه، في رسالته إلى قمة عدم الانحياز : ( إن قضية نزع السلاح الشامل والكامل ولا سيما نزع السلاح النووي مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بقضية الأمن والسلام الدوليين، ولذلك فإن نزع أسلحة الدمار الشامل يعتبر مطلباً أساسياً لتحقيق السلام والوئام بين سائر شعوب العالم . وقد أصبح هذا المطلب هدفاً أساسياً تسعى إليه البشرية جمعاء). ومن الملاحظ أن هذه النظرة ليست مجرد شعار براق يدعو الحكام والشعوب إلى نبذ الحروب والعدوان والعيش في هدوء وسلام، بل هي نظرة علمية تشترط وجود ضمانات سياسية واقتصادية واجتماعية حتى يقوم السلام على أسس راسخة، فالسلام بلا عدالة اقتصادية، وتنمية اجتماعية، هو استسلام وظلم، ومن هنا يقول الشيخ زايد، رحمه الله: ( إن صلاح أحوال جميع الشعوب يعتبر عنصراً أساسياً في تحقيق سلام دائم وعادل في العالم، ولذلك لا بد من سد الفجوة بين البلدان النامية والمتطورة من خلال إقامة علاقات اقتصادية دولية صادقة ومنصفة، ولا بد هنا من التأكيد بأن السلام والتنمية صنوان لا يفترقان، وتحقيقاً للمبادئ التي ذكرناها فإنه يتطلب من جميع البلدان إقرار واحترام حق جميع الشعوب في اختيار نظامها السياسي والاقتصادي والاجتماعي، والسبل التي تنتهجها لتحقيق التنمية وممارسة تلك الحقوق دون تهديد أو إجبار أو اعتراض أو تدخلات خارجية). مجلس التعاون والآخرون تتمثل الخطوة الثانية في نظرة الشيخ زايد الاستراتيجية، طيب الله ثراه، في التعاون الإيجابي سواء بين الدول الشقيقة أو دول العالم، فالسلام ليس مجرد استقرار الحال على ما هو عليه، ولكنه تطور متواصل، ولذا كان، رحمه الله، بكل جهده وفكره وراء كل كيان ينهض من أجل ترسيخ قيم التعاون، لكنه يؤكد على ضرورة توفر شروط وظروف معينة حتى تتحقق خطوات وطنية على أسس صلبة، ولذلك قال الشيخ زايد، رحمه الله، مخاطباً تجمعاً صحفياً كبيراً في شهر مايو عام 1981 عندما سأله أحدهم عن رأيه فيما طالبت به بعض الدول في الانضمام إلى مجلس التعاون الخليجي مثل اليمن الشمالي في ذلك الوقت والصومال : (كل شيء له بداية وأساس، فالقلعة أو العمارة تبدأ من طابوقة واحدة، والأشقاء في دول الخليج أراد الله لهم أن يخطوا خطوة التآزر والترابط فيما بينهم حتى تتكامل الخطوات، ولكل شيء ملحقات، ولا بد أن يكون هناك شيء من الملحقات بعد أن تقوم القاعدة ، ولا بد للإنسان أن ينظر إلى أوضاعه في البداية وفي النهاية وستكون هناك أشياء أخرى. وقادة دول مجلس التعاون قاموا لوحدهم بالتعاون وهذا ما يدل على الروابط الأخوية التي تؤازر بعضها في أية محنة وفي أي مجال، فلا هي تريد البعد وعزل أي شقيق، بل إن عقيدة الدول الأعضاء أن يكون هذا التعاون في الخليج دعماً لكل الأشقاء العرب في &zwnjأي جزء من الدول العربية بعدت أو قربت، ولكن هناك أقاويل سمعناها، مثل إن هذا المجلس انعزال عن الجامعة العربية، ولكن صاحب هذا القول مغرض، وهو قول غلط ). وبذلك كشف الشيخ زايد، رحمه الله، المغرضين الذين كانوا يخلطون عمداً بين التعاون والتمحور، إذ أن عملية استقطاب قوى ضد قوى أخرى من شأنها رش بذور الشقاق والمواجهة والصراع، أما التعاون ولو كان جزئياً فمن شأنه أن يصبح بذرة لتعاون أشمل. ومما قاله الشيخ زايد، رحمه الله، في المؤتمر الصحفي نفسه: (إن تعاون دول الخليج هو دعم للأمة العربية بأسرها وللجامعة العربية بشكل خاص، وهو دعم وقوة ساري المفعول لهذه الأمة، كما أنه يعزز ويدعم الروابط مع الأصدقاء، وعلى الأمة العربية أن تسعى لتبني نفسها وتقيم تعاوناً فيما بينها وتحذو حذو دول الخليج في الترابط والتعاون سواء كان ذلك في الشرق الأوسط أو الغرب. هذا كله يشكل قواعد لهذه القلعة وتقوية لها، ونحن نبارك كل تعاون بين الأشقاء مرة وعشر مرات، ونطالب إخواننا بكل إخلاص بالتعاون ،لأنه لا يمكن استرجاع حقوق إخوتنا العرب إلا بالتعاون والتآزر ). إن البعد الاستراتيجي عند الشيخ زايد، رحمه الله يؤكد أنه يمكن أن يسعى جاهداً من أجل اللحظات التاريخية وذلك بالتوعية وحشد الطاقات والقدوة العملية بضرورة ما ينادي به، فالزمن عنده عنصر محايد لكنه تحت تصرفه، وهناك زعماء يسبقون الزمن، وهو في مقدمتهم بينما آخرون يسبقهم الزمن. ومن الواضح أن قيام دولة الإمارات العربية المتحدة وتأسيس مجلس التعاون الخليجي وغيرهما من الإنجازات التاريخية لهو من الدلائل على أنه من الزعماء الذين سبقوا الزمن اعتماداً على نظرته الاستراتيجية التي استشرفت آفاق المستقبل، ووضعت في اعتبارها الإمكانات المتاحة كافة، وكل الاحتمالات التي قد تبرز من وقت لآخر. قال الشيخ زايد، رحمه الله، لصحيفة المستقبل التي تصدر في باريس في شهر أبريل عام 1979: ( الأشياء والظروف لم تعد تسمح بالصبر كما كانت من قبل، تغيرت الأمور كثيراً، ما كان موجوداً قبل سنوات لم يعد موجوداً الآن . الأوضاع انقلبت في المنطقة بشكل جذري، أنا أقر معك أن الأمور يجب أن تتغير، بعد ثماني سنوات التغيير يجب أن يحدث. عندما كنت صغيراً كنت أسمع ممن هم أكبر سناً المثل القائل «لكل زمان دولة ورجال» ، وكنت أتساءل عن معنى هذا المثل، حتى أدركت أن الرجال هي التي تغير ولا تتغير، تتغير التيارات المحيطة بها..نعم، الزمان يتغير ومعه الدولة والظروف المحيطة بها، إنما الرجال هم أداة التغيير، التغيير الذي أحدثناه أننا أوصلنا الجميع إلى الإيمان بالاتحاد والتضامن وأدركنا أن التيارات التي تحيط بنا هي التي توجب هذا التغيير، والتي يجب أن تخرج الاتحاد إلى دولة قوية حديثة تقف في وجه المتغيرات في المنطقة). النظرة الاستراتيجية تركز على المستقبل والأجيال من الفترة المبكرة لاجتماعات الشيخ زايد، رحمه الله، بإخوانه الحكام من أجل إقامة الاتحاد اعتاد أن يواجه بكل تفكير وحكمة الصعوبات الراهنة، أو تلك التي يمكن أن تظهر بسبب كثرة الموضوعات التي كان يناقشها المجلس الأعلى للاتحاد أو المجلس الاتحادي المؤقت، وكان، رحمه الله، يقوم بدور الوالد نحو أبنائه متمسكاً بالصبر والتوعية المستمرة والأسوة الحسنة، وذلك لأن المشكلة في نظره لا ترتبط بالمواطن فحسب، بل تمتد لتشمل المصلحة الوطنية في نهاية الأمر، مما ينتج عنه قضايا شكلية أو حساسيات لا لزوم لها في وقت يحتاج فيه الوطن إلى كل دقيقة وإلى كل جهد لمواكبة إيقاع الزمن السريع. وعلى سبيل المثال لهذه الشكليات ذكرت إحدى مواد الدستور المؤقت قبل قيام الاتحاد على أن تقام العاصمة الكرامة بين دبي وأبوظبي. وبسعة صدر الوالد وحرصه وبعد نظره كان له هذا التوجه الذي حملته صحيفة الرأي العام الكويتية في شهر أبريل عام 1979 : (هل المطلوب منا أن نهدر أموالنا في قضية شكلية ؟ وهل من الضروري أن نقيم مدينة جديدة لتكون عاصمة في الوقت الذي يتوفر لدينا عدد من المدن كل منها بما تملكه من مقومات مدينة حضارية ووسائل عصرية تصلح لتكون هذه العاصمة المطلوبة. لم لا تكون أبوظبي أو دبي أو الشارقة عاصمة للدولة ؟ لم لا نوفر الأموال للأجيال القادمة التي لن تغفر لنا عملية بناء مدينة جديدة دون مبرر مقنع وضرورة عملية واضحة ؟ أنا أفهم أن تبني الدولة مدينة أو بلدة في قلب الصحراء لتوطين البدو مثلاً، ونقل خدمات الحضارة إليهم، أو تبني الدولة بلدة أو قرية وسط منطقة زراعية لضرورات التسويق والإرشاد الزراعي، أما أن نبني عاصمة جديدة بوجود عواصم في الدولة، فلا أظن الأمر مستقيم مع منطق الأشياء، وأنا إذا قلت عواصم فإنما أعنيها فعلاً لا مجازاً ). هذه النظرة الاستراتيجية كانت الصفة المميزة لفكر الشيخ زايد، رحمه الله، ذلك أن عينه كانت دائماً إلى المستقبل وأجياله القادمة التي عليها أن تواصل مسيرة تدعيم وترسيخ الصرح الاتحادي امتداداً لمعطيات الحاضر. النظرة الاستراتيجية للشيخ زايد، رحمه الله، لم تعرف اليأس لم تكن السلطة في نظر الشيخ زايد، رحمه الله، مصلحة شخصية أو مكسباً دعائياً كما اعتاده رؤساء وقادة في العالم، بل يمكن القول إنه كان زاهداً في المسميات والمناصب لأنه نذر نفسه وجهده وعطاءه لهدف واحد هو الإمارات وشعبها، وما مقعد الرئاسة بالنسبة إليه إلا موقع لتحقيق المصلحة العامة للوطن والمواطن تحت أي ظرف حتى في ذلك الوقت الذي شعر فيه أن هناك عثرات في طريقه لتحقيق الاستراتيجية الوطنية التي وضعها نصب عينيه لرفعة الإمارات ومتابعة تقدمها. من هنا طفت على السطح فكرته بالتنحي عن سدة القيادة مع بقائه في موقع الدعم والعطاء للقيادة القادمة لأحد إخوانه من أعضاء المجلس الأعلى. وقد جاء هذا الإعلان الذي كان صادماً لأماني أبناء شعب الإمارات وتطلعاتهم وباعثاً على الإحباط في نفوس إخوانه أعضاء المجلس الأعلى حكام الإمارات في تصريحين صحفيين عام 1976 كان أولهما في البحرين بينما جاء التطرق إلى هذه الأمر في المرة الثانية في مؤتمر صحفي في الصومال يوم 7 أغسطس في زيارة رسمية، وهو في طريقه لحضور قمة عدم الانحياز في كولومبو أوضح فيه الأسباب التي دعته إلى التفكير باتخاذ مثل هذه الخطوة مع إمكان رجوعه عنها إذا توفرت الظروف. ( لقد انتهت المدة التي توليت فيها رئاسة الدولة وهي خمس سنوات، والتي أخذت فيها على عاتقي أن أقدم كل ما يمكنني من أجل الأبناء والإخوان، ولا يجوز أن آخذ أكثر مما قطعته على نفسي وتحملته أمام وطني وشعبي. والشيء الثاني هو أنني قبلت القيادة وتحملت أعباء الرئاسة في الوقت الذي كانت فيه الإمارات مبعثرة، وكانت تعاني من تخلف شديد. في هذا الوقت واجهت مسؤولياتي وبدأت العمل في الداخل والخارج بكل ما أملك من وقت وقوة وطاقة، وكان جهدنا في الخارج لا يقل عن جهدنا في الداخل. في بلدنا وإماراتنا كنا نعمل ليل نهار من أجل إسعاد شعبنا الذي عانى طويلا، وكانت اتصالاتنا مع إخواننا العرب والدول الصديقة من أجل بناء علاقات قوية وطيبة، وكل هذه الإنجازات واضحة ويلمسها الجميع، ويعلم الله كيف كنت أسهر بنفسي على كل عمل نريد إنجازه في دولة الإمارات، حتى اتصالاتنا الخارجية كنت أتابعها وأسهر عليها لإيماني بأنها لصالح دولتنا). هذا هو الواقع الوطني الذي حققه الشيخ زايد، طيب الله ثراه ، وكان من حقه أن يحافظ عليه ويحميه من كل ما يمكن أن يمس به من قريب أو من بعيد حتى لو أدى به هذا الإصرار إلى التنحي الفعلي عن السلطة بهدف أن تدرك كل الأطراف المعنية أنه في سلطته من أجل ترسيخ هذا الواقع الحي الذي تعيشه الإمارات بل وتطويره نحو الأفضل .ونظراً لأنه، رحمه الله، كانت له بعض الملاحظات والاعتراض على بعض الجهات مما رأى فيها عقبات على طريق دفع المسيرة بشكل أقوى فقد كرر موقفه مع بقائه في موقع دعم ومؤازرة القيادة القادمة. وفي هذا السياق يقول : ( أما إذا طلب مني إخواني الحكام وأبناء الشعب أن أستمر وأواصل تحمل أعباء ومسؤوليات القيادة هنا سأحتاج إلى أشياء عرفت أبعادها أثناء الممارسة وأصبحت أعرف مشاكلها ). وهنا تجلى ارتباط الشعب بزعيمه التاريخي الشيخ زايد، رحمه الله، وتمسكه بالبعد الاستراتيجي لفكره من خلال المسيرات الشعبية التي شهدتها مدن الإمارات لأول مرة، وهي تعلن إصرار أبناء شعب الإمارات على استمرار المغفور له الشيخ زايد والداً ورئيساً للاتحاد ورفضهم المطلق لقراره بالتنحي، مما يعكس زوال كافة العقبات أمام متابعته، رحمه الله، مسيرة تعزيز بناء دولة عصرية أخذت موقعها في المجتمع الدولي. سمة الإصرار في النظرة الاستراتيجية عرف الشيخ زايد، رحمه الله، بهدوئه وابتسامته ودقته في اختيار مفردات حديثه في أي موضوع على الرغم أنه قد يكون في ذهنه أمور وقضايا بل ومشاكل، إلا أنه وبكل حنكة واقتدار يصل إلى ما يريد بفضل ما تميز به من وضوح وإيمان بما يعتقد وجرأة في التعبير عما في فكره وقلبه وهذا حدث سريع عشته وشاهدته بكل اعتزاز . فقد كان هناك عشاء إعلامي في قصر البحر في أوائل نوفمبر 1975 بتشريف الحضور بوجود الشيخ زايد، رحمه الله، ومع إحساسنا جميعاً بما كان يدور في ذهنه في ذلك الوقت حول سبل تعزيز صلاحياته لدعم مسيرة الاتحاد إلا أنه كان على عادته وطبيعته الباسمة المتألقة، ولدى مغادرتنا أجاب، رحمه الله، على استفسار أحد الزملاء بكلمات قليلة لكنها تضمنت دلالات عميقة قال فيها: ( كنت أتمنى أن أرى الإمارات ذائبة ذوبان ...وليست كيانات مستقلة ) وفي الليلة ذاتها وصلت هذه الكلمات إلى مسامع صاحب السمو الشيخ سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة عن طريق إعلامي صديق هو مؤسس ومدير إذاعة الشارقة الذي حضر العشاء الإعلامي. وفي اليوم التالي توجه إلى الشارقة مدعوا لحضور افتتاح المقر الجديد للشرطة الشيخ مبارك بن محمد آل نهيان (رحمه الله) وكان وزيراً للداخلية، وبعد الحفل وفي جلسة خاصة أوضح الشيخ مبارك، رحمه الله، في سياق الحديث أنه هنا مثل أي مدعو آخر ، وليس بالصفة الرسمية لأن شرطة الشارقة لا تتبع وزارة الداخلية الاتحادية، كما هو حال باقي الدوائر ليس في الشارقة وحدها، وإنما في جميع الإمارات، وهو ما يترك انطباعاً سلبياً في نفس الوالد، زايد رحمه الله. وقد عاد الشيخ مبارك، رحمه الله، إلى أبوظبي وانضم إلى مجلس الشيخ زايد بعد العصر وحدثه عن زيارته إلى الشارقة، وأثناء فترة المجلس فوجئنا هنا في أبوظبي بخطاب لصاحب السمو حاكم الشارقة عبر إذاعتها يعلن فيه ضم جميع دوائر الشارقة المحلية إلى الوزارات الاتحادية، ووسط مسيرة شعبية حاشدة أنزل سموه علم إمارة الشارقة ليبقى خفاقاً علم دولة الإمارات العربية المتحدة، وكان المغفور له الشيخ زايد وهو يتابع هذا الحدث في أوج سعادته، وفي اليوم التالي كان لي الشرف بمرافقة الشيخ زايد، رحمه الله، مع مصور من التلفزيون في رحلة إلى الشارقة بطائرة هيليكوبتر انطلقت من قصر البحر رافقه فيها الشيخ مبارك بن محمد، رحمه الله، ومعالي أحمد خليفة السويدي، وعلي الشرفاء حيث كان في الاستقبال صاحب السمو حاكم الشارقة، وبعد جلسة قصيرة توجه الموكب إلى إذاعة الشارقة حيث تولى صاحب السمو الشيخ سلطان بن محمد القاسمي الإجابة على أسئلة الصحفيين حول أبعاد وتبعات هذه المبادرة الكريمة التي نفذها، وهنا تعود بي الذاكرة إلى ما قاله الشيخ زايد، رحمه الله، وهو يغادر الإذاعة حين سأله أحد الزملاء عن انطباعه بنفس الكلمات القليلة ذات الدلالة البعيدة : (أتمنى أن تحذو الإمارات الأخرى حذو الشارقة)، وفي الخامس عشر من نوفمبر التقى المجلس الأعلى للاتحاد حكام الإمارات في أبوظبي ليعلنوا جميعهم إبقاء علم الإمارات وحده خفاقاً في سماء الإمارات. وتتكرر الأمثلة العديدة على عمق النظرة الاستراتيجية للشيخ زايد، رحمه الله، في كثير من الأحداث التي سبقت أو تلك التي تبعتها، ومنها على سبيل الذكر وليس الحصر ثبات رؤيته، وبالتالي موقفه في حرب تحرير الكويت ورفضه للحرب بين العراق وإيران إلى جانب رفضه حصار العراق اقتصادياِ، وسعيه الدائم لتنقية الأجواء العربية والوقفة الدائمة مع قضية الشعب الفلسطيني سعياِ لاستعادة حقوقه المغتصبة، ورؤية العطاء بغير حدود للشقيق والصديق في أرجاء المعمورة. وإذا كانت النظرة الاستراتيجية للشيخ زايد، رحمه الله، تهتم دائما باحتمالات المستقبل فإنها لا تهمل تقييم إنجازات الماضي بحيث يمكن التخلص من السلبيات السابقة والإفادة من الدروس الماضية بهدف زيادة سرعة البناء ومضاعفة حجم الإنتاج، ويقول الشيخ زايد مخاطباً أعضاء المجلس الوطني الاتحادي في افتتاح الدور العادي الأول من الفصل التشريعي السادس يوم 14 يناير عام 1984 : ( إننا نحصد اليوم ثمار ما زرعناه بالأمس، إذ يرى كل مواطن رأي العين ما تحقق من إنجازات كبيرة وسريعة في ربوع البلاد، وعلى الأخص في مجالات التربية والتعليم والخدمات الصحية وشبكات الطرق المرصوفة والكهرباء والماء والإسكان والتشييد والزراعة والرعاية الاجتماعية والثقافة وغيرها من سائر الخدمات والمشروعات التي تسهم إلى حد كبير في تحسين ظروف المعيشة وتوفير الحياة الأفضل لجميع المواطنين، وإن ذلك كله يطلب منا جميعا أن نحمد الله على نعمائه وأن نبذل قصارى جهدنا للمحافظة على ما حققناه من إنجازات، ومواصلة العمل بجد وإخلاص ودون تبذير أو تفريط، حتى يستمر العطاء ويتحقق الرجاء في بناء مجتمع فاضل وكريم ترفرف عليه رايات الحرية والأمن والاستقرار ).  
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©